” مفهوم الجسد “الفصل الثانى للشماس الانجيلى جورج ملاك

” مفهوم الجسد “الفصل الثانى للشماس الانجيلى جورج ملاك

 

الفصل الثَّاني

أبعاد الجسد ومصيره

للشماس الانجيلى جورج ملاك

مقدِّمة

 

عندما نتأمل بعمق في جسدنا نجد أنَّ الجسد هو الهيكل الَّذي يحتوي بداخله كينونة الإنسان “نفسية – معنوية – عقلية – روحية ” فالجسد بمثابة حافظة لكينونة الإنسان فلا يمكن أنْ يقول الإنسان أنا عندي جسد أو أنا امتلك جسد، ولكن التَّعبير الصَّحيح هو أنْ يقول أنا جسد، وهذا التَّعبير يعبِّر عن مدى قيمة وعظمة الجسد فجسدي جزء من كينونتي ومن وجودي، إنَّ الإنسان بطبعه كائن اجتماعيّ يعيش ويتعايش مع آخرين، ومن هنا يأتي السُّؤال كيف ادخل في علاقة مع الآخر ؟ هكذا الجسد له باع كبير، للدخول في علاقة مع الآخر، لأننا نحتاج إلى البعد الظَّاهري الملموس في الإنسان، فعلاقتي مع الآخر مرتبطة بإيماءاتي الَّتي يستقبلها الآخر، أيضًا من خلال جسدي أستطيع تعميق علاقتي بالله فالصَّلاة بالجسد تعبير عن عمق محبتي وارتباطي بالله فالجسد وزنة روحيِّة تساعدني على تعميق علاقتي بالله، أيضًا يحيا الإنسان في العالم ولكنَّه متجه نحو الفناء، فالجسد كأي شيء طبيعي يمر بمراحل نمو طبيعية، وكأي شيء طبيعي له فتره زمنية معينة فهو نهائي وهذا ما نحاول أن نعرضه في هذا الفصل.

 

1- أبعاد الجسد

 

هناك أبعاد كثيرة للجسد، ولكنَّنا هنا، سنتناول أهم هذه الأبعاد هي، علاقة الجسد والأنا الشَّخصي، وعلاقة الجسد والآخر، وعلاقة الجسد والله.

 

  • الجسد والأنا الشَّخصي

 

إنَّ جسدي يمكن أن يُهان أو أن يكرم، انطلاقًا من مدى العلاقة الوطيدة والنَّاضجة والسَّليمة، بين الأنا الشَّخصي والجسد، إذ أن هناك من يكره جسده ولا يهتم به، ويستخدمه كآلة للمتعة والشَّهوة ليس إلَّا، وهناك من يهتم ويعتني به من أجل أن يكون متوافقًا جسدًا وروحًا، ولهذا سنرى في ما يلي كيف إنني أنا جسد، وإنني كشخص وحدة واحدة غير منفصل أو متجزأ.

 

 

1- 1-1 أنا جسد

 

من أهمّ ما يميّز الكائن البشريّ أنَّه كائن في العالم، وهذا معناه أن الكائن البشريّ هو داخل الزَّمان والمكان وأنَّه مكوَّن من جسد وروح، فقد قال جبريل مارسيل: “إنه ليس من الصَّحيح أن يقول الإنسان لدي جسد، فهذا المعنى يجعل من الجسد آلة خارجة عن الكائن البشريّ، بل يجب أن يقول “أنا جسد”، فهذا التَّعريف يعبر عن كينونة الإنسان، وهنا نجد أنفسنا أمام أمرين هما الألم من جهة والزَّمان والمكان من جهة أخرى، فالألم يشعرني بأن جسدي مندمج في العالم وفي الزَّمان هنا والآن فلا يمكنني أنْ أفكِّر في ميلادي في ظروف تختلف عن الظُّروف، الَتي ولدت فيها أي في زمان آخر وفي مكان آخر، إذ أني ولدت هنا والآن في هذا الزَّمان وهذا المكان، فجسدي هنا والآن وهو الذي يربطني بالعالم وبالوجود وعدم ارتباط جسدي بالزمان والمكان هو عدم ارتباطي بالوجود، إذًا فالوجود ملتصق بالجسد التَّصاقًا وثيقًا نستنتج من فكر جبريل مارسيل إنَّه لا وجود للشخص في العالم إلَّا بجسده وهنا يركّز مارسيل على أسبقيّة الوجود بالجسد أكثر من أسبقيّة الوجود بالفكر، وهذا ما أدّي بمارسيل إلى رفض الكجيتو الديكارتي “أنا أفكر إذًا أنا موجود”[1].

 

1-1-2 وحدة الشَّخص الإنسانيّ

 

يبدو من خلال تلك الأفكار الَّتي تحدّثنا عنها، أننا واحد بدون انفصال جسد وروح. علينا التركيز على هذه الفكرة، لأنَّه شئنا أم أبينا، يبقى فكرنا متأثرًا بالفكر اليونانيّ القديم: الإنسان كائن مزدوج وليس موحدًا(جسد فانٍ، وروح خالدة). فكلّ الفكر الغربيّ الَّذي تأثرنا به، والَّذي بدوره تأثر بالفكر اليونانيّ القديم، علّمنا هذا “الانفصال” بين الجسد والرُّوح، مع شيء من عدم الثِّقة بالجسد، أو النّظرة السَّلبيّة له، لكونه مصدر فوضى، أو ضعف، وبالفكر المسيحيّ مصدر للخطيئة. فالروح أو النَّفس عليها أن تخرج من الجسد، الذي هو سجنها كما يقول أفلاطون، وإلَّا تبقى سجينة لهذا الجسد الَّذي يقودها للظلمات. بينما الفكر السَّامي، فكر الكتاب المقدَّس بعيد كلّ البعد عن هذا المعتقد. ففي نظر الكتاب المقدَّس، الجسد ليس عنصرًا خارجيًّا يمكن للروح الاستعاضة عنه. فالجسد هو جزء أساسيّ وجوهريّ من كياننا الإنسانيّ.

ومن هنا يمكننا القول: بإن الجسد والرُّوح مترابطان بعضهم ببعض على صعيد الوجود، كارتباط الصَّوت والمعنى على صعيد اللُّغة. فالرُّوح لا يوجد أبدًا بدون جسد والجسد بدون الرُّوح يصبح جثة. كلّ ما هو متعلق بوجودنا الإنسانيّ يُعبر عنه من خلال الجسد. كل شيء مرموز له من خلال الجسد. حتى في أعمالنا الأكثر روحيّة، الجسد حاضر ويفرض علينا متطلباته، حدوده، ولكنَّه يجعل هذه الأعمال ممكنة أيضًا. فليس الرُّوح هو الَّذي يصلّي، بل الإنسان بكلّيّته هو الذي يصلّي.

يقول المفكر الفرنسي باسكال: «من أراد أن يكون ملاكًا كان غبيًا»[2] فوحدتنا الإنسانيّة هشة، ومشكوك بها، وعلينا دائمًا أن نصنعها، ولا يمكننا التَّخلّي عن هذه المهمَّة. وبالرغم من كلّ التَّعقيدات الَّتي تمسنا، فمهمتنا هي أن نجعل الرُّوح يقود المسيرة. ما هو مصيري في هذا الموضوع هو تحقيق ذاتنا، شخصيتنا، في النِّهاية تحقيق نمونا الصَّحيح. إنَّها مهمة أو عمل ولكنّها أيضًا اختيار: إذا لم نعمل بصبر لكي يكون الرُّوح فينا هو الَّذي يقودنا، نستسلم آنذاك لنزواتنا مع كلّما تحمله من فوضى: مستبقين قليلًا الموضوع يمكننا أن نذكر قول القدِّيس أغسطينوس: «إن لم تصبحوا روحانيين حتّى في عمق أجسادكم، تصبحون جسديين في صميم روحكم»[3].

 

1-2 الجسدفي علاقته بالآخر

 

لا يمكن أن نتكلَّم عن الجسد دون أن نتطرَّق إلى الجسد في علاقته بالآخر، فالآخر يكتشف وجودي وحضوري في العالم من خلال جسدي، لأنَّه هو الشَّيء العارض وهو الصُّورة لشخصي الَّتي أظهر بها أمام الآخرين. وبالمثل ما أعرفه عن جسدي يكون من خلال معرفتي بالآخر فأنا اكتشف جسدي من خلال علاقتي بالآخر. فالآخر هو مرآة أستطيع أن اكتشف جسدي من خلاله، وبالجسد أدرك الآخر، فلولا وجوده في الجسد فهو بالنِّسبة لي مجرد فكرة، لكن جسده العارض هو الَّذي يجعل له وجودًا مادّيًّا ملموسًا ومحسوسًا أمامي، ثمّ في مرحلة أخرى أعرف من هو أعني شخصيته وتكوينه وعقليته، ولكن لا يمكن أن أدراك هذا بدون أن أدرك جسده.

تبين هذا من خلال الدِّراسة الفينومنولوجيّة الَّتي قام بها سارتر عن الشُّعور بالخجل، فالخجل هو صورة من صور الوعي لا يمكن أن أكتشف هذا الشُّعور بنفسي أو من خلال تأملي في ذاتي، لكن هذا الشُّعور يكتشفه الإنسان عندما يشعر أنه مكشوف أمام الآخر، فأنا أخجل عندما أعاني فجأة نظرة الآخر تقع عليا عندئذ أشعر برجفة داخليّة نتيجة نظرة الآخر، من هذا الشُّعور يتضح أن جسدي مرتبط بنظرة الآخر لي فأنا اكتشف جسدي من خلال الآخر وبهذا تتضح علاقة جسدي بالآخر الَّذي أعيش وأتعامل معه في كلّ لحظة من حياتي[4].

 

1-2-1 الجسد في علاقته بالآخر بوجه عام

 

إنَّ لغة الجسد هي تلك الحركات الَّتي يقوم بها الفرد مستخدمًا جسده، ليفهم المخاطب المعلومة بشكل أفضل وأعمق، وبالرّغم من استخدام لغة الجسد مُنذُ ملايين السّنين من التّاريخ الإنسانيّ إلَّا أنّها لم تدرس عمليًّا إلَّا في ستينات القرن الماضي بعد كتاب دجوليوس فاست 1970. تيقّن معظم الباحثين على أن القناة الشّفهيّة تستخدم أساسًا لنقل المعلومات بشكل إراديّ أو لا إراديّ.

تعدّ النّساء أكثر إداركًا للغة الجسد من الرّجال بسبب وجود قدرة فطريّة لديهم لفهم الإشارات، وهذا يظهر لدى الأمّهات في اتصالهنّ بالأطفال. تظهر أهميّة حركات الجسد في العلاقات الإنسانيّة الّتي تعبّر عن ما بداخل الشّخص من شعور سواء الارتباك أو المفاجئة أو الاستغراب أو الملل أو الثّقة أو الانتباه أو التّوتّر أو التقاط النّفس.

إن لحركات أعضاء جسد الإنسان أهمية كبيرة في العلاقات الإنسانية، لأنَّ كل حركة تحتمل معنى، وتعنى شيئًا ما في العلاقة بالآخر. لذلك اهتم كثير من الدَّارسين بدراسة حركات أعضاء الجسد وتحديد معناها نعم قد يكون اختلاف في الرأي بين الدَّارسين فيما يختص بمعنى هذه الحركة أو غيرها لكن هناك ما هو متفق عليه بينهم فعلي سبيل المثال إذا قطب الإنسان جبينه ونظر إلى الأرض فأنَّ ذلك يعني أنه متحير أو مرتبك أو أنه لا يحب سماع ما يقال، أما إذا قطب جبينه ورفعه إلى أعلى فان ذلك يدل على دهشته لما يسمعه، وهكذا فيما يختص بباقي أعضاء جسد الإنسان[5]، فكل حركة يقوم بها تعبر عن شعور ما، أو فعل ما، أما رفض، أو الموافقة، الاقتناع أو عدم الاقتناع، الخوف، الفرح، الحزن، وغيرها من التَّعبيرات والمشاعر والأفعال.

 

1-2-2 الجسد في علاقته بالآخر بوجه خاص

 

تظهر علاقة الجسد بالآخر بشكل مباشر في العلاقة الزّوجيّة الّتي تربط جسدين بعضهم ببعض بحسب عقد شرعيّ[6]. فالزّواج المسيحيّ هو سرّ من أسرار الكنيسة وهو صورة حيّة لعلاقة المسيح بالكنيسة فالزّواج هو أيقونة لسرّ الكنيسة [7].فالقانون الكنسيّ الكاثوليكيّ يعرّف الزّواج على أنّه عهد يربط الزّوجين وهذا العهد قائم على القبول والاختيار الحرّ بين الزّوجين وتقبّل الواحد الآخر، إذ أنّ الله هو الّذي أسّس هذا السّرّ (سر الزّواج)[8]. فالزّواج المقدّس له رسالة روحيّة وهو الوصول إلى القداسة وسط تقلّبات العالم من خلال دعوة الله لكلّ البشر[9]. إن القداسة في الحياة الزّوجيّة تتطلّب وعي الزّوجين بعمل الرّوح القدس في حياتهم وتقديسهم.

اختيار الزّوجين لعمل الرّوح القدس في حياتهم من خلال احترام كلّ طرف الآخر وتقديسه في الحياة اليّوميّة وتعمّق التّرابط الوجداني بينهما. وبهذا التّرابط الوجداني يكون دور الجسد واضحًا من خلال العلاقة الجسديّة بينهما. ويتجلّى الحبّ الزّوجيّ بين الزّوجين في العلاقة الجسديّة الّتي تعبّر عن حبهما واحترام كلاًّ منهما لجسد الآخر لأنّ الجسد الإنسانيّ مدعو أن يعبّر عن الرّوح الّتي بدورها تتعهد الجسد الّذي هو قمّة أعمال الله فجسد الإنسان هو وحدة واحدة لا يوجد فيه عضو أقل كرامة من عضوٍ آخر. فالجسد في العلاقة الزّوجيّة لا يقوم فقط بعمليّة بيولوجيّة بل بعمليّة اتحاد ومشاركة عقليّة وجسديّة وروحيّة ووجدانيّة يبن الزّوجين[10].

إذاً يعبر الجسد في الحياة الزَّوجية عن إفخارستيا الحب الَّتي يقدمها ويقيمها الزَّوج لزوجته على مذبح الفراش الزَّوجي، فالعلاقة الزَّوجية تعبِّر عن إتحاد ليس فقط جسديين، بل إتحاد كيان بكيان أخر، كسر الإفخارستيا الذي فيه يقدم المسيح ذاته عن طريق الخبز والخمر لعروسته الَّتي هي الكنيسة على المذبح المقدَّس، وهكذا العلاقة الزَّوجية هي إفخارستيا حب، حيث يقدِّم الرَّجل ذاته لزوجته على الفراش الزَّوجي والزَّوجة تقبل زوجها وتبادله الحب بالحب والعطاء بالعطاء عن طريق العلاقة الزَّوجية، فالعلاقة الجنسية تعبِّر عمَّا هو مقدَّس في الإنسان، ومالم يستطع أن يعبِّر عنه بالكلام أو أي أفعال أخرى يعبَّر عنها بالعلاقة الزَّوجية[11].

 

1– 3 الجسد في علاقة بالله

 

إنَّ سرّ تجسّد الله الكلمة في الجسد لم يكن مجرّد اتحاد في جسد إنسانيّ ترابيّ، ولكنّه صار إنسانًا. فصار الله الكلمة في جسد إنسانيّ لم يكن أمرًا سخيفًا لأنّ الله يملأ كلّ الكون بكلّ أجزائه فيقول القدّيس أثناسيوس: “وإن كان الله، يسكن في كلّ الكون بكلّ أجزائه، فما هو وجه الغرابة أو السّخف إذا قلنا إنّه اتّحد بالإنسان في جسده أيضًا؟ فالله مُنذُ الأزل يعمل في البشريّة ويقدّمها دون أن يتدنّس بآثامها. فنجد أنّ الله حلّ في شكل نار فقالَ موسى في نَفْسِه: «أَدورُ وأَنظُرُ هذا المَنظَرَ العَظيم ولِماذا لا تَحتَرِقُ العُلَّيقَة ( خروج 3/3) وعامود سحاب ” وكانَ الرَّبُّ يَسيرُ أَمامَهم نَهاراً في عاَمودٍ مِن غَمامٍ لِيَهدِيَهمُ الطَّريق، ولَيلاً في عَمودٍ مِن نارٍ لِيُضيءَ لَهم، وذلك لِكَي يَسيروا نَهاراً ولَيلاً. ولم يَبرَحْ عَمودُ الغَمامِ نَهاراً وعَمودُ النَّارِ لَيلاً مِن أَمامِ الشَّعْب.”( خروج 13/ 21- 22) وظهرت قمّة ظهوره للإنسان من خلال تجسّد الابن الكلمة بالجسد الإنساني.

      إنّ الجسد الإنسانيّ ليس خطيئة أو شرًّا كما يدّعي المانويّة[12] والغنوسيّين[13] فالعمليّات البيولوجيّة الّتي يقوم بها جسد الإنسان ما هي إلَّا عمليّات حيويّة تحفظ حياة الجسد وليست شرًّا أو نجاسة، ولكن الشّرّ والخطيئة هي كسر وصايا الله.تجسّد الابن الكلمة لا يتعارض مع قداسة الله أو مع كرامته لأنّ الله سبق وكرم الإنسان عندما خلقه على صورته كمثاله. ففي سرّ التّجسّد قمّة التّواضع الإلهيّ. فالتّجسد الإلهيّ للابن لا يتعارض مع حكمة الله، بل أظهرت حكمة الّذي صنع من الضّعف ما هو أعظم من القوّة.

ويقول العلامة ترتليان: “إنّ التجسّد لا يتعارض مع كمال الله الّذي هو كامل في ذاته ومن مستلزمات هذا الكمال هو العطف على الإنسان وانقاذه من الخطيئة وتقريبه إلى الله.فالسّؤال المطروح الآن كيف يليق بالله القدّوس أن يلبس جسدًا ويعيش في عالم موجود بالخطيئة؟ نجيب أنّ الله الكلمة تجسّد وعاش في عالم موجود بالخطيئة، ولكن لم يتأثّر بها فالخطيئة تهرب من أمامه كمثال الكروب الّذي يواجه نور الشّمس وقوّته.

 

1-3-1 الجسد والكلمة المتجسد

 

“حتَّى يَطلُبوهُ لعَلَّهُم يَتَلمَّسونَهُ فيَجِدوهُ، وهوَ غيرُ بَعيدٍ عَنْ كُلِّ واحدٍ مِنا” لم يفكر يسوع المسيح في مجرد التَّجسد أو مجرد الظُّهور وإلَّا فلو أراد مجرد الظُّهور لاستطاع أن يتمّم ظهوره الإلهي بطريقة أسمى وأفضل ولكنَّه أخذ جسدًا من جنسنا وليس ذلك فحسب، بل من عذراء طاهرة بلا لوم لم تعرف رجلًا جسدًا طاهرًا وخاليًا بالحقِّ من زرع بشري لأنه وهو القادر على كل شيء وبارئ كل شيء أعد الجسد في العذراء كهيكل له وجعله جسده بالذات واتخذه أداة له وفيه أعلن ذاته وفيه حل.

هكذا إذ أخذ من أجسادنا جسدًا مُماثلا لطبيعتنا وإذا كان الجميع تحت سلطة الخطيئة فقد بذل جسده للموت ليظهر لنا مدى محبَّة الله للإنسان، كلّ هذا فعله شفقة منه علينا وذلك أولًا: لكي يبطل النَّاموس الَّذي كان يقضي بهلاك البشر إذ مات الكلّ فيه لأن سلطانه قد أكمل في جسد الرّب ولا يعود ينشب أظفاره في البشر الذين ناب عنهم، ثانيا: لكي يعيد البشر إلى عدم الفساد بعد أن عادوا إلى الفساد ويحييهم من الموت بجسده وبنعمة القيامة وينقذهم من الموت[14].

 

1-3-2 الألم الجسدي ومشاركه الله

 

منذ أن بدأت المسيحيِّة وجدت ذاتها في أحضان الاضطهاد اليهودي والرُّوماني. وكان أعداء المسيحيِّة يستخدمون جميع الوسائل المختلفة في محاربتها وللقضاء عليها، رغم هذه الظُّروف ظل الإيمان قويًا صلبًا، وانتشرت المسيحيِّة في كلّ أرجاء العالم. ونشاهدها اليوم في بعض الدُّول تمثل أقلية سعيدة، وأقلية تعاني الاضطهاد من أجل فاديها، فتاريخ المسيحيِّة مليء بالاضطهادات العارمة والمؤلمة للغاية[15].

ويحثنا الكتاب المقدَّس تُجاه الآلام الَّتي يجب أن نجتازها لأجل المسيح، فتكثر الآيات الَّتي توَّضح لنا هذه الحقيقة، فيحدثنا القدِّيس بولس بقوله: “لأَنَّه أُنعِمَ علَيكُم، بِالنَّظَرِ إِلى المسيح، أَن تَتأَلَّموا مِن أَجلِه، لا أَن تُؤمِنوا بِه فحَسبُ،” (في1/ 29). ويوضح السيد المسيح هذا بقوله” طوبى لكم، إِذا شَتَموكم واضْطَهدوكم وافْتَرَوْا علَيكم كُلَّ كَذِبٍ مِن أَجلي، “ (مت5/11)، ” أُذكُروا الكَلامَ الَّذي قُلتُه لَكم: ما كانَ الخادِمُ أَعظمَ مِن سَيِّده. إِذا اضطَهَدوني فسَيَضطَهِدونَكم أَيضاً. وإِذا حَفِظوا كلامي فسيَحفَظونَ كَلامَكم أَيضاً.” (يو 15/20).

كما يوجد في الكتاب المقدَّس مشاهد رائعة مليئة بأبطال الإيمان، ماتوا بأقصى العقوبات الجسدية، منهم من مات بحد السَّيف، والبعض أمام الأسود، والبعض حُرِقَت أجسادهم بالنَّار، وأُلصِقَت بهم كل تهمة شنيعة[16]. فيصفهم الكاتب في الرِّسالة إلى العبرانيين بقوله: “وبَعضُهُمُ الآخَرُ عانى السُّخرِيَّةَ والجَلْد، فَضْلاً عنِ القُيُودِ والسِّجْن. ورُجِموا ونُشِروا وماتوا قَتْلاً بِالسَّيف وهاموا على وُجوهِهِم، لِباسُهُم جُلُودُ الغَنَم وشَعَرُ المَعَز. مَحْرومينَ مُضايَقينَ مَظْلومين, لا يَستَحِقُّهمُ العالَم، وتاهوا في البَراري والجِبالِ والمَغاوِرِ وكُهوفِ الأَرض” (عب11/36- 38).

يكتب بولس الرَّسول إلى تلميذه تيموثاوس قائلًا:“فَجَميعُ الَّذينَ يُريدونَ أَن يَحيَوا حَياةَ التَّقْوى في المسيحِ يسوعَ يُضطَهَدون”(2تيمو3/12). فالآلام الجسدية الّتي يتحمّلها المسيحي لأجل المسيح ليس بعبث، مع أنّ اتّباع المسيح ليس سهلًا. ولا تزال المبادئ والأقوال الكتابية المتعلقة باحتمال الألم والاضطهاد من أجل المسيح حاضرة اليوم كما كانت بالأمس[17].

فهناك مصادر عدة للاضطهاد، قد يكون من أفراد، أو من الدَّولة، أو من قيادات دينيِّة، وظهر     الاضطهاد من الدَّولة في مظاهر عديدة منها “الضَّرب، السِّجن، ومنها الطَّرد من الدَّولة، وأيضًا السَّبي أو النَّفي”. “هُم خَدَمُ المسيح؟ أَقولُ قَولَ أَحمَق وأَنا أَفوقُهُم: أَفوُقهُم في المَتاعِب، أَفوقُهُم في دُخولِ السُّجون، أَفوُقهُم كَثيرًا جِدًّا في تَحَمُّلِ الجَلْد، في التَّعرُّضِ لأَخطارِ المَوتِ مِرارًا.”(2كو11/23). وهناك بعض القيادات الدِّينيِّة يعتبرون المسيحيِّة مناهضة لهم، فحاول القادة الدَّينيون استخدام الافتراءات، أو الضَّغط على الدَّولة، كما يتضح لنا هذا في الحكم على المسيح بالصَّلب، أو ترويج بعض الشَّائعات الكاذبة، وغير ذلك”[18].

يصيب الألم الإنسان في جسده، ويقلب أحيانًا حياته، ويجعله يشعر بالقلق. يؤثّر هذا في علاقاته، مع الله، وذاته، والآخر. وأيًّا كان مصدر الألم سواء من الإنسان ذاته، أم من الآخرين، فهو اصابة تتغلغل في حياة الإنسان تدفعه إلى الصّراخ نحو الله وطلب المعونة. يمس الألم الجسدي عمق كيان الإنسان، وهذا نتيجة إصابته بالأمراض المزمنة والمدمرة، أو الإعاقات المستديمة، أو أوجاع الشَّيخوخة، أو الم الاضطهاد، فهناك أمثلة عديدة لأشخاص أصبحوا قدِّيسين بسبب الألم الجسدي فمثلاً القدِّيسة ريتا الَّتي أصبحت قديسة بفضل ألم الشَّوكة الَّتي باتت تعاني منها.

 

[2]عبد الرحمن بدوي (الدّكتور)، الموسوعة الفلسفية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان 1984.ص 356.

[3]http://www.terezia.org/section.php?id=1481 الساعه 1 :005 بتاريخ 20 – 9 – 2014

[4]حبيب الشاروني (الدّكتور)، فكرة الجسم في الفلسفة الوجودية، مكتبة الأنجيلو المصرية، القاهرة 1974.ص 115- 119.

[5]لغة الجسد، سهيلة العاسفين (ترجمة)، مؤسسة علاء الدين للباعة والتوزيع، سوريا 2004.ص 51-100.

[6]المنجد في اللغة العربية المعاصرة، دار المشرق، بيروت، 2000، ص 627.

[7]فاضل سيداروس اليسوعي (الأب)، سرّ الحب الزوجي، مطبوعات الأباء اليسوعيين في مصر، القاهرة، 1994. ص 31.

[8]مجموعة قوانين الكنائس الشرقية “الكاثوليكية”، منشورات المركز الفرنسيسكاني للدراسات الشرقية المسيحية، 1995، ق 776 بند1.

[9]المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الدستور الرعوي: الكنيسة في العالم المعاصر”شرف الزواج والأسرة”، بند 48.

[10]رفيق جريش، الزواج هذا السر العظيم، القاهرة، 1991، ص 64- 65.

[11]أغسطينوس موريس (الأب)، الزواج بين الوفاء والإنفصال، د.ت، د.ن، ص 11-17.

[12]تعود نشأتها الي ماني بن فاتك الساحر الفارسي (216- 277م) الذي حاول ان يوفق بين مبداى الخير والشر والتعاليم المسيحية، وكان يقول ان النور هو قوة الخير وكل مادة في اصلها شر وان اعمال الخلق تصدر عن ازدواجية الخير والشر. وكان ماني يعتبر نفسه رسول النور ونبي الوحي الجديد وبشر بمذهبة في بلاج فارس والعراق وقد امر الملك الفارسي بهرام الاول سنة 276م بصلبة لممارسة السحر ثم سلخ جلده وتعليقة على مدخل المدينة فلقد انتشر مذهبه في جميع انحاء الامبراطورية الرومانية. يعقوب شحاتة (الأب)، تاريخ الكنيسة في القرون الأولى، مجموعة محاضرات في كلية العلوم الإنسانية واللاهوتية، المعادي، القاهرة، 2013.

[13]لم تكن “النصرانية هي البدعة الوحيدة التي تسببت في انقسام الرسالة المسيحية، بل ظهرت العديد من البدع والهرطقات، أهمها الغنوسية التي قالت بإله واحد لا يدرك صدرت عنه أرواح هي الأيونات والأراخنة، وقد صدرت هذه أزواجاً ذكراً وأنثى، وراحت تتضاءل في الإلوهية كلما ابتعدت عن مصدرها الإله الأعلى، وعندما حاول أحد الأراخنة أن يرتفع إلى مقام الإله الأعلى طرد من عالم هذا الإله. فصدرت عن هذا الأرخون الخاطئ أرواح شريرة مثله وصدر العالم المحسوس الذي لم يكن ليوجد لولا الخطيئة، وبذلك يكون هذا العالم عالم شر ونقص بصانعه وبالمادة المصنوع منها. هذا الأرخون الخاطئ أيضاً حبس النفوس البشرية في أجسامها فكون الإنسان، وأن هذه النفوس تتوق إلى الخلاص، لكن الناجون من هذا الحبس قليلون، لأنهم يقسمون الناس إلى ثلاث طوائف متمايزة هي: طائفة الروحيين الذين هم من أصل إلهي وهم الغنوسيين صفوة البشر. الطائفة الثانية تتألف من الماديين الذين لا يمكنهم أن يصعدوا فوق العالم السفلي، والثالثة تشمل الحيوانيين الذين قدر لهم الارتفاع والسقوط، النجاة والهلاك. اختلف الغنوسيين في طريقة النجاة فمنهم من قال بقهر الجسد، ومنهم من قال بإطلاق العنان للشهوة. .كان للغنوسية أثرها في المسيحية إذ حملتها على تحديد العقيدة ومحاربة الهرطقة والإلحاد. وأكثر المعلومات عن هذه البدعة مستمدة من نصوص قبطية وجدت في نجع حمادي بصعيد مصر. أنطون فؤاد (الأب)، تاريخ الكنيسة القديم، مجموعة محاضرات في كلية العلوم الإنسانية واللاهوتية، المعادي، القاهرة، 2013.

[14]اثانسيوس الرسول( القديس )، تجسد الكلمة، ترجمة مرقس داود ( القمص )، دار النشر الأسقفية، القاهرة ب .ن ، ص33 – 34

[15]صموئيل حبيب (القس)، سر الألم، دار الثقافة، القاهرة، د.ت، ص51.

[16]لبيب ميخائيل (القس)، مشكلة الألم، المطبعة التجارية الحديثة بالسكاكيني، القاهرة، 1959م، ص 30 – 34.

[17]بلي غراهام، حتى منتهى الآلام، الشرق الأوسط، لبنان، 1988م، ص120-121.

[18]صموئيل حبيب (القس)، سر الألم، دار الثقافة، القاهرة، د.ت،ص 56.