لنحكّم عقولنا في السيرة والمسيرة

لنحكّم عقولنا في السيرة والمسيرة

المونسنيور بيوس قاشا

في البدء

أُهنئ قرّائي الكرام بقيامة المسيح الحي من بين الأموات، ذاك الذي أحبنا حتى الموت، فقد بُعِثَ حياً، فهو يحيا فينا… إنه رسالة وحياة… وكل عام وجميعنا رسل الخير والسلام والبشرى والخبر السار ودمتم.

نعم، تحدياتٌ عديدة تواجه المسيحيين في بقاع الشرق الأدنى والشرق الأوسط، كما أخذ الإرهابيون بقتل المسيحيين وتكفيرهم وطردهم من قراهم ومدنهم وهدم حضارتهم وإنزال صلبان كنائسهم وكسرها ورميها وإجبارهم على دفع الجزية وبيع ممتلكاتهم أو الإستيلاء عليها باسم ممتلكات الغزوات من غنائم حروب وقتال، كما قامت بعض التيارات الأصولية بنهب وسلب عقارات المسيحيين الأبرياء والذين لم يرتكبوا خطيئة بحق شعوبهم سوى أنهم أمناء لإيمانهم وأوفياء لأوطانهم، وأجبرتهم القوة وأصوات الوعيد والتهديد بأن يهاجروا ويتركوا بلدانهم فيكونوا ضحايا التعصب الأعمى، وهذا أخذ يمتد في مساحات هذا الشرق، وفي أوطان مختلفة، كما أخذت التيارات المنغلقة تمتد جذورها في أسس الحياة اليومية وإجبار الضحايا أن يكونوا مطيعين خنوعين وإلا بقاؤهم فناء، والسيف هو فانيهم… وهذا ما يجعلني أنشد أنّ الأديان لا تحمل إلا دعوة إلى التسامح والغفران، كما تدعو إلى الخير والعدالة والأخوّة ومحبة الإنسان “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” (الحجرات؛ 13) وهذا ما يتطلب من المؤمنين بشريعة قبول الآخر بالتسامح. فالتسامح رسالة تعترف بوجود الآخر وبالغير، المختلف، فرداً كان أم جماعة، كما يعترف بشرعية ما لهذا الغير من وجهة نظر ذاتية في الإعتقاد بكل حرية، فلا إكراه في الدين، وما الدين إلا علاقة الإنسان مع خالقه، ثم مع مَن في دنياه، من أجل تنمية وتعزيز المساحات الإنسانية المشتركة بين البشر أجمعين، وكأخوة في رحاب الله الواسعة.

وأمام هذه التحديات يقف المسيح الحي مناشداً البشرية بأهلها بعيش المحبة عبر مسيرة الحياة من أجل الإنسان في حقيقة الرحمة والغفران والكلمة… وفي هذا يوصي قداسة البابا فرنسيس في مرسومه “يوبيل الرحمة” _ الذي فيه تلتزم الكنيسة _ بكرازة جديدة، وفيه يدعو الجميع ويدعوكم إلى طريق العودة في التوبة نحو الآب الذي أحبّنا، لذلك لنعرف ونفهم بعضنا بعضاً بشكل أفضل، ولنترك كل شكل من أشكال الإنغلاق والإزدراء، ولنبعد كل شكل من أشكال العنف والتمييز.

بولس وشاوول

من المؤكَّد أنكم قرأتم سيرة بولس الرسول، والرسول هذا أحد حواري السيد المسيح الذي قال عنه القرآن الكريم “فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا” (التحريم؛ 12 والأنبياء؛91)، “وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ” (البقرة؛ 87 والبقرة؛ 253 والمائدة؛ 110)… نعم، إنه المسيح الحي، وإنْ لم تكونوا قد قرأتموها فهي ذي الحكاية كما أُنزلت، وإذا ما استأنستم بمسيرة حياته، أتمنى أن يكون مَثَلَكم في السيرة والمسيرة، في الإيمان والحياة، في الشهادة والحقيقة، فبولس هذا هو نفسه الذي حمل اسم “شاوول” وكان يهودياً واشتهر بسطوته على الكنيسة وعلى مؤمنيها، وكان يدخل بيوتهم ويطرد مَن فيها ويسبيهم كما أنتم اليوم، كما كان يجرّ رجالاً ونساءً ويسلّمهم إلى السجن، وفي هذا كله كان “يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً للهِ” (يوحنا2:16)، كما يقول هو عن نفسه في شهادة أمينة (يقول):

“أَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ يَنْفُثُ تَهَدُّداً وَقَتْلاً عَلَى تَلاَمِيذِ الرَّبِّ، فَتَقَدَّمَ إِلَى رَئِيسِ الْكَهَنَةِ (الحاخام) وَطَلَبَ مِنْهُ رَسَائِلَ إِلَى دِمَشْقَ، إِلَى الْجَمَاعَاتِ، حَتَّى إِذَا وَجَدَ أُنَاساً مِنَ الطَّرِيقِ، رِجَالاً أَوْ نِسَاءً، يَسُوقُهُمْ مُوثَقِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَفِي ذَهَابِهِ حَدَثَ أَنَّهُ اقْتَرَبَ إِلَى دِمَشْقَ فَبَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلَهُ نُورٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَسَقَطَ عَلَى الأَرْضِ وَسَمِعَ صَوْتاً قَائِلاً لَهُ:”شَاوُلُ، شَاوُلُ! لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟” فَقَالَ:”مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟” فَقَالَ الرَّبُّ:”أَنَا يَسُوعُ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ”. فَقَاَلَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ وَمُتَحَيِّرٌ:”يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟” فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ:”قُمْ وَادْخُلِ الْمَدِينَةَ فَيُقَالَ لَكَ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلَ”. وَأَمَّا الرِّجَالُ الْمُسَافِرُونَ مَعَهُ فَوَقَفُوا صَامِتِينَ، يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ وَلاَ يَنْظُرُونَ أَحَداً. فَنَهَضَ شَاوُلُ عَنِ الأَرْضِ، وَكَانَ وَهُوَ مَفْتُوحُ الْعَيْنَيْنِ لاَ يُبْصِرُ أَحَداً. فَاقْتَادُوهُ بِيَدِهِ وَأَدْخَلُوهُ إِلَى دِمَشْقَ. وَكَانَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ يُبْصِرُ، إِلى أَنْ ذَهَبَ إِلى حيثُ أَرادَهُ الله، وهُناكَ وَضَعَ حَنَانِيَّا يَدَيْهِ عَلَى رَأسِهِ فَلِلْوَقْتِ وَقَعَ مِنْ عَيْنَيْهِ شَيْءٌ كَأَنَّهُ قُشُورٌ، فَأَبْصَرَ فِي الْحَالِ، وَقَامَ وَاعْتَمَدَ. وَلِلْوَقْتِ جَعَلَ يَكْرِزُ فِي الْمَجَامِعِ بِالْمَسِيحِ (أعمال الرسل 1:9-20)… وما أصدقها من مسيرة في حقيقة هدفها.

وشاهد آخر

كما يقول شاهد آخر من حواري المسيح وهو إسطيفانوس، أول شهداء المسيح الحي الذي تظطهدونه، والذي إستشهد حباً بسيده _ والتي يحلو لكم تسميتها بالنصرانية، والحقيقة ما أدراكم ماهي المسيحية وما هي النصرانية _ قال لليهود:”يا قساة الرقاب، لماذا تقاومون الحقيقة”، وتملئوا آذانكم صوت القنابل وطبول تدمير الحضارة، وفي ذلك جعلتم من إنسانيتكم الملوَّثة بالدماء حقيقة مزيَّفة، ورذيلة واضحة في قتل الأبرياء وتكفير المؤمنين الأتقياء، وحرقتم كتب الثقافة والإيمان بالله والعليّ القدير، وجعلتم من سيرتكم إجراماً وإرهاباً وخطيئةً وسواداً، واقتفيتم ما شئتم، ومكرتم وسع أفكاركم ولكن كان “اللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ” (آل عمران؛ 54).

صراخ وأمهات

لا أعلم هل أنتم ملائكة لأبالسة الشرّ أم أبالسة لملائكة الجحيم؟… هل أتيتم من أرضٍ ملأتكم حقداً وشرّاً أم أنتم تجسيد لأفكار صُنعت في مقرّ الجحيم وفي سواد الظلام؟… فلا ترتوي أفواهكم إلا من دماء الأبرياء، نعم من دماء الأبرياء، ولا تشبع بطونكم الجوفاء إلا من أشلاّء ملائكة الجنة، الصغار والرضّع والصبيان، ولا تمتلئ آذانكم إلا من صراخ الأمّهات التقيّات على المغدورين من فلذّات أكبادهم وأنين جرحاهم وفقدان أحبّتهم، ولم تُشبِعوا شهواتكم إلا بسبي البريئات من المختلف عنكم لأنهن أَطهر منكم، وفي ذلك ما أنتم إلا مخالب للشيطان الرجيم بسواد اللباس المميت، وله أنتم صاغرون،”إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ” (البقرة؛ 115).

المسيح حيّ

بإمكانكم أن تتصفّحوا بشارة الإنجيل للمسيح الحي حيث”يُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ” (آل عمران؛ 48)، فهو الذي قال:”أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” (آل عمران؛ 49)، أو أن تقرأوا بعض آيات من إصحاحاته، سترون أنه يقودكم إلى حقيقة الحياة “إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ” (البقرة؛ 119) “فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَرَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ” (هود؛ 57)، فهو يرسم لكم مخططاً لمسيرة السلام والتوبة والحقيقة والدفاع عن الله، إنه الرحمن الرحيم.”فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ فستجدوا اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً” (النساء؛ 64)، وإذا ما اعتبرتموه كتاب الكفّار والنصارى فأنتم “فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ” (الأنعام؛ 74). نعم، ولا تكونوا من الظالمين كي لا تكونوا “فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ” (مريم؛ 38)، فقد قال القرآن الكريم أيضاً:”قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ” (القصص؛ 85)، نعم “لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ” (الشعراء؛ 97 والأنبياء؛ 54).

فإنه _ أي المسيح _ هو كلمة الله “إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ” (آل عمران؛ 45)، و”هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا” (لوقا 35:9)، وقد أعادها مرتين وفي حدَثَيْن هامَّيْن من مسيرة الخلاص والفداء والتي أعلنها المسيح الحي داعياً إياكم إلى محبته تعالى والإعتراف بخطاياكم كي تُدركوا ما أعظم حب الله، فقد قال:”لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ” (يوحنا 13:15)، فالله دعانا جميعاً أحبّاء وليس عبيداً، “لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيداً،لأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ، لكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي” (يوحنا 15:15) وهذه هي الحقيقة “إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ” (آل عمران؛ 37)، “إِنَّهُ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” (البقرة؛١٢٧).

سلاح وحوار

نعم، أنتم أقوياء بسلاح القتل وتتوعدون ولكن الحقيقة أنتم أضعف خلق الله، لأن القوة ليست بسلاح الغرب ومصانعه وفتاوى الشرق ورجاله بل بسلاح الحوار المحب. فالقوي رسالته الحوار، والكلمة الطيبة “صَدَقة”، والسلام ليس إلا، وما أراه لا تؤمنون بقضية غير تدمير الآخر المختلف وكأن الجاهلية وعصورها وثقافتها قد تجسدت فيكم، فأفرغتم في عقولكم المظلمة جهلاً وتخلّفاً، وسكنت فيكم خطيئة سادوم وعامورة، وجعلتم ورسمتم مسيرتكم وأنفسكم أنكم سفّاكي دماء النقاء لتُظهروا فساد دمائكم، وزرعتم في زوايا العالم والموت والبلدان شرّاً ودماراً وكأنكم آلهة لأشرار القصور، فدمّرتم حضارة السماء، وأَمَتّم إنسانية النطفة، وشوّهتم صورة خالقها بأعمالكم المشينة في حرق الضحايا الأبرياء “إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ” (الكهف؛ 13)، وسكبتم غضب جهلكم وظلاميّتكم ليظهر إرث وحشيّتكم وعلم أصولكم، وأظهرتم ما أنتم إلا “ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ” (متى 15:7) لتعيدوا البشرية إلى عصر الغاب في حكم الظلام، وبئس مَن كان لكم دليلاً ومرشداً، “وكان الله خير الراشدين وهو “عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” (آل عمران؛ 165).

جنة ونون

ما أجمل البشارة بجنّة الله وبالسماء السابعة، ومن الواجب علينا كلنا أن نحمل هذه البشارة إلى الخلق أجمعين، ولكن الحقيقة أنكم جعلتم منها جنّة لأوهامكم وأحلامكم وسباياكم وحورياتكم، فرسمتم أسطورة العبث بخلق الله، وكتبتم مسيرة الإغتصاب نهج أفكاركم، فبعتم ما شئتم من جنّتكم إلى عبيدكم، فهل الجنة الموعودة قد سَلَّمت إليكم مقاليد مفاتيحها أم أنتم سرقتم ذهب الملأ لتصوغوا لكم مفاتيح الشر، فتتقاسموا بأجواء السماء وتزرعوا الشرّ والكراهية في طيّات الأرض، فأنتم عبيد جنّاتكم، ونحن أحباء سيدنا، وأصبحتم _ وما ملكتم _ قبوراً وأنتم لا زلتم تدبّون البسيطة بهواكم ورذيلتكم… أهذه هي بشارتكم؟. “فاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ” (هود؛ 52)، و”تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ” (هود؛ الآية 61).

هل تعلمون أن السماء التي يبشر بها المسيح الحي تحوي على “مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ” (1كورنثوس9:2)؟… وهل تعلمون أن الناس فيها يوم القيامة “لأَنَّهُمْ فِي الْقِيَامَةِ لاَيُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةِ اللهِ فِي السَّمَاءِ” (متى 30:22)؟، عكس جنّتكم التي تجري من تحتها جداول الدموع وأنهار الدماء، ويقطنها أشلاّء القتلى وصراخ الأمهات إنه “مَثْوَى الظَّالِمِينَ” (سورة آل عمران؛ الآية 151)، بسبب ما ذبحت سيوفكم وسواطيركم وهي تشكو ربها “لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” (يوسف؛ 2)، “وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ” (النمل؛ 93).

هدّدتم روما وقداسة البابا، والبابا فرنسيس _ رسول الرحمة والمحبة _ قابلكم بالصلاة والغفران عملاً بقول المسيح الحي:”لكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ. مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَاعْرِضْ لَهُ الآخَرَ أَيْضاً، وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَكَ فَلاَ تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضاً. وَكُلُّ مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَخَذَ الَّذِي لَكَ فَلاَ تُطَالِبْهُ. وَكَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ هكَذَا. وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ فَضْل لَكُمْ؟” (لوقا 27:6-32).

هدّدتم وسلبتم بيوت النصارى، ورسمتم حرف (ن)، وتعني أننا خاصة المسيح الناصري، وهذا ما نفتخر به إذ قال مار بولس يوماً ونحن اليوم نرددها ونحياها “حياتي هي للمسيح” (فيليبي22:1)، وجعلناها علامة وكلمة إيمان وخلاص وقوة لنا “فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ” (1كورنثوس18:1)، ومار بولس يقول:”وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ” (غلاطية 14:6)، وأيضاً “لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئاً بَيْنَكُمْ إلاَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوباً” (1كورنثوس2:2). فالصليب الذي كان جهالة عند اليهود والأمم أصبح عندنا علامة خلاص وفداء، وحملناه على صدورنا، وعلّقناه في رقابنا، ووضعناه في واجهات ديارنا إيماناً وشهادةً وبشارةً وما ذلك إلا حقيقة ومبين “وَاتَّقُو اللهَ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ” (الأنعام؛ 72)، “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا. إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً” (النساء؛ 58).

من المؤكد أنكم سمعتم ولا زلتم تسمعون بالمسيح الحي، صانع الأعاجيب، والقدير المرسَل من الله لخلاصكم وخلاص كل إنسان من الخطيئة، فهو روح الله وكلمته، وقيل عنه في القران الكريم:”السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً” (مريم؛ 33)، بهذا جئتُ لأشرح عنه لكم، وأروي مسيرته كما جاءت من الحواريين الأربعة الذين حملوا الحقيقة إليكم وإلى كل سكان المعمورة… إنه حَمَل إليكم البشرى السارة، وأَحَبَّ الجميع حتى الموت، وصرخ بأعلى صوته:”وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ” (يوحنا10:10)، “فتُوبُوا،لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ” (متى 2:3)، وشهد عنه يوحنا (يحيى) بن زكريا الكاهن (النبي) حينما قال:”يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ” (يوحنا 13:3)، ودعا تلاميذه (يوحنا) إلى إتّباعه بقوله أنه مشيحا الذي ننتظره، إنه الحَمَل. 

محبة وحقيقة

بهذا أدعوكم إلى اكتشاف حقيقة هذا المسيح الحي الذي تضطهدونه وتقتلون أتباعه ومؤمنيه، وتهدمون مزاراتهروي وكنائسه ومعابده وأديرته، وتدنّسون مقابرهم ومقدّساتهم، وتنعتونهم بالنون والكفّار والمشركين، والحقيقة تقول “إنهم المرجعية الأكيدة”… ألم يقل:”فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ”، وأيضاً “وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ” (الأنبياء؛ 7).

نعم، فيه تجدون الحياة وتجدونها أوفر، وإذا آمنتم تكون لكم أوفر وأوفر. فقد حمل هو محبته إليكم، وأوصى أتباعه أن يحملوها إلى كل كائن وإنسان فدعاهم أحباءَه فهل أبلغ من هذه الكلمات، وهل أسمى من هذا الفكر؟، إنه فكر سماوي يقود الإنسان إلى الحياة والخلاص من الشر والخطيئة ومن عبودية إبليس، ليكون حراً طليقاً أكيداً، وما الحقيقة إلا أن “تَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ” (يوحنا 32:8).

أليست لكم، تلكم دعوة مجانية بالذي فيه الحياة؟… هل يجوز أن تنشدوا الجنّة بقتل الأبرياء بأحزمة التفجير وسيوف النحر ومناجل الدمار؟… أليست السماء مكاناً لملائكة الله وأنتم جعلتم من أنفسكم أبالسة الجحيم، وتنادون بالحق وتتأزّرون وأنتم تذبحون شهود الحق والحقيقة؟… أبهذا تكحّلون وجوهكم وتظهرون للناس أنكم مرسَلين من رب السماء وأنتم بالحقيقة طاردو الأصلاء وزارعو العبوات ومفخِّخو الأبرياء، وتتمنطقون بأحزمة ناسفة لتُميتوا الذين خلقهم الله على صورته ومثاله؟… أهكذا تزرعون بذور ثقافة السيف وحضارة الكراهية والتفخيخ وسكب الدماء؟، فالمسيح قال:”لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ” (متى 52:26)، وقال القرآن الكريم:”وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ” (البقرة؛ 190) و”لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” (البقرة؛ 256)، وأيضاً:”وَلاتُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ” (العنكبوت؛ 46)، فهم مؤمنون ويحبّون حتى أعدائهم ولا يقاتلون أحداً.

ولكي تكونوا أمناء لمسيرتكم عليكم أن تكسروا سيوف الذبح والقتل، وأن تغسلوا أياديكم كما فعلها يوماً هيرودس لعلّ وعسى، وتلك آية “لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (البقرة؛ 183)، واعلموا أن “لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ” (البقرة؛ 104). وأن المسيحية كانت قبلكم، والحقيقة إنها لا تعرف الحقد والكراهية والعداوة، فهي لا يهمّها الشدة والضيق والإضطهاد والجوع والعُري، ولا الخطر ولا السيف ولا أية خليقة تفصلها عن الإيمان بالمسيح ومحبته واتّباعه، اذ يقول مار بولس الرسول:”مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضِيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ (النبذ أو الموت بسبب عدم قبولنا)، أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟ (التهديد بالموت بأي وسيلة؟)، وَلكِنَّنَا فِي هذِهِ جَمِيعِهَا (بالرغم من كل هذا) يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا (المسيح)، حتى إنه مات من أجلنا. فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ (في قناعة تامة) أَنَّهُ لا شَيء يَقْدِرُ أَنْ يَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا” (رومية 35:8 و37-39). وهل أسمى من هذه الرسالة أن تكون مسيرة محبة ، فتوبوا وعودوا الى ينابيع الحقيقة فالأنجيل رسالة محبة ليس إلا .

الخاتمة

نعم، إنها دعوة لنا ولكم أنْ نحكّم عقولنا من أجل بناء مجتمع تعيش فيه الإنسانية بالتسامح والمحبة والغفران، كي نبني لأجيالنا أوطاناً وعمراناً، ونزرع بذور العلم والمعرفة، في مسيرة الحياة، فأجيالُنا تنادينا، وكُتُبنا ترشدنا إلى الحقيقة، وإنسانيتنا تدلّنا على العيش والغفران، فنحمل المحبّة في مسالك الطرق، فتكون مشعلاً لنا ينير دروبنا، وملحاً لنا لتطعّم أعمالنا، حينذاك نُنشد سويةً لرب السماء، السبح والحمد للإله الذي أحبّنا، فخلقنا كي نحيا ونحمل رسالة السلام والمحبة في أزمنة الدنيا…إنها دعوة المسيح الحي وما أقدسها، إنه الرؤوف والكثير الرحمة… إنه الرحمن الرحيم… نعم ونعم وآمين.