لا سلام عالمي من دون سلامي ديني، ولا سلام ديني من دون حوار

لا سلام عالمي من دون سلامي ديني، ولا سلام ديني من دون حوار

زيارة البطريرك الراعي إلى مصر، اليوم الثاني

مصر، الاثنين 19 مارس 2012 (ZENIT.org).

استهل البطريرك مار بشارة بطرس الراعي اليوم الثاني من زيارته الراعوية الى مصر، الاحد ١٨ آذار ٢٠١٢، بزيارة نيافة الكردينال البطريرك انطونيوس نجيب بطريرك الاقباط الكاثوليك وقد عبرا معا عن حزنهما العميق للخسارة الكبيرة بوفاة البابا شنوده الثالث . من جهته وصف الكردينال نجيب اعمال البابا شنوده بالعظيمة ومواقفه بالجميلة في كل الظروف، والتي أثّرت في المسيرة المسيحية في هذا البلد، وفي ارساء سبل التعاون والتفاهم مع غير المسيحيين. وامل بطريرك الاقباط الكاثوليك في تحقيق التغيير اللازم الذي اطلقته الثورة وان ينعكس ايجابياً على المسيحيين كمواطنين في بلدانهم. ونوّه الكردينال نجيب بزيارات غبطته التي تنشر المحبة في كل مكان سائلاً له “من الرب البركة من أجل تحقيق رسالته العظيمة لخير الكنيسة جمعاء”.
البطريرك الراعي حيا نيافة الكردينال البطريرك نجيب متمنياً له الشفاء العاجل بعد الوعكة الصحيّة، واوضح خلال اللقاء ان التهديد اذا وجد فهو يطال كل الشعوب العربية اذا لم تسطع فعلاً ان تتجاوز الصعوبات والآلام للعبور الى عالم الديمقراطية وكرامة الشخص البشري وحقوق الانسان والحريات، وقال: “نحن اليوم في القرن الواحد والعشرين زمن العولمة، واذا لم يعبر العالم العربي بعد كل الضحايا التي سقطت الى عالم جديد، فيكون الكلام عن تهديد ليس فقط للمسيحيين انما للعرب ككل، لاننا معاً مسلمين ومسيحيين صغنا هويتنا واوطاننا. ونحن كمسيحيين موجودون في هذا الشرق منذ الفي سنة وقد طبعناه بثقافتنا وقيمنا، ونحن منفتحون على كل الانظمة التي تصل ديمقراطياً الى الحكم، فالكنيسة لا ترفض ولا توالي وليست هي من يعيّن الانظمة، انما هي تتعاون مع كل الانظمة على اساس المبادئ، وفي طليعتها كرامة الشخص البشري، حقوق الانسان،الحريات العامة والديمقراطية، فاذا تأمنت هذه المبادئ تحافظ على المسلم والمسيحي في ارضه واذا لم تتأمن فكلاهما يغادر. اما اذا غادر المسيحي أكثر من غيره فتكون خسارة كبيرة لكل المجتمعات، وهذا ما نتمنى الا نصل اليه. وشدد غبطته على الدور الاساسي لرؤساء الطوائف في تقريب وجهات النظر بين الاطراف السياسية معتبراً انه من الضروري ان يلتقوا جميعاً كي يعلنوا معاً المبادئ التي تجمعهم سوية.
وبمناسبة الزيارة التقى غبطته جمهور راهبات قلب يسوع المرسلات المصريات وفي مقدمته الرئيسة العامة وقد تمنى لجمعيتهن الموجودة ايضاً في فالوغا – لبنان النمو والازدهار خاصة على مشارف الاحتفال باليوبيل المئوي الاول لتأسيسها.
وبعد الظهر ترأس البطريرك الراعي، وكما في كل زيارة راعوية، سلسلة لقاءات لفاعليات الابرشية ولمجلسها الراعوي ولجمعية المساعي الخيرية في دار المطرانية في الظاهر.
ومساء احتفل غبطته بعيد القديس يوسف في كاتدرائية مار يوسف في القاهرة بحضور السفير البابوي المطران مايكل فيتسجرالد والسفير اللبناني خالد زياده واركان السفارة وممثلين عن كافة الكنائس في مصر. استُهل القداس بكلمة لراعي ابرشية مصر والسودان المطران فرنسوا عيد الذي عرض بلمحة تاريخية زيارات ثلاثة بطاركة موارنة لمصر، هم: البطريرك جرجس عميرة عام 1638، البطريرك انطون عريضة عام 1938 والبطريرك نصر لله صفير عام 1992…
وأضاف سيادته عن قدوم الموارنة الى مصر واقامتهم فيها: “في مصر وجدوا بلداً مضيافاً عاشوا فيه زمناً مكرّمين ، كأنهم بين اهلهم ،ومبدعين بالعلم والثقافة والصحافة والفنون والعمل السياسي، فاغتنوا واغنوا وتركوا صفحاتٍ مضيئةً في تاريخ هذا البلد الحبيب والمضياف .أما اليوم فالاوضاع تغّيرت كثيراً يا صاحب الغبطة. فضآلة العدد تنذر بجفاف الابداع. ورغم ذلك اريد ان اشهد أمامكم ، وقد أصبحنا كسائر الكنائس المشرقية قطيعاً صغيراً، أننا متمسكون بالرجاء الذي لا يخيّب، وأننا نكمل رسالتنا من خلال وجودنا الفاعل في ميدان الروح والتربية والخدمات ،مشاركين بتجسد ابن الله في هذه الارض المشرقية المباركة”. وتابع المطران عيد: ” صاحب الغبطة، لا اريد أن أسرد على الحاضرين سيرة غبطتك الذاتية المليئة: بما اكتنزته نفسُك من بركات الروح في الرهبانية والكنيسة، وبما اغتنى به عقلك من علم ومعرفة وحكمة وشهادات جامعية.وبما قمت به وتقوم من نشاطات ومهام في الادارة والتعليم الجامعي في 3 جامعات كاثوليكية؛ هذا بالاضافة إلى انك مؤسس جامعة سيدة اللويزةNDU أول جامعة كاثوليكية اميركية اللغة والمنهج في الشرق. كما وبما تبذله من جُهد في نشر كلمة الحياة منذ اكثر من اربعة عقود دون كلل كأنك تؤكد وتردد مع بولس: الويل لي إن لم أبشر ! وبما مارسته حتى الامس القريب في توزيع العدالة، والاشراف على المحاكم الكنسية بكل درجاتها، وبما كرسته من جهد ووقت وعمل بالمشاركة في لجانِ ودوائر الكنيسة الرومانية والبطريركية والاسقفية. وبما قدمته لابناء الكنيسة من منشورات : 14 رسالة في سلسلة حضارة المحبة و5 أجزاء حول التنشئة المسيحية وحوالي 1100 حلقة تلفزيونية بعنوان “بشرى الراعي”، وكتابان في القانون.
صاحب الغبطة، نحن نعلم أنك لاتنام كثيراً، كأني بك تشعر أن الحصاد كثير والفعلة قليلون وأنك تريد حياة مليئة بعطايا الله لا بالسنوات فقط .
بهذا تذكرنا بمسيرة الطوباوي الراحل البابا يوحنا بولس الثاني الذي جال العالم مبشراً بالاخّوة الانسانية، زارعاً المصالحة والتفاهم والمحبة، داعياً إلى الوحدة والعدالة والسلام.
لا شك أن صليبك كبير وثقيل بثقل المشكلات والمخاطر التي يعيشها أبناؤك واخوتك في لبنان والعالم وخاصة في هذا المشرق المضطرب.
انت راع ورأٌسٌ لكنيستنا، والكنيسة، كما يقول القديس اغوسطينس “تسير بين اضطرابات هذا العالم وتعزيات الله”.
نعرفك رجل تصميم وإرادة ورؤية وقرار. تدرس وتخطط وتُقدم . لا تتردد أمام صعوبة، ولا تحجم أمام حقيقة، لا تتخاذل ولا تنكفئ، تحسم ما هو عالق ولا يوقفك عائق. نعرفك عميقاً في بساطتك، صلباً في ليونتك وصاخباً في هدوئك”!
وختم المطران فرنسوا عيد: “اعذرنا صاحب الغبطة، إذا لم يستطع البعض ان يفهمك دوماً في بعض مواقفك. فعسى أن يكشف الزمن الآتي عن وجهك النبوي الذي ارسله الله، في هذه الايام، إلى كنيستنا المارونية خميراً يخمّر عجينها، فتقرأ علامات الازمنة على هدي الروح، ليقودها إلى الحرية، لأنه “حيث يكون روح الرب تكون الحّرية” (2قور 3/17).
بعد الانجيل المقدس القى البطريرك الراعي عظة تحت عنوان “لما قام يوسف من النوم، صنع كما امره الرب”(متى 24:1) متحدّث عن القديس يوسف الذي “اصبح بقوة الايمان مثل مريم، مؤتمناً على السرّ الالهي المكتوم منذ الدهور، وشريكاً مثلها في تحقيق تصميم الله الخلاصي، الذي هو سرّ تجسّد ابن الله وفداء البشر. وبهذا أصبح يوسف ومريم المؤمنان والزوجان مثالاً لكل مؤمن ومؤمنة، ولكل زوج وزوجة.
وجدّد غبطته التعازي باسم الكنيسة المارونية ومجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان بوفاة البابا شنوده الثالث. وصلى من اجل السلام والاستقرار في مصر كي تعبر الى مرحلة جديدة من حياتها، تستعيد فيها جمال هويتها ورسالتها الحضارية، وتكمّل دورها التاريخي الكبير في العالم العربي وفي الاسرة الدولية، وهي تنعم بالسلام العادل والشامل وبالاستقرار وطيب العيش الكريم. وواضاف غبطته : “من دواعي الزيارة ايضاً، شدّ روابط الاخوّة والتعاون مع الكنائس الشقيقة “بروح الشركة والشهادة” التي تدعونا اليها جمعية سينودس الاساقفة الخاصة بالشرق الاوسط، التي دعا اليها قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، وانعقدت في روما من 10 الى 24 تشرين الأول / اوكتوبر 2010، ونحن ننتظر ان يُصدر قداسة البابا الارشاد الرسولي في اعقابها”.
بعد القداس اقيم استقبال في باحة الكاتدرائية صافح خلاله صاحب الغبطة المؤمنين جميعاً، اعقب ذلك حفل عشاء اقامه راعي الابرشية على شرف غبطته بحضور شخصيات روحية ودبلوماسية واجتماعية. والقى سيادته كلمة ترحيب قال فيها:
” نستقبلك الليلة في بيتك يا صاحب الغبطة ونستذكر مناسبات ثلاثاً:
1- مثل هذه الليلة منذ خمس سنوات ، دشّنا الكاتدرائية المرمّمة في عيد شفيعها القديس يوسف وأعدنا إليها بهاءها. وهنا اشكر من عمل وضحى وقَدم من وقته وماله فالرب يكافئ تضحياتهم.
2- وفي هذا اليوم، نذكر ميلاد صاحب الغبطة البطريرك الانبا انطونيوس نجيب. فلاجله نصلي ليهبه الرب وافر الصحة والعافية والعمر المديد لخدمة كنيسة مصر.
3- واليوم في الثامن عشر من مارس / آذار،عدا أننا على مشارف الربيع،نحن بين الفرحتين:
– فرحة انتخابكم يا صاحب الغبطة بطريركاً على كنيستنا المارونية في الخامس عشرمن آذار/مارس 2011.
– وفرحة تنصيبكم (تجليسكم) في عيد بشارة العذراء في 25 مارس من السنة نفسها. إنها الذكرى السنوية الاولى لكم في السّدة البطريركية. فإلى سنين عديدة يا سيدنا !
لقد أوليتموني شرفاً بمرافقتكم لي إلى مصر،مع بعض اصحاب السيادة، لتسلم الابرشية في فبراير 2006 ومنذ ذاك أستذكر كل يوم ثلاثاً أشكر الله عليها.
أولها: ما أورثني الرب من إرث تاريخي وروحي مجيد، صنعه أسلافي من اساقفة صالحين ،وكهنة،وعلمانيون كبار واخوة لنا تألقوا في كل الميادين. فبنوا وأسسوا وخدموا وأبدعوا وكتبوا ، فزينوا كنيستهم ومجتمعهم بما قدموه من عطايا الفكر والروح.
لقد كانوا رعيلاً ثبّت الله في قلوبهم الوفاء وزيّن نفوسهم بالحب والخدمة.
لقد كانوا كالانبياء همّهم حب تقديس الخدمتين: الله والانسان ! لقد وضع الله في قلوبهم هوس الترقي فانطبعت وجوههم بنصاعة حب وجهدٍ وتقديس وهمةٍ ورؤية وسخاء.هؤلاء الموارنة الأوائل، لم يقيموا لأنفسهم مجداً عابراً، بل ظلوَا قبضةً من الصالحين يعرفون كيف يجودوا ليبنوا الكنائس والمدارس والمؤسسات الخيّرية ، لا ليرثوا الارض بل ليرثوا السماء. فحياة هؤلاء الصالحين لم تُعّدَ مجداً عابراً في زمن العابرات، بل حياتهم كانت لمسة حنان إلهية!
وثانيها : اشكر الله على ما وهبني أيضاً من ارثٍ روحي سخي قدمّه اخوتنا الرهبان المريميون منذ العالم 1745. فلقد اسسوا في مصر والسودان عشرة مراكز خدموها بالحب والتضحية حتى الاستشهاد. وقد مات منهم أكثر من 68 راهباً بعز الشباب ، بسبب الامراض المختلفة كالطاعون والهواء الاصفر والسل وغيرها. وبعضهم عاش الشقاء وحتى الضرب والسجن.
واليوم، كثيراً ما أتساءل : هل نستحق تضحيات من سبقنا من هؤلاء الشهود؟ أم نسيناها كأنها لم تكن ؟! أتمنى ألاَ يكون هذا نسياناً لئلا يصبح استقالة من خدمة الروح وتوزيع كلمة الخلاص.
لكنَي مؤمن بأن نفساً واحدة تستحق عطية حياتنا طالما استحقت عطية دم ابن الله لاجلها. ونحن كهنة المسيح همنا الاول والاخيرهو خدمة النفوس ونشر كلمة الحياة.
وثالثها: اصرارك القلق يا سيدنا على التلاقي والحوار. في الفيلم Copying Beethoven عن حياة الموسيقي الالماني العبقري بيتهوﭬن، يقف هذا المارد الاصَم كلياً على المنَّصة قبل أن يبدأ قيادة الاوركسترا في سمفونيته التاسعة الخالدة ، فيغمض عينيه لبرهة ويتمتم: “منذ الآن ستتغيّر الموسيقى إلى الابد” !!
منذ ساعة إعلانك بطريركاً على الكنيسة المارونية تذكرت كلمة بيتهوﭬن وادركت أنك ستغير نمط واسلوب ادارة كنيستنا المارونية. فاصرارك هذا نابع من شعارك : شركة ومحبة. وقد بدأت بتطبيقه بقرارات عملية وحاسمة تشهد على ذلك. والأهم ، اصرارك على إقامة الحوار داخل كنيسة المسيح ومع كل انسان، وخاصة في هذه المرحلة المصيرية من تاريخ الشرق لانك تدرك تماماً خَطورة التداعيات الآتية ، وأنك تدرك اكثر، أهمية الحوار بين الديانات، فكأنك تلتقي مع الاهوتي هانس كونغ الذي زار لبنان عام 1967 ، قبل الحرب ، بدعوة من الدكتور شارل مالك ،وحاضر في الجامعة الاميركية في بيروت عن حوار الاديان والحضارات وقّدم آنذاك مشروعاً نبوياً ألخصه بثلاث نقاط :
اولاً : لا استمرارية دون اخلاق عالمية، تذهب إلى أبعد من الخير والشر، لتؤسس لديمقراطية تقوم على توافق اساسي ومسؤولية كونية مشتركة تجاه الانسان والحياة البيئية وأجيال المستقبل.
ثانياً: لا سلام عالمياً من دون سلام ديني. فحروب الآلهة أبدية بأبديتهم. والاديان قامت لتعيد الانسان إلى الله وتقربّه من اخوته في الانسانية، لا لتكون متاريس حروب وانقسامات.
ثالثاً: لا سلام دينياً من دون حوار بين الديانات، يؤسس ، ليس فقط لهدنة بينها، بل لتعاون مثمر وتحالف بين المؤمنين وغير المؤمنين ،حول قيمة واحدة هي الانسان !
فإصرارك يا سيدنا يعيد الانسان إلى ربّه وذاته الحقة ولاخوته في الانسانيِة. إذ ذاك ينظر الرب إلى خلقه ، كما فعل في بداية سفر التكوين، فيرى كل شيء جميلاً.
ونحن بدورنا، نرافقك يا صاحب الغبطة، بالمحبة وخير الدعاء.
ثم ردّ البطريرك الراعي بكلمة شكر للمطران عيد ولكل ابناء الابرشية وخاصة من حضّر الزيارة من اكليروس وعلمانيين. وقال غبطته : ” نحن شجرة يسوع المسيح، ولهذه الشجرة اغصان تصل الى كل العالم. والكنيسة تحمل رسالتها الحضارية في هذا الشرق لتزرع اخوّة الشعوب والسلام وقبول الآخر ونقل الحداثة والحريات العامة”. وتمنى غبطته لمصر ان تعود “ام الدنيا” ولكل الدول العربية ان تعبر الى وحدتها فتتكاتف أكثر وتزلّل كل العقبات فيما بينها لتعود الاسرة العربية للعب دورها المطلوب منها. وختم غبطته: علينا بمثلنا ووحدتنا ان نؤدي الرسالة ونكون في مجتمعاتنا كالخمير في العجين