مزمور الحادي والعشرون: التوكُّل على الله

مزمور الحادي والعشرون: التوكُّل على الله

همسات الروح

تأمل في سفر المزامير

بقلم الأب/ بولس جرس

 من المزامير

باسم الرب نستأنف تأملاتنا في سفر المزامير وكنّا قد توقفنا مع المزمور العشرين، في هذه العشرية الثالثة التي تشكِّل وحدة بذاتها، يبدأ المرنّم في المزمور الحادي والعشرين ” التوكُّل على الرب “كنشيد شكر من أجل ما ناله من نعم، فقد قبله الرب وتوَّجه ملكًا على شعبه لأنه اتكل عليه وحده وينقل منه ليشدو بمزمور صلاة “عبد الرب البار المتألم” مؤكِّدًا أن الله سيخلِّصه من جميع شدائده، وسينصره مهما حلّ به من ظلم ومذلّة. ثم يقدِّم لنا أجمل وأشهر المزامير وأعذبها على الإطلاق وأكثرها شعبية “الرب راعي”، وإذ يتحقّق المرنِّم من قوة راعيه، يفرح بالعودة إلى بيت الرب ودخول هيكله المقدس دخولاً احتفاليًا في مزمور “دخول الرب إلى هيكله “. وكما هي عادنه دومًا عندما تضيق به الحال يلتجئ إلى مذبح الرب ليحتمي فيه طالبًا العون ورافعًا صلاة الواثقين بالتصر” الرب حمى المضطهدين “. ولا يخيّب الله ثقته، فهو نصير المضطهدين وحامي الأبرياء الرب عون الأبرياء” ومعينهم. عندئذ يسترد النبي الشجاعة فيترنم بالرب “نوري وخلاصي” وينشد لرب الأكوان حيث يظهر الرب ك”ملك الكون”، فيسود الهدوء خارجيًا وداخليًا لأن الله يشفيه ويقيمه من مرض كاد يقوده إلى الموت فهو على الدوام خلاص أصفيائه.

وهكذا يتوسّع هذا القسم في عشرة فصول

1.  التوكُّل على الربّ

2. صلاة عبد الله المتألم
3. الرب راعيّ

4. دخول الرب إلى هيكله

5.  الرب حمى المضطهدين

6. الرب عون الأبرياء

 7.  الرب نوري وخلاصي

8 .  إلى الرب أصرخ

9.  الرب ملك الكون

10. الرب خلاص أصفيائه

المزمورالحادي والعشرون

التوكُّل على الله

أولاً: تقديم المزمور:

مزمور شكر ينشده الكاهن إلى الله طالبًا أن ينصر الملك. ويحدّث الكاهنُ الملكَ باسم الله، وينبّهه إلى أنه سيجد نفسه أمام صعوبات، ولكن الله معه وهو ينصره على أعدائه فلا يفلت منهم أحد. أمّا الملك فهو إنسان مبارك من الرب، فهو من اختاره ومسحه وملأ يدَه خيرًا وألبسه بهاء ومجدًا.  

هو أيضًا مزمور ملوكي كالمزمور السابق له إذ يتمحور موضوعه حول الملك، ويشبه في هذا عشر مزامير أخرى هي: المزمورالخامس، والسادس عشر، والثالث والعشرين، والسابع والعشرين، والثاني والأربعين، والحادي والستين، والثالث والستين، والرابع والثمانين والحادي والتسعين، والأول بعد المائة. ويناسب استخدامه في أي احتفال ملوكي أو تذكار خاص بالملك.

هو كذلك من مزامير التسبيح الليتورجي (طقسي) وقد استُخِدم هذاالمزمور في العبادة الهيكلية كصلاة ليتورجية خاصة بتتويج الملك كما أنه يمثِّل صلاة للاحتفال بعودته منتصرًا. كان الكاهن – في حضرة الملك – يتلو الجزء الخاص بتقديم البركات بطريقة تعبدية (2-7) والصلاة (9-13)، بينما يردّد الشعب العددان (8، 14) كقرار (أنتيفون) مثل الآية السادسة في المزمور الستين.

  ويرى بعض الدارسين أن المزمور السابق يُنشد قبل المعركة، بينما يُعتبر هذا المزمور تسبحة حمد تُرنّم لله بعد المعركة، إثر استجابته للصلاة الواردة في المزمور السابق. وما الاختلاف بينهما سوى أن المزمور العشرون يهتم بطلب العون والنجاح في الحرب بينما يُشير المزمور الحادي والعشرون إلى الانتصارات والمواهب الإلهية الممنوحة لمسيح الرب، وقد صاغه داود الملك بروح الشكر للرب الذي وهبه النصر في معركته ضد بنى عمون في رِبَّه وكان في قمة الفرح (2 صموئيل 12: 26-31).  

كما يُعتبر هذا المزمور ذو طابع “مسياني” “كيرستولوجي” وهو أيضًا ذو طابع “ميستولوجي” أخروي. فبعدما توقَّف النظام الملكي في إسرائيل بعد القرن السادس ق.م.، صارت لغة (هذا المزمور) مُستِخْدمة للتعبير عن الرجاء في الملك الآتي، ابن داود المزمع أن يُقبل، ليملك ويحكم إلى الأبد.

ويُعلّم الترجوم وهو الصيغة الكلدانية للعهد القديم، والتلمود بأن الملك المذكور في هذا المزمور هو المسيَّا، وقد قبل هذا التفسير العاِلم الحاخام سليمان اسحق المعروف باسم راشي وهو متخصِّص في التلمود، وُلد عام 1040م، واقترح أن يُترَك هذا المزمور لحساب المسيحيين لاستخدامه برهانًا على أن يسوع الناصري هو المسيّا…

وبالرغم أن بعض أجزاء من هذا المزمور مثل العدد الرابع لا يمكن أن تنطبق حرفيًا إلاّ على المسيَّا، فلم يُقْتَبس هذا المزمور قط في العهد الجديد، وإن كان قد أُشير إليه بالتلميح مرتين في (عبرانيين 2: 9، 12: 2).

استخدم آباء الكنيسة القبطيّة والغربيّة منذ قرون هذا المزمور في طقوس الاحتفال بعيد الصعود، كذكرى لعودة ربنا إلى المجد ودوره كرئيس كهنة أعظم… تترنّم به الكنيسة شرقًا وغربًا حبًا في المسيَّا، ملك الملوك الممجَّد، ك”نشيد انتصار” الملك الذي يهب الكنيسة وكل من يؤمن به من المؤمنين المتحدين معه، شركة الأمجاد… 

كما يحث هذا المزمور على تكريس الحياة تكريسًا كاملاً لحساب الرب، في طاعة مطلقة لإرادة الله، وثقة كاملة في أمانته وتأكيدًا لدعمه في جميع المعارك التي يخوضها المؤمن المسيحي والكنيسة باسم الرب وتحت رايته. وبهذا التمهيد الدقيق يقودنا هذا المزمور إلى المزمور التالي، الثاني والعشرين، مزمور “آلام المسيح المجيدة”، ويصطحبنا إلى هناك، إلى رابية الجلجثة، ومن هنالك يدخل بنا إلى أعتاب عرش الله المجيد.

ثانيا: نص المزمور وتقسيمه:

فاتحة المزمور: الرب يتوِّج داود ملكًا (1-2):

1–         لكبير المغنين، مزمور لداود:

2-         يا رب تعزز الملك فيفرح، تخلصه فيبتهج ابتهاجًا. 

القسم الأول: صلاة شكر لله لأجل الملك الممسوح بالنعم المشمول بالبركة. (3- 7):

3-         أعطيته منية قلبه وما رفضت طلبة شفتيه.

4-         بادرته بفيض من البركات، وتاج من ذهب وضعت على رأسه.

5-         سألك الحياة فأعطيته عمرًا يطول مدى الأيام.

6-         خلّصته فعظم مجده وجلالاً وبهاءً ألقيت عليه.

7-         جعلته مباركًا إلى الأبد ليشدو فرحًا أمام وجهك.

القسم الثاني: صرخة الشعب: (8-9)

8-         الملك يتوكّل على الرب وبرحمة العلي فلا يتزعزع،

9-         يده تطول أعداءه ويمينه جميع مبغضيه،

القسم الثالث: تجديد وعد الله للملك: انتصارات جديدة ومُلك طويل. (9- 13):

10-   يجعلهم كتنور نار حين يتجلّى وجهه. الرب بغضبه يبتلعهم، والنار تأكلهم أكلأ.

11-   يبيد نسلهم من الأرض ونسلهم من بين بني البشر.

12-   عبثا يطالون الملك بسوء، ويدبرون له المكائد،

13-   لأنه يحملهم على الفرار حين يرمي وجوههم بسهامه.

خاتمة: صرخة الشعب وصلاته إلى الرب: (14)

14-   تعاليت يا رب بعزتك، ننشد ونرتل لجبروتك.

ثالثًا: تفسير المزمور:

مدخل: الرب يتوِّج ملكه بتاج على رأسه(1-2)

  1. لكبير المغنين، مزمور لداود

 سبق شرحه فيما سبق من مزامير…

  • يا رب تعزز الملك فيفرح، تخلصه فيبتهج ابتهاجًا:

 الآية الأولى من المزمور تلخّص المزمور كله، إذ هي بمثابة فعل إيمان يعلنه المرنّم أمام شعبه وقد عاد منتصرًا ليقدِّم ذبيحة الشكر والحمد والفرح للرب الذي وهبه النصر على أعداءه، دعونا نقف هنا لنتأمل إيمان هذا الرجل فكما يبدو أن تسليمه المطلق للعناية الإلهية لا يخلو من الصعاب لكنه سعيد النهايات وكأنّه يؤكّد المعنى” كثيرة هي أحزان الصديقيين ومن جميعها ينجيهم الرب”.

  •  يا رب

افتتاحية معتادة لكل صلاة سواء كانت مناجاة أو توسُّل أم شكر، وهي تعني توجُّه القلب والفكر والروح إلى الله ساكن السماء والقاطن في أعماق النفس.

  • بقوتك تعزِّز الملك فيفرح:

الله هو مصدر الخير والنصر ونبع الفرح الحقيقي الذي لا يستطيع أحد أن ينتزعه من المؤمنين به، ها نحن أخيرًا نرى الملك الحزين البائس الشاكي والمطارد، يحيا لحظة فرح عميق، فما مصدره؟ وما أسباب تحقيقه؟ لا يصدر فرح الملك عن قوة جيوشه واستقرار حكمه وثبات مملكته أو متانة تحالفاته وصلابة موقفه في وجه أعداءه … بل منبع هذا الفرح العميق هو قوة الرب التي تسانده وتدعمه.

  • وما أشد ابتهاجه بخلاصك

ها هو يتذكّر في صلاته فرحه بالنصر الذي حقّقه الرب له في جميع ما مر به من ضيقات ومتاعب، وكيف هرب من وجه أعداءه الذين حاصروه وكيف نصحه الأصدقاء بالفرار إلى الجبال كالعصفور… وها هو يرى بعيني رأسه كيف وقف الرب معه وقواه ونصره على جميع أعداءه، ورده إلى كرسيه معززًا مكرّمًا منتصرًا، وخلّصه من جميع مضايقيه… فكيف لا يفرح ويبتهج!  كم هو شديد وعميق فرحه بخلاص الرب.

القسم الأول: شكر الكاهن لله لانتصارات الملك الممسوح (3-7 )

3 – أعطيته مُنية قلبه، وما رفضت طلب شفتيه

  • مُنية قلبه

تحقق كل ما تمنّى داود في قلبه الطاهرواستُجيب كل ما طلبه في الصلاة، كان داود يرغب في السلام والاستقرار، ويسعى إلى تحقيق العدالة وإحلال ملكوت الله على الأرض وسط شعبه… وقد تحقّقت له هذه الرغبات النبيلة… لم يتم الأمر في يوم وليلة، وليس بدون عقبات واجهته على مدى عمره، فقد اجتاز الكثير من الصعوبات، لذا يزيده هذا فرحًا وابتهاجًا.

  • وما رفضت طلب شفتيه

حقًا إن محن وتجارب داود وآلامه الكثيرة كانت مصدر لدموع غزيرة، لكنها ولحسن حظنا نحن، صارت نبعًا لصلاته وتوسُّلاته ومزاميره، وقد حفظ لنا الله هذه الصلوات في الكتاب المقدس، في سفر المزامير،  وهكذا  تحولّت أحداث حياته الشخصية  من فرح وترح،  هزيمة ونصر وحتى  أحلامه وأمنياته إلى صلوات نطقت بها شفتاه، ومن ثم إلى صلاة شعب الله وأخير ًا إلى صلاة لكل الشعوب ، وكما لم يخذله الله بل حقّق له كل أمنيات القلب ولم يحرمه من أن يرى أثناء حياته على الأرض، تحقيق ما التمسه في صلواته التي نطقت بها شفتاه؛ سيحدث كذلك في حياة شعب الله وجميع المؤمنين باسمه على مرّ العصور ..

4 -بادرته بفيض من البركات وبتاج من ذهب توّجت رأسه

الآية الذهبية، نستطيع أن نعتبرها الآية الذهبية لهذا المزمور فهي تمثّل وتجسّد وتقدّم “شهادة حقيقيّة عن خبرة النفس مع الله” وهي خير تعبير عن حب الخالق لخليقته الضعيفة، ومبادراته المستمرة نحوها ودعمها بفيض من النعم والبركات حتى ليشعر الإنسان مع داود المرنّم وكأنه ملك متوّج بإكليل ذهب يسبح في فيض من الخير والحب والبركات… كما تُعتبر هذه الآية نبوءة عن المسيح المسيا المنتظر.

  • بادرته بفيض من البركات

الخيرات أمر مادي طبيعي يجنيها البشر جميعًا نظير كدهم وتعبهم، وأن تكون هذه الخيرات بركة من عند الرب فهذا عظيم، أمّا أن يُعتبر كل ذلك مبادرة من الله فهذا أعظم الأشياء، نتكلّم عن بركة مضاعفة يمنحها الرب للملك نظير إخلاصه وهناك ثلاث خيرات: إكليل الملك، والحياة المديدة والخلود الأبدي.

  • وبتاج من ذهب توّجت رأسه

أولى البركات هي نعمة الملك كمسيح للرب، حيث يفيض رضي الله على الملك في حياته الشخصية وعلى مملكته، فهو يستمد كل شيء من الله حتى الملك نفسه، فليس هو ملك بقوته وليس جلوسه على العرش بقدرته وليس هو متوّج بجبروته بل بقوة يد الله التي تضع إكليل الذهب على رأسه، اختاره الله ومسحه ملكًا، هو أتى به من المراعي وأجلسه على عرشه فهل بعد هذا الرضى مزيد من الرضى.

5 – سألك الحياة فأعطيته عمرًا يطول مدى الأيام

  • سألك الحياة

 الحياة هبة من الرب يعطيها لبني البشر، فهي عطية نعمة يجب تقديسها والحفاظ عليها والعناية بها وبما أنها هبة فهي ليست ملكًا خاصًا يُبدّد وُيهدَر… وقد تعرّضت حياة  داود إلى عديد من المخاطر والظروف القاسية  منذ مسحة صموئيل ملكًا،  وقد صلّى طالبًا من الرب الخلاص والنجاة (نجّي نفسي من مُضايقي) فأخرجه من الجب وأنقذه من فم الأسد ووهب له الحياة من جديد… لذا يعترف داود هنا أنه إذا ما كان باقيًا على قيد الحياة إلى اليوم فما ذلك إلاّ بفضل تدخُّلات  الله العديدة وأعماله العجائبيّة  في كثير من المواقف الصعبة التي كادت تقضي عليه وتنهي وجوده… ليس  هو حي إذن بقوتّه الذاتية، حياته هبة من الله، وها نحن نرى النبي يقدّمها بدوره هبة إلى الله واضعًا نفسه وأهله ومملكته تحت مشيئته  إلى الأبد…

  • فأعطيته عمرًا يطول مدى الأيام

كأي إنسان وكحزقيا الملك قد يكون داود قد سأل الله أن يطيل عمره حتى يحقّق جميع مشروعاته الخيرية من إقامة المملكة وتثبيت أركانها وسَنْ قوانين صالحة تحمي الضعفاء والفقراء فيها وتنظيم العبادة وبناء الهيكل… باختصار يعتبر داود مهمته الرئيسية هي إحلال ملكوت الله على الأرض، فيصير الله هو الملك الفعلي المقيم في هيكله وسط شعبه.

وما الملك الأرضي سوى مندوب أو ظل مؤقتًا للملك الأزلي الحقيقي المالك إلى الأبد، وهي صورة حاول البعض استعارتها في مختلف الأديان فكان الملك في القرون الوسطى في أوروبا يمثّل “ظل الله على الأرض” والخليفة عند المسلمين هو “الحاكم بأمر الله” لكن المرنّم يستعير هذه الصفة كنبوة عن ملك المسيح عمانوئيل.ليصبغها على الملك المسياني في الزمن الأخير حيث سيسكن الله نفسه مع شعبه إلى أبد الدهور.

6 – خلّصته فعظم مجده، وجلالاً وبهاء ألقيت عليه

المجد، العظمة، الجلال، البهاء: كلها من صفات الله ومن اسماءه وبه يليق المجد والتعظيم والإجلال والبهاء، لكنه سيسكبه اليوم على الملك مسيحه حيث يخلصه ويحقق فيه سعادته وهذه الآية أيضًا نبوءة “مسيانية” عن المسيح الرب الذي يكلّله الله بهذه الصفات ويعطيه مرتبة فوق كل رتبة.

7 – جعلته مبارك إلى الأبد: ليشدو فرحًا أمام وجهك.

لم يعد يكتفي بكل ما أحاطه به من جلال وبها وأكاليل من ذهب وبركة، بل حول هو نفسه إلى بركة لا بل بركات وهذه أيضا نبوءة عن المسيا المنتظر الذي أشرق فيه بوجهه وأشرق فينا بحلوله وسيشرق بوجهه علينا فنزداد سرورًا على سرور أمام وجه الله …

القسم الثاني: صرخة الشعب: (8-9)

في القسم الثاني يبدو وكأن الملك لا يطلب شيئًا، ولكنه يعلم، ما سيعترضه من صعوبات بعد احتفال التتويج في الهيكل، فيطمئنه الكاهن أن النصر سيكون حليفه ما دام يسير أمام الرب ويتكل عليه وحده. وهكذا يترك الملك الهيكل، وهو موقن بالإنتصار على جميع أعدائه ما دام الرب معه. وهذا ما يقوله الشعب أن الملك يتّكل على الرب (آ 8)، لأنه هو الناصر الحقيقيّ في كل حروب الملك والشعب.

8 – الملك يتوكّل على الله، وبرحمة العلي فلا يتزعزع

هكذا تظهر المعادلة التبادليه بين الملك والعلي، الملك الأرضي والملك السماوي، فالأرضي يتوكّل على الرب، والرب العلي يثبته ويدعمه برحمته.وهي نفس علاقة المسيح بأبيه والمسيحي بربه.

9 – يده تطول أعداءه ويمينه جميع مبغضيه:

بعد تحقيق تلك الوحدة النموذجية والمنشودة بين الله والملك، يستطيع هذا الملك أن ينام مطمئنًا أن يمينه تستمد قوّتها من يمين الله يتغلب فسيتغلب على محاربيه…

القسم الثالث: تجديد وعد الله للملك  (10-14)

في القسم الثالث طلب الشعب من الله للملك المعونة وطول المُلك والمزيد من الانتصارات، فاستجاب له: وها هو الشعب واقف في الهيكل يصلي ويرى ملكَه متوجًا ومغمورًا بقدرة الله وبركته، فيحسّ بالطمأنينة. لأن عظمةُ الملك ليست سوى شعاعٌ من عظمة الله، والحياة الطويلة هي علامة رضاه لأنها مشاركة لحياته التي تدوم. أمّا أعداء الله فسيحترقون في النار والتنور اللذين هما علامة غضب الله على المدن والأمم الكافرة.

10 –  يجعلهم كتنور نار حين يتجلّى وجهه، الرب بغضبه يبتلعهم، والنار تأكلهم أكلاً:

حين يشرق الله بوجهه على قلوب المؤمنين يسعدهم ويفرح هم ويهديهم، لكنه يصير نارًا حارقة كالتنور على الأشرار اعداء الله والملك، فيجعل الاحتراق مصيرهم والزوال والرماد نهايتهم البائسة الحزينة… إنه تجلّ وإلهام لأحباءه وهو نار آكلة ودمار شامل لإعداءه… ينطبق هذا على حياة النبي وعلى حياة جميع المؤمنين والأبرار.

  • الرب بغضبه يبتلعهم:

كذا نار غضب الرب تبتلع، وعملية الابتلاع هي تعبير عن الاختفاء النهائي والتحول إلى عدم بغير رجعة، ويستخدم الفعل في التعبير عن الاختفاء النهائي كما تنشق الأرض وتبتلع الشرير، كذا فإن نار الرب تحرق وتدمر وتبتلع كل من يقابلها من الأشرار.

  •  النار تأكلهم:

 هذا هو مصير الأشرار الذين يقاومون الله والملك ويعيقون تحقيق ملكوته على الأرض أكلاً يؤكلون… هلاك أبدي ونار آكلة ودود لا يموت.

11 –  يبيد نسلهم من الأرض وذريتهم من بين بني البشر

تُعتبر هذه الآية نبوءة عن زوال مملكة الشر وانهيارها النهائي بفعل عمل الله في الأبرار، وهذا ما حدث حرفيا مع شعب الله، الذين طرد الله الأمم من طريقهم وأبادهم ومحى ذكرهم، كما سيحدث نفس الشيء مستقبليًا مع شعب العهد الجديد الودعاء الذين سيرثون الأرض، بينما ينتهي حكم الشر وتزول دولة الطغيان.

12- عبثًا يطالون الملك بسوء ويدبّرون له المكايد:

وإن كان الأشرار لا يتوقفون أبدا عن السعي لهلاك الأبرار والقضاء عليهم لأن مجرد وجوهم هو شهادة إدانة لشرهم، يختمر الشر يلا انقطاع في نفوسهم كما يختمر العجين فهم لا يعرفون السكون ولا يقبلون الهدنة، وطريق السلام لم يعرفوه…يكمنون مترقبين بحرابهم المسنونة وسهامهم المسمومة ليردوا البار قتيلاً. لكن “عبثًا” يحاولون إيذاء البار أو الوصول للملك مسيح الله المدعوم بروحه القدوس.

13- لأنه يحملهم على الفرار، حين يرمي وجوههم بسهامه:

يختتم النبي مزموره الجميل بمشهد فرار العدو أمام وجه الرب الذي يدافع عن مؤمنيه الأبرار ملتمسينه بكل قلوبهم، وفرارالعدو الشرير هو دومًا “إلى حين” فهو رعبًا من سهام الرب الملتهبة الفعالة والكاسحة التي لا يقوى على مواجهتها يفر لكن لا يختفي عن الوجود، بل يروح برهة لهدنة يسيرة.

14- ارتفع يارب بقوتك، نسبح ونرتل لجبروتك

جاءت الخاتمة مشابهة للافتتاحية إلى حد كبير ومماثلة لختام (ذكصولوجية) الصلاة الربانية. هكذا تنتهي آلامنا إلى إعلان مجد الله المفرح في حياتنا وفي لقائنا معه أبديًا!

رابعًا: تطبيق المزمور

  • كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور؟

 نستطيع القول إن المزمور ينطبق على كثير من مراحل حياة الرب يسوع بحيث يمكن أن نعتبره ك “نشيد انتصار الملك” إلى الأبد يترنم به المسيح القائم من الأموات منتصرًا والصاعد إلى السماوات جالسًا على عرش العظمة. كما تترنّم به الكنيسة كنشيد حب لفاديها المسيَّا، ملك الملوك الممجَّد، الذي يهب كنيسته والمؤمنين المتحدين به شركة الأمجاد. لذلك استخدمه آباء الكنيسة القبطية والغربية منذ قرون في طقوس الاحتفال بعيد الصعود، كذكرى عودة ربنا إلى المجد ودوره كرئيس كهنة أعظم…

  • تخلّصه فيبتهج ابتهاجًا: بعد أن ذاق يسوع آلام الصلب والموت والقبر، خلّصه الله فقام منتصرًا وصار هو خلاصًا ومخلصًا لشعبه.
  • أعطيته منية قلبه: كان جل مراد يسوع وكل بهجته هو تحقيق مشيئة الله الآب في حياته وقد أتمّها إلى النهاية لذلك مجّده الله ورفعه وأعطاه اسمًا فوق كل اسم.
  • سألك الحياة فأعطيته: بسفك دمه فداء عن الجميع على خشبة الصليب وببذله حياته نال الحياة وصار هو الطعام والشراب والنور والحق والحياة لكل من يتبعه.
  • خلّصته فعِظَم مجده وجلالاً وبهاء ألقيت عليه: ذلك عين ما ناله يسوع الملك على السماوات والأرض مرة واحدة وإلى الأبد.
  • جعلته مباركًا إلى الأبد: به تتبارك جميع الشعوب في كل الأرض الآن وكل أوان وإلى الأبد.
  • الملك يتوكّل على الله: وهل هناك أعظم وأعمق من توكُّل يسوع على أبيه وتسليمه الكامل لمشيئته المقدّسة في حياته من التجسُّد حتى الصلب والموت، فقد كان شعاره “لتكن مشيئتك”.
  • أحاط الأشرار بيسوع وأرادوا القضاء عليه، فنصبوا الشراك ليصطادوه بكلمة من فيه: لكن يسوع رفض قبول نصيحة القديس بطرس بالفرار (مر 8 :32)، فعندما أعلن لتلاميذه في طريق صعودهم إلى أورشليم ” أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيرًا ويُرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل وبعد ثلاثة أيام يقوم… (مر 8 :33)” أخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره ويقول حاشا يا رب، لا نريدك أن تموت، لماذا تذهب إلى هناك وأنت تعلم كل شيء تعرّض حياتك للخطر؟ في كلام بطرس منطق، لكنه عكس منطق الله، لهذا انتهره يسوع “اذْهَبْ عَنِّي يَاشَيْطَانُ! أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاس”(مت ٢٣:١٦).
  • الهروب المقدس: وبرغم أن يسوع دعانا لأن نعلن إيماننا بدون خوف ونواجه الخطر واثقين؛ إلاّ أنه هرب يومًا من اليهود لأن ساعته لم تكن جاءت بعد (يو 7: 30). لكن عندما جاءت ساعته، وجّه وجهه إلى أورشليم ولم يقبل بنصيحة بطرس التي تدعوه إلى رفض الألم والموت (مر 8: 23). بل توسّل القوّة من أبيه لكي يجابه مصيره (يوحنا 16: 32) ويقبل كل شيء من يد الآب (يو19: 11) فكان له أن يجلس على عرش القداسة فوق الملائكة الذين ينشدون مجده.
  •  جاء يسوع ليعيد بناء أسس العدالة التي تهدّمت وقام ديانًا للأحياء والأموات يجازي كل واحد حسب أعماله، فرفض العنف والقسوة، وطلب من أتباعه أن يكونوا ودعاء مسالمين “تعلّموا مني فإني وديع ومتواضع القلب”. (مت 11: 29).
  • الرب في هيكله: كان وجود الله في الهيكل رمز الثقة والأمان، وقد أعاد الرب يسوع للهيكل كرامته ودافع عن قدسيته “بيتي بيت الصلاة، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص” (مت 21:13) كذلك المسيح موجود في كنيسته وهو رأسها “أنا الألف والياء، البداية والنهاية”. (رؤيا 22: 13) يمنحها القوة ويعطيها النصر ” أنا معكم طوال الأيام إلى انقضاء الدهر”، “أبواب الجحيم لن تقوى عليها”. (متى 16: 18).
  • كيف نعيش هذا المزمور ‏ كمسيحيين؟

لا خلاف على أن هذا المزمور هو تجسيد للطوبى التي يحياها المسيحي الحقيقي:

  • الاعتصام بالله والاحتماء به: هما موقف المؤمن الذي يلتجئ إلى الهيكل ليحتمي بالرب. كان القاتل الذي لم يتعمّد القتل، يلتجئ إلى مدينة عيّنها الله (خروج 21: 13) أو إلى الهيكل كما فعل أدونيّا لما هرب من وجه سليمان الملك (الملوك الأول 1: 50). هناك في الهيكل المقدس يطلب الإنسان حمى الله القدير، ويسلّم نفسه لعدالته. ونلاحظ ميلاً إلى المعنى الروحي وإلى الموقف الداخلي. فحين يحتمي الإنسان بالرب، فكأنه يطلب منه أن ينقذه ويحفظه (الملوك الأول 25: 20). فمن احتمى بالربّ، يستطيع أن يتذوّق صلاحه ورحمته (الملوك الأول 34: 9). في هذا الخطّ نفهم كيف أن الترجمة السبعينيّة ترجمت الفعل العبري: ترجَّى، وثق، اتكل. وكذا فعلت الآرامية فسمت الاعتصام استنادًا إلى كلمة الله وتوكلاً عليها.
  • إن فهمنا السماء بكونها النفس البارة، يمكننا القول بأنه بينما يحاول العدو أن يرمينا بسهامه الخاصة بالشهوات الجسدية، يعلن الله ملكوته السماوي في داخل نفوسنا، بكونها قصره الملوكي أو هيكل قدسه. يشتاق العدو أن يقيم منّا أرضًا بينما يريد لنا ربنا أن نكون سماءه. ويشجّعنا العهد الجديد أن نجد الرب لا في الهيكل فقط (متى 5: 34-35) بل وفي البرّ الموهوب كنعمة للكنيسة (متى 18: 15-19).
  • كان النبي “مستقيم القلب”؛ هكذا أيضًا الكنيسة التي تتقدّس بالروح القدس في استحقاقات دم المسيح الثمين؛ إنها “مستقيمة”. كشمس البر مخلصها، يشرق عليها بنوره الإلهي واهبًا إياها نوره لتصير هي نفسها نور العالم. لا يقدر العالم أن يهلكها لأنه يسعى أن يصوّب سهامه نحو مستقيمي القلوب في الظلام وليس في النور. ما دام السيد المسيح يشرق ببهاء لاهوته على كنيسته المتحدة به لا يقدر الهراطقة أن يحطّموا إيمانها مهما صوّبوا من سهام التعاليم الخاطئة.
  • في صراع الكنيسة التي بُرِّرت بدمّ مخلّصها، مع الشيطان، تعرف أنها ستنتصر حتمًا وستنظر وجه الله وتتمتّع به مع كل أبنائها الذين عانوا في أجسادهم آلام المسيح وموته.
  • كثيرًا ما يقدِّم لنا الأصدقاء نصائح من قلب مخلص، لكن بفكر خاطئ: كالتخلّي عن مبادئنا التي لا تتناسب وعقلية المجتمع المعاصر والظروف المحيطة بنا، تمامًا كما فعل أصدقاء داود، وكما حاول بطرس مع يسوع، حينئذ يجب أن نميّز مشيئة الله ولا ننسى الإحساس بالمسئولية.
  • كما يحث هذا المزمور على تكريس الحياة تكريسًا كاملاً لحساب الرب يسوع، في طاعة مطلقة لإرادة الله، وثقة كاملة في أمانته وتأكيدًا لدعمه في جميع المعارك التي تخوضها الكنيسة باسمه وتحت رايته. وبهذا يقودنا المزمور إلى التالي، الثاني والعشرين، مزمور “آلام المسيح المجيدة”، ويصطحبنا إلى هناك، إلى رابية الجلجثة، فيدخل بنا إلى أعتاب عرش الله المجيد.

خامسًا: المزمور في فكر آباء الكنيسة

يتناول الآباء المزمور على ثلاث محاور

المحور الأول: انتصارات المسيح الملك:

مزمور هو شكر من أجل الامتيازات التي قُدّمت للملك ابن داود الذي يصوِّره المرنّم كملك مقاتل يُحارب إبليس وجنوده الأشرار لحسابنا.  ونحن أيضًا كأعضاء جسد المسيح صرنا ملوكًا محاربين، نتلقّى العون من ملك الملوك في حربنا الروحية. لذلك أُستُخِدم الكثير من عبارات هذا المزمور عن القديسين في مختلف الليتورجيات.

  • وفي هذا يقولالقديس يوحنا التبايسي: “لما نظر الله الكائن في كل أحد، كيف مسك الشيطان البشر وقادهم في جميع طرقه الممتلئة عثرات… شفق وتحنن هو برحمته التي لا قياس لها، ورأى بحكمته ومحبته التي لا تّدرَك أن يكسر افتخار الشيطان وشموخه، ويُظهر ويفضح غشّه… أتى إلينا وشفانا وشجّعنا وقوّانا ونصرنا… وأشركنا مع عظمته، ورفعنا إلى عالمه الحقيقي ومملكته الأمينة “.
  • ويقول القديس أثناسيوس الرسولي : الآن (بقيامة السيد المسيح) يا أحبائى… قد ذُبح الشيطان، ذلك الطاغية الذي هو ضد العالم كله… “الآن إذ نأكل “كلمة” الآب، وتُمسح قلوبنا بدم العهد الجديد نعرف النعمة التي يهبنا إيّاها المخلص، الذي قال: “ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو” (لو 10: 19). لأنه لا يعود يملك الموت، بل تتسلّط الحياة عِوَض الموت، إذ يقول الرب: “أنا هو الحياة” (يو 14: 6)، حتى أن كل شيء قد امتلأ بالفرح والسعادة، كما هو مكتوب: “الرب قد ملك فلتفرح الأرض”.
  • يقول العلامة أوريجانوس: لقد صار اسم “يسوع” سرّ قوة للمؤمن وغلبة على الخطية والشيطان وكل قوات الظلمة. [باسمه كثيرًا ما تُطرد الشياطين من البشر، خاصة إن رُدِّد بطريقة سليمة وبكل ثقة. عظيم هو اسم يسوع! اسم يسوع يشفي المتألمين ذهنيًا، ويطرد أرواح الظلمة، ويهب شفاءً للمرضى .

المحور الثاني: الشكر لاستجابة الله سؤل قلبنا.

  • “شهوة قلبه أعطيه، وسؤال شفتيه لم تعدمه”.
  • يقول القديس أغسطينوس: “يبدأ المرنّم بشهوة القلب ثم يُكمّل بسؤال الشفتين، لأن شهوة القلب تسبق سؤال الشفتين ويَلزم أن تتفق معه، ليعمل الداخل والخارج حسب إرادة الله… عندئذ نجد استجابة الله السريعة للقلب كما للفم. لقد صلّى مسيحنا بشفتيه: “مَجِّدّ ابنك فيُمجِدك ابنك أيضًا” (يو 17: 1)، وجاءت كلماته تتفق مع شهوة قلبه، وقد استُجِيبَت.  اشتهي المسيح أن يأكل الفصح (لو 22: 15)، وأن يبذل حياته ليضعها بإرادته ويأخذها أيضًا بإرادته (يو 10: 18)، وقد تحقّقت شهوته. أعلن مسيحنا شهوة قلبه الداخلية بالصلاة المسموعة، بالكلمات وأيضًا بالآلام… وقد تحقّقت شهوة قلبه ولا تزال تتحقّق في كنيسته إلى أن يتم جهاد كل المختارين وينعموا بشركة الميراث معه.

المحور الثالث: الشكر لله الذي يمجد ابنه

  • “لأنك أدركته ببركات صلاحك، ووضعت على رأسه إكليلاً من حجر كريم”. ونحن أيضًا في العهد الجديد نتمتع ببركات صلاحه، وننال الكثير من العطايا الإلهية قبل أن نسأل أو نطلب مثل نعمة الوجود، والإيمان المسيحي، والعماد والميرون وسكنى الروح القدس في قلوبنا مع أمور كثيره لا تُحصَى وُهِبت لنا كما أنعم لداود بالعرش دون فضل من جانبه. لم يطلب أحد ما مخلصًا إنما هو من قبيل حب الله جاء الوعد بنسل المرأة الذي يسحق رأس الحية. وكأن عطايا الله للبشر هي من قبيل حبه وصلاحه، يبادر بالحب حتى قبلما أن نوجد أو نتعرّف عليه. رأى المرنّم مسيحنا مكلّلاً على الصليب كملك، فقال: “وضعتَ على رأسه إكليلاً من حجر كريم”. حسب الظاهر وُضِع على رأسه إكليل شوك لا أحجار كريمة ليدفع ثمن خطايانا، أمّا في الداخل فتوَّجنا معه ملوكًا لنَنْعم بأكاليل سماوية ثمينة.
  • القديس يوحنا ذهبي الفم إن كانت الملائكة تفرح متى رأت إنسانًا خاطئًا يرجع إلى الله تائبًا، فكيف لا يمتلئون فرحًا عظيمًا عندما يرون الطبيعة البشرية كلها -في بكرها -تصعد اليوم إلى السماء؟!
  • “مجده عظيم بخلاصك. مجدًا وبهاءً عظيمًا جعلت عليه، لأنك تعطهِ بركة إلى أبد الأبد” [5]. لأجلنا أخلى ذاته عن مجده ولأجلنا تمجّد، نال من الآب الكرامة والمجد (1 بط 1: 17)، المجد الذي كان له من قبل تأسيس العالم (يو 17: 5).
  • ربنا يسوع -ملك الملوك -يضع التيجان الملوكية على رؤوس مؤمنيه الأتقياء بيده. ما من درجة من الكرامة مهما علت لا يمكن لله أن يرفعنا إليها إذا أراد ذلك؛ فهو يرفع المسكين من المزبلة، ويقيمه وسط الأشراف (مز 113: 7-8) “الملوك الروحيين”. فقد أخذ الرب داود من بين أغنامه وأقامه ملكًا متوجًا على أعظم عرش في المسكونة كلها في ذلك الحين.

المحور الرابع: الشكر لله من أجل الحياة المقامة

“حياة سألك فأعطيته، طول الأيام إلى أبد الأبد”.

  • لعل من أعمق الأسباب لتقديم الشكر لله هو تمتُّعنا بالحياة الجديدة الغالبة للموت. ربما قدَّم داود الشكر لله لأنه منذ شعر داود الملك أنه مدين لله بكل حياته. إن انطلقنا إلى ابن داود نجده وقد أطاع حتى الموت موت الصليب تقبّل القيامة من الآب مع كونه هو “القيامة”، وبسلطانه وضع نفسه وأخذها… بالطاعة نال إرادة الآب أن يقوم. ونحن أيضًا إذ صرنا أعضاء جسد المسيح القائم من الأموات ننال هذه الحياة الجديدة فيه.
  • وفي هذا يقو ل القديس أغسطينوس: “حياة سألك فأعطيته”، أي القيامة التي اِنْجلَت في كلماته: “أيها الآب مَجِّد ابنك” (يو 14: 7)، وقد أعطيتها له. “طول الأيام إلى أبد الأبد”، أي تلك السنين التي تعيشها الكنيسة في العالم الآن، وستبقى فيما بعد إلى الدهر الذي بلا نهاية.لقد فُسِرَتْ بركة “طول الأيام إلى أبد الأبد”، في العصور اليهودية المتأخرة وبعض المفسرين المسيحيين بأنها بركة مسيانية، تشير إلى المُلْك الأبدي لنسل داود.

المحور الخامس: الشكر لله من أجل البركات الإلهية.

“لأنك تعطيه بركة إلى أبد الأبد”.

  • السيد المسيح مصدر كل بركة؛ بالصليب بسط يديه فاتحًا أحضانه لكل الأمم تَنْعَم بالبركات الإلهية؛ فيجد الكل فيه كفايتهم وشبعهم. إذ يُحوّل الرب قلوبنا إلى السماء تتبدد ظلمة إبليس وكل أعماله، فلا يوجد في داخلنا تراب أو أرض يمكن للعدو أن يركض فيها، لذا قيل “ثمرتهم من الأرض تهلك”.

المحور السادس: شكر لله من أجل الفرح برؤيته

“أبهجته بفرح مع وجهك”

  • نشكر الله من أجل قوّته وخلاصه اللذين يملاّننا فرحًا، وتهليلاً، ومن أجل تحقيق شهوة قلوبنا وسُؤْل شفاهنا في صلواتنا، من أجل المجد الذي نلناه في الداخل باتحادنا معه، ولتمتُّعِنا بالحياة الجديدة في المسيح يسوع، ومن أجل فيض بركاته، أمّا تاج هذا كله فهو دخولنا إلى ملكوت الفرح بتمتُّعِنا بوجه إلهنا حيث نَنْعم برؤيته.

سادسًا: خاتمة المزمور

موضوع هذا المزمور ككثير من المزامير هو التوكُّل على الله، هذه الثقة هي أساس حياة داود والأنبياء والرسل وهي المصدر الحقيقي لذلك الترنم الفرح في الكنيسة وفي حياة كل مسيحي حقيقي.

هناك علاقة عميقة بين المزمور الثاني” الرب قال لي أنت ابني” والمزمور العشرين ” الرب يخلّص مسيحه” وهذا المزمور، فبينما يبدو الملك في المزمور العشرين شخصًا بشريًا عاديًا يقدّم صلاة توسّل قبل التتويج، يُصبح الملك في المزمور الثاني “ابن الله” كصلاة تتويج ويُعطى علامات القوة تاجَ الذهب وصولجان الحديد. أمّا هذا المزمور فهو صلاة شكر بعد التتويج… وفيه يظهر الملك كوكيل لله يتمّم عمله على الأرض.

إن الموضوع الليتورجي يجعل هذا المزمور قريبًا من بعض المواضيع الفرعونيّة في المملكة الوسيطة. استُقبل الملك في هيكل بناه لإلهه، فنال كلام وحي يؤكّد له الانتصار التامّ على جميع أعدائه. ولكن يختلف هذا المزمور عن النصوص المصريّة. فليس الرب هو الذي يدلّ على فرحه حين يستقبل الملك الذي مسحه، بل هو الملك يعلن ابتهاجه لأن إلهه قد استقبله.

وسبب فرحه الحقيقيّ هو عطيّة البركة والسعادة والحياة التي يمنحها له الرب. لقد اجتاحت داود قوّة خلاصيّة أراد أن ينقلها إلى شعبه فسجل مشاعره في هذا المزمور. ليؤكّد للأجيال أن الملك حين يأتي إلى بيت الربّ ويقف أمامه باسط الذراعين، يستطيع أن يعبّر عن رغبات قلبه. وهو متيقّن أن الرب يسمع له، ويستجيبه (2مل: 8؛ 1 مل 3: 5؛ أس 7: 1). وإنه سيجد إمكانية حوار مليء بالثقة.

الملك هنا هو الشخص الرئيسيّ ولكنه شخص صامت. يتكلّمون عنه أو يكلّمونه، ولكنه لا يتكلّم. وعلى ما يبدو لا يطلب الملك شيئا، لكن الكاهن المسؤول عن شعائر العبادة يلتفت إليه ويقدّم له كلمة الرب ثم يتوجّه إلى الله باسم الملك: “يا ربّ، تعزّز الملك فيفرح، تخّلصه فيبتهج ابتهاجًا”. ثم يتوجّه إلى الملك باسم الله: “يده تطول أعدائه، ويمينه كلّ مبغضيه”.

وقد يجد الملك نفسه حين يترك الهيكل، وجهًا لوجه أمام الكثير من الأعداء والعديد من الصعوبات المرتبطة بوظيفته، لكنه، ينطلق وقد”عزم وتوكل” على الرب وهو متأكّد من نصر لا ظلال فيه، نصر تام يُفني فيه جميع أعدائه وهذا يعلّمنا أن نثق أن النصر قريب  مهما كانت قوة  العدو، وأن القيامة آتية مهما اشتدت الظلمة وفرض الموت سلطانه، فقياس الله دائمًا ما يختلف عن قياسات البشر  ولا يليق بنا إذا ما قابلتنا الصعاب أن نشكو أو نشك، علينا أن  نتوكل على إله ونقاوم الشيطان فيهرب منّا، هذا ما يعلّمنا إيّاه المرنّم مع الكنيسة…

يجعلنا التاج الذهبيّ نشعر كأنّنا في حفل تتويج بالمعنى الماديّ حيث يدلّ التتويج على المجد. والملك أمام إلهه، نموذج للإنسان المبارك الذي يتمّم الرب كلّ رغبات قلبه.

فأي حرمان من تحقيق هذه الأمنّيات، يشكّل في نظر التوراة شرًا خطيرًا.

ولكن الملك الحقيقي الذي يتغنى به وينشده هذا المزمور هو يسوع المسيح، الملك الممسوح، فهو القريب من الله الآب (لو 10: 21؛ 15: 11)، وقد حاربته قوى الشر وحاصرته ودفعت به إلى الموت (رو 6: 9)، فانتصر عليها وقام بالمجد والبهاء (عب 2: 9)، وحقّق الخلاص بقيامته. فنالت الشعوب كلها الخلاص والنعمة والبركة على يديه. (غل 3: 14). المسيح الملك، الذي تجلّى بالقيامة والصعود، لم يملك وحده بل أشرك أحبّاءه وألبسهم ثياب الملوك وكللهم بأكاليل المجد ليجلسوا معه كما يجلس الرسل على اثني عشر كرسيًا، ويعبّرون عن فرحهم العميق وبهجتهم المتدفّقة مردّدين: “هللويا. المُلكُ لربنا الإله القدير”.

لذا فالكمة الأساسية في هذا النص هي كلمة “قوة” (1، 13)؛ بالإضافة إلى كلمة أخرى لها صلة بالقوة جاءت في العددالسابع “وبرحمة” العلي لا يتزعزع”، الرحمة هنا بمعنى “الحب الثابت” وهي تُفسرّ لنا مصدر كل قوة حيث توجد وترتكز في “العهدالأبدي” الذي يمثّل رباط الحب الشديد الذي يجمع بين الرب وشعبه، وأمانة الله لهذا العهد برغم خيانة شعبه المتكرّرة.

صلاة

معونتي أنت عليك أتوكل

ربي وإلهي

ملجأي أنت وخلاصي بك يبتهج قلبي

حقّقت منيات قلبي فصرت فرحًا

ولم ترفض طلبة شفتي حين رفعت قلبي إليك

غمرتني بفيض حبك وبإكليل حبك توّجتني

توكلّت عليك منذ صباي منذ حداثتي

وسألتك أن تتم مشيئتك فيّ وفي جميع خلائقك

فما خذلتني بل أعطيتني فوق ما يتصوّر قلبي وعقلي

ولم تدعني معوزًا شيئًا من أعمالك كرامتك

خلّصتني من جميع شدائدي 

بيمينك ظللتني وإلى يد العدو لم تسلّمني

تعاليت بعزّتك في كل لحظات حياتي

وصورة بهاء مجدك ألبستني

وعلى جميع خلائقك سلّطتني

لذلك أهب لك حياتي يا إلهي وبين يديك أستودعها

علّمنّي أن أدرك أن مجرد وجودك  

قوة تفوق كل قوة وأن نعمتك فوق كل قياس،

لن أهرب بعد اليوم إلى حكمة البشر

ولن ألوذ بسلطان هذا الزمان

ولن أتعلّق بخيرات العالم

وإنما إليك وحدك أيها الجبل القدوس…

فأنت يا رب معونتي وفيك ثقتي

وعليك اتكالي…أمين

فهرس المزمور الحادي والعشرين

التوكُّل على الله

تقديم المجلد الثاني……………….     

أولاً: تقديم المزمور……………….    

ثانيًا: نص المزمور وتقسيمه……………   

ثالثًا: تفسير المزمور………………      

 فاتحة المزمور: الرب يتوج داود ملكا(1-2) ……

القسم الأول: صلاة شكر (3-7)………..

القسم الثاني: صرخة الشعب (8- 9)………

القسم الثالث: تجديد وعد الله للملك (10-14) … 

رابعًا: تطبيق المزمور………………    

كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور……….. 

كيف نعيش نحن المسيحيين هذا المزمور……..

خامسًا: المزمور في فكر الأباء…………..

خاتمة المزمور…………………..

صلاة حسب روح المزمور…………….

الفهرس……………………..