مذكرات من العالم الأخر – الجزء الأول

مذكرات من العالم الأخر – الجزء الأول

طنين دقات غير منتظمة تعلو وتهبط وصدى صراخ وعويل أحسه قريبا منى… يلكمني احدهم في صدري بكلتا يديه، ممسكا بجهاز ينفض جسدي، افتح عينايّ لا أجدني ممددا على سرير مفروشا بالأبيض ولكنه ملطخا بلون احمر داكن لم يجف بعد…

أراهم يهرولون يمينا ويسار حول تلك الأجهزة ويحدثون بعضهم البعض بالإشارة، وأجسادهم تتصبب عرقا. وكبيرهم يعيد اللكم في صدري بتلك الأجهزة التي تنفض جسدي مرة أخرى يزداد طنين الدقات في أذني.

وبعد فترة استسلم أصحاب الرداء الأبيض، ذات البقع الحمراء، وتركوني وخرجوا، بعد أن نزعوا عنهم كمامات الأنف ولباس اليدين. خرجوا وهم يهزون رقابهم يأسا.

وبقيت وحيدا مع الجهاز الممتدة أسلاكه إلى أنحاء جسدي

ولم تمضي سوى لحظات حتى اقتحمت الحجرة، برغم كل المقاومة، سيدة شابة الحجرة ومعها عدد من الأطفال ورجل كبير السن. وأخذت تلكمني بطنين كلمات في أذني لم استطع تفسيرها. ولم استطع حتى أن أرى الوجوه بوضوح لأن شيئا كالضباب كان يمنعني عن رويتها.

حاولت وحاولت حتى استطعت لحظات أن أمعن فيها البصر والسمع: إنها هي، إنها زوجتي وأبنائي معها ووالدي وكثيرون. إن أراهم، ولكني لا أفهم لماذا يصرخون وينتحبون. أود أن احتضنهم، وأطيب خاطرهم.

أريد أن اعرف لماذا يتألمون؟ أودّ أن اكلمهم، أن اسمعهم، أن أسامرهم واضحك معهم أو حتى اغضب عليهم… ولكني لا أستطيع.

لم أكن قادراً على كل أي شيء. غريبُ، لا أستطيع موساتهم، وقد كنت دائما سندهم وراعيهم.

لماذا لا أستطيع؟

حاولت أن أحرك يدي الممددة استجابة ليد زوجتي القابضة عليها لأعطيها أي أشارة أنني أحس بها لم أتمكن وكان يدي قد انتزعت منى وتمردت وأعلنت عصيانها… لجأت إلى فمي متوسلا أن ينطق أو يتمتم أو حتى أضم شفتاي على بعضها ولكن هيهات…

حاولت أن ألجئ إلى عيني، أملى الأخير والذي بهما كنت أحب واكره أسامح وأعاتب، ولكنها لم يتحركا ولم يرمشا، ولا حتى دموعي تستطيع أن تنقذيني… إنهم اعز الأحباب، من عشت لأجلهم.

دموعي أين أنت؟

فقد كنت تنسابي سيولا وانهاراً إذا بكى احدهم أو تألم… ها هم يتألمون ويبكون أين أنت؟

لقد اشتقت إليهم، أريد أن احتضنهم، أن اقبلهم أن ابكي معهم أو أضاحكهم… أنا أريدهم أكثر مما يريدوني هم.

فجأة سكت طنين الدقات التي كنت اسمعها وسكت معها صوت الصراخ ووجدتني هائما أعلى الغرفة أراهم جميعا، بل واراني ممددا على ذلك السرير، وهم من حولي يتصارعون لاحتضاني وسط أنهار من الدموع…

وجدت ذلك الرجل ذو الرداء الأبيض والذي كان قابعا خلف الجهاز ينتزع الأسلاك من صدري ويدي بلا رحمة منه، وبلا إحساس منى، ويشير إلى آخرين بانتهاء مهمته. وأسدل على ملائه حتى راسي.

أحاول أن أقول: أيها الجسد الممدد تحرك، وانزع عنك الغطاء، افعل شيء، اعترض لا تترك الأمور هكذا، الجميع من حولك يأتون بحركات هستيريه، إلا أنت

صرخت أنا أيضا بلا صوت وابتلعت الدموع الجافة داخل حلقي.

تنبهت ماذا يحدث أراهم الآن بشكل مختلف بل أراني أنا أيضا بشكل مختلف. فلم يعد بيني وبينهم ذلك الحب بكل الأحاسيس، بل صار هناك حبا أخر، أحس أنا به، حب أجمل واسمى، حب خالي من الرغبة في الامتلاك، والاستحواذ… كأنني سلمت هذا العبء لأحد اقدر منى كثيرا، فلم يعد حبي لزوجتي لأنها زوجتي، وكذلك الأمر لأبى وأمي وأولادي وكل الأحباب، حبا لا يعنيه المأكل والمشرب، ولا يضع في الحسبان ماذا سوف يفعلون؟ ولا كيف سيعيشون؟ فكله أمور في يد صاحبه. ولم اعد اشعر بالندم أو الفرقة أو الحزن! فكل ما اشعر به هو أنني أهيم حرا طليقا، تاركا خلفي ذاك الرداء المهمل القديم…

لقد وصلت إلى أن التعب والملل من النظر إلى ذلك المشهد الحزين، ونظرت أمامي ووجدت كثيرون هائمون مثلي بلا أجساد، وبلا إشكال محددة، نرى بعضنا البغض وكأننا على موعد نسير للذهاب إلى مكان ما. وانتقلنا صامتون إلى ذلك الدرب الطويل نسعى إلى نقطة الضوء في أخره، وكل منا مشغول تماما مع روحة. تباعدت المسافات بيننا، بين مسرع ومتمهل، دون أحساس بأي زمان. فلم يعد يشغلني شيء سواي وسوى ذكريات الحياة، وكأنني أعيد مشاهدة شريط يمر بداخلي ويحكي أدق تفاصيل تلك المرحلة التي كنت فيها ارتدى ذاك الرداء. أشاهدني، وكأنني مجبر على مشاهدته بل وعلى أبداء رأى فيه وكانت تلك أصعب مرحله……..

أقصها عليكم في الجزء التالي

الأستاذ يوسف فايز اسكاروس