منطق الثالوث للأب هنري بولاد اليسوعي

مَنْطِقُ الثالُوث
بقَـلم
الأبّ هَنري بُولاد اليَسُوعيّ
موسوعة المعـرفة المسيحيّة
العـقيدة (1)
دار المشرق ـ بيـروت

الكاتب
الأبّ هنري بولاد اليسوعي شغل مناصب تربويّة وإداريّة متعدّدة، وكان مدير منظمة كاريتاس في مصر. له خبرة واسعة في الرياضات الروحيّة والمحاضرات الدينيّة والثقافيّة، وصدر له عدد من الكتب في اللاهوت والفكر والتصوّف المسيحيّ، بعضها نُقل إلى اللغّات الأوروبيّة.

تمهـيد
نظـرة إلى التعـليم المسيحيّ فى أيّامـنا

موضوع الثالوث الأقدس بالغ الأهمّيّة في الإيمان المسيحيّ. ذلك بأنَّ أكثر الأسئلة وأحرجها في هذا المَيْدان تدور حول الثالوث الأقدس، سواء أكانت من الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا أمّ من التي يطرحها علينا الآخرون. وعلى طول مراحل حياتنا، تلقيْنا الكثير في دروس التعليم الدينيّ وسمعنا ما هو أكثر في العظات. وترسّخ إيماننا بالثالوث الأقدس في حياتنا على مستوى غير واعٍ في أغلب الأحيان، وقد نمارسه تلقائيًا في حياتنا الروحيّة، لكنّنا نفـاجَأ، وربّما إلى حدّ الفزع، حين نجد أنفسنا عاجزين عن إيجاد ردّ مقنع وعلى مستوى منطقيّ من التفكير.

أسئلة كثيرة قد نفاجَأ بها: لماذا التثليث ولا الوحدانيّة المجرّدة؟ وما هى الأسس الفكريّة المقنعة فى هـذا الميدان؟ وما هى مصادر إيماننا بالثالوث الأقدس؟ وما هى انعكاسات هـذا الإيمان على ممارستنا، وعلى حياتنا العمليّة وحياتنا الروحيّة؟.

لا يكفي الاعتماد على الكاهن للحصول منه على جواب، أو فى كلّ مرّة نضيق بهذه الأسئلة، فنسرع إليه لاهثين بحثًا عن الراحة من معاناة القلق الناتج تساؤلات من هذا النوع… لا شكّ أنَّ لدى الكاهن أجوبة، ولكن يجب علينا أنْ نكتشف نحن أنفسنا هذه الأجوبة. حينئذ، وحينئذ فقط، تصير هذه الأجوبة والردود جزءًا حيويًّا من كياننا وحياتنا، يعيش معنا ونعيش معه، ولا يصبح جزءًا منفصلاً عنّا، قد نفقده في أيّة لحظة أو مرحلة من خطوات حياتنا.

هناك أيضًا العديد من القضايا والمشاكل المعاصرة التي تولي اختيار موضوع الثالوث الأقدس أهمّيّة خاصّة. فمن ناحية، قويت التيارات المضادّة للإيمان، ومن ناحية أخرى ضعف التعليم المسيحيّ الذي يُلقّن في المدارس في هذه الأيَّام… وازدادت أعباء الكهنة والرعاة، فمسَّت الحاجة إلى أنْ ينشأ تيّار من العلمانيّين، من أصحاب الفكر الدينيّ المتعمِّق، يتفرّغ لوضع الأساس العقليّ لحياة الشباب الإيمانيّة، ولكلّ مَن يبحث عن أساس فكريّ، منطقيّ، للإيمانيّات المسيحيّة. ومن ثمّة يتفرَّغ الكهنة لحياة تدبير الكنيسة الروحيّ باعتبارها جماعة المؤمنين. قد لا يكون ذلك بمعنى الفصل بين مهمّتَين أو وظيفتَين، كلتاهما على قدر خطير من الأهمّيّة، بل لايجاد التكامل بين جانبين هامّين في الحياة المسيحيّة: جانب العقل وجانب الروح. ويُمكننا أنْ نرى صورة من هذا التكامل في حياة الكنيسة الأولى. والأمثلة على ذلك عديدة، وتتجسّد في أولئك الذين تفرّغـوا لمهمّة الدفاع عن الإيمان المسيحيّ وقد بدأوا خارجًا عن رجال الإكليروس.

لهذه الأسباب كلّها، كان اختيار موضوع الثالوث الأقدس في محكمة العقل موضوعًا لإعمال الفكر .التأمّل في الصفحات التالية.
المقـدّمة
العقل والحقائق الإيمانيّة

عجز العقل عن استيعاب كل الحقائق المختصّة بالثالوث.
موضوعنا الذي سننقاشه الآن هو ” الثالوث الأقدس في محكمة العقل “. يحاول الإنسان أنْ يضع الثالوث الأقدس، سرّ الله كلّه، في ميزان عقله. وقد يكون هذا طموحًا، إنْ لم يكن غرورًا وكبرياءً، إذ كيف يستطيع الإنسان المحدود، بعقله المحدود، أنْ يقيِّم ويضع في ميزان عقله سرّ الثالوث الأقدس، الذي هو سرّ الله؟.

ولعلّ بعضنا يذكر قصة القديس أوغسطينس، الفيلسوف الكبير الذي عاش في القرن الخامس الميلادي، وهو من أعظم شخصيّات تاريخ الكنيسة. كان يتمشّى في أحد الأيّام على شاطئ البحر ذهابًا وإيابًا، يتأمّل في الثالوث الأقدس، ويحاول أنْ يحلّ مشاكله، ليرى كيف يمكن أن يكون ثلاثة في واحد، وواحدًا في ثلاثة. وبينما هو كذلك، رأى طفلاً وقد حفر حفرة صغيرة على الشاطئ وراح يملأ هذه الحفرة من ماء البحر بواسطة صدفة صغيرة. إبتسم له أوغسطينس وقال له: ماذا تفعل؟ أجاب : أريد أنْ أضع البحر في هذه الحفرة. قال له أوغسطينس: هذا مستحيل، يا حبيبي، لأنّ الحفرة صغيرة جدًا. فردّ عليه الطفل: كذلك أنت عندما تحاول أنْ تضع الثالوث الأقدس، وهو أعمق الأسرار فى عقلك المحدود. واختفى الطفل من أمام أوغسطينس.

لا أعلم هل هذه القصّة واقعيّة أمّ خياليّة، لكنّ المهم أنَّ الغرض منها واضح، وهو أنَّ الإنسان يجد نفسه عاجزًا، حين يحاول أنْ يضع سرّ الله في عقله المحدود.

أهمّيّة استخدام العـقل في تقبّل الحقائق الإيمانيّة
قد يبدو هذا العنوان متناقضًا مع سالفه، ولكنّ ذلك غير صحيح، إذْ إنَّ الإنسان، عندما يولد في إطار عائلة مسيحيّة، يقبل إيمانًا موروثًا عن أهله، ويقبله بطريقة عمياء، تصلح لعمره الصغير. فإنْ ظلَّ على هذا المستوى – مستوى الإيمان التقليديّ المسلّم به – بعد أن كبر، قد يكون هذا خطأ، إذْ إنَّ الله منحنا ما نسمّيه العقل، ونحن نستخدم هذا العقل لحلّ مسائل الرياضة والعلوم واللغات والتجارة والعمارة وحلّ مشكلات الحياة. نستخدمه في كلّ المجالات، ولكن، حين نصل إلى المستوى الإيمانيّ، نقول: ” قف، لا تستخدم عقلك، إنّ في استخدامه لخطرًا “. لماذا؟ هل هناك تناقض بين الإيمان الذي يأتي من الله، والعقل الذي هو أيضًا من الله؟ هل نعتبر الإنسان الذي يتساءل حول إيمانه مخطئًا؟ أقـول: لا، وليس مسموحًا فقط أن يستخدم العقل في مجال الإيمان والدين، بلّ إنَّ ذلك واجب ضروريّ وحتميّ.

فى كلّ إنسان، حين يتعدّى المرحلة الإبتدائيّة، وبالطبع الإعداديّة والثانويّة، أنْ يدخل في حوار بينه وبين إيمانه، لأنَّ هذا العقل هبة من الله، فلا نتركه عقيمًا. حاول أنْ تتعقّل إيمانك، ويجب أنْ يكون هناك تفاعل بين الإيمان والعقل. العقل ينير الإيمان، والإيمان ينير العقل. وهذا التفاعل مثمر، إذ نتج عنه ما نسمّيه علم اللاهوت. فعلم اللاهوت هو المحاولة التي نستعملها الآن معًا حتى نتعمّق في سرّ من أسرار المسيحيّة الأساسيّة في ضوء العقل، وهذه محاولة لا بدّ منها. لا يمكن أنْ نستمر في ترديد جُمَل محفوظة عن ظهر القلب، حتّى إذا سُئِلنا عن إيماننا، نقول: ” هذا هو إيماننا “… ” كيف؟… وضّح… ” – ” لا أعرف، هذا هو إيماني “. هل هذه إجابة كافية؟.

يعتقد بعضهم أنَّ هذا البحث الإيماني واجب على الكاهن فقط. ولكن الكاهن لا يذهب إلى الجامعة، إلى الورشة، إلى المصنع. فعلى العلمانيّ أنْ ينشر الإيمان في كلّ هذه الأوساط التي لا يصل إليها الكاهن. كلّنا رسل، وليس هناك فرق بين الكاهن والعلمانيّ في هذا المجال. علينا جميعًا أنْ نحمل هذا الإيمان إلى الأوساط التي نعيش فيها، في أي مكان. فالاجتهاد في فهم الدين واجب إذًا على كلّ مؤمن.

الجـزء الأوّل
وحدانيّة الله: المسيحيّة ديانة التوحيد

مفهوم الأسرار فى المسيحيّة
كثيرًا ما نطلق على العقائد المسيحيّة كلمة ” أسرار “، كسرّ التجسّد، وسرّ الفداء، وسرّ الثالوث الأقدس. وكثيرًا ما نفهم كلمة سرّ بمعنى لغز. فما هو الفرق بين اللغز والسرّ؟ اللغز هو أمر غامض ومكتوم، طريق مغلق، يطرق الإنسان على بابه ولا يتلقى أيّ ردّ. أمّا السرّ في المفهوم المسيحيّ، فهو شيء آخر، مختلف تمامًا. فالسرّ هو حقيقة إيمانيّة يستطيع الإنسان أنْ يفهمها على وجه أفضل يومًا بعد يوم، دون أنْ يصل إلى نهايتها. ليس السرّ حائطًا أصطدم به، بلّ هو محيط أتعمّق فيه، وأزداد تبحّرًا فيه. وكلّ يوم أكتشف أبعادًا جديدة لهذه الحقيقة، من دون أنّ أصل إلى نهايتها.

على هذا الأساس، عندما يسألك أحد عن الثالوث، فلا تقل: ” إيّاك أنْ تحاول فهمه ” فالاقتراب منه ممنوع، والبحث فيه حرام “. بلّ قل بالعكس: ” عليك أنْ تحاول أنْ تفهم هذا السرّ وتتعمّق فيه، حتّى تصبح أسرار إيمانك المسيحيّ مصدر حياة، بدل أنْ تكون عقيمة، أي عديمة الجدوى “. أخشى أنْ تكون أسرار الإيمان المسيحيّ قد أصبحت كقطع تحف موضوعة على الرفوف، غير مسموح بلمسها والاقتراب منها. فلم تعدْ لنا مصدر حياة وغذاء روحيّ. وبما أنَّ الثالوث الأقدس هو أعمق وأغنى أسرار مسيحيّتنا، فعلينا أنْ ندخل فيه بكلّ قدراتنا العقليّة والوجدانيّة حتّى يغنينا بثرائه ويفتح لنا أبعادًا جديدة غير محدودة الآفاق. والآن نتساءل ما هو سرّ الثالوث الأقدس في ميزان العقل وهل هناك منطق لهذا السرّ؟.

تَعْتَرِف المسيحيّة بوحدانيّة الله قبل أنْ تَعْتَرِف بمذهب التثليث. جاء مذهب الوحدانيّة أوّلاً وسبق كل اعتراف بالثالوث. وقد يظنّ البعض أنّنا مشركون، اعتقادًا منهم بأنّنا نعبد ثلاثة آلهة. ولكن، في ضوء الكتاب المقدّس، الذي هو مرجعنا الأساسيّ، سأعرض هنا نصوصًا واضحة ومريحة عن مذهب الوحدانيّة في المسيحيّة وعن التأكيد أنّ عبارة ” لا إله إلاَّ الله ” عبارة مسيحية، قبل أنّ تكون إسلاميّة.

أوّلاً: من العهد القديم
* قال موسى النبي: ” فَاعْلمِ اليَوْمَ وَرَدِّدْ فِي قَلبِكَ أَنَّ اَلرَّبَّ هُوَ اَلإِلهُ فِي اَلسَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَعَلى اَلأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ. ليْسَ سِوَاهُ ” (تثنية 4/39).
* وقال أيضًا: ” إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: اَلرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ “.(ثنية 6/4).
* ” اُنْظُرُوا الآنَ! أَنَا أَنَا هُوَ وَليْسَ إِلهٌ مَعِي. أَنَا أُمِيتُ وَأُحْيِي ” (تثنية 32/39).
* ” هَكَذَا يَقُولُ اَلرَّبُّ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ وَفَادِيهِ رَبُّ اَلْجُنُودِ: أَنَا اَلأَوَّلُ وَأَنَا اَلآخِرُ وَلاَ إِلَهَ غَيْرِي ” (أشعيا 44/6).
فتعبير ” لا إله إلاَّ الله ” وارد فى الكتاب المقدّس، وهو تعبير يهوديّ ومسيحيّ.
* ” أَنَا اَلرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لَيْسََ مِنْ دُونِي إِلَه ” (أشعيا 45/5).
* ” لِيَعْلَمُوا مِنْ مَشْرِقِ اَلشَّمْسِ وَمِنْ مَغْرِبِهَا أَنْ لَيْسَ غَيْرِي. أَنَا اَلرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ ” (أشعيا 45/6).
* “… أَلَيْسَ أَنَا اَلرَّبُّ وَلاَ إِلَهَ آخَرَ غَيْرِي؟ إِلَهٌ بَارٌّ وَمُخَلِّصٌ. لَيْسَ سِوَايَ ” (أشعيا 45/21).
* ” لأَنِّي أَنَا اَللَّهُ وَلَيْسَ مِنْ إِلَه آخَرُ. أنا الله وَلَيْسَ مِنْ إِلَه مِثْلِي ” (أشعيا 46/9 ).
* ” أَلَيْسَ أَبٌ وَاحِدٌ لِكُلِّنَا؟ أَلَيْسَ إِلَهٌ وَاحِدٌ خَلَقَنَا؟ ” (ملاخي 2/10).
وهناك نصوص أخرى كثيرة في العهد القديم تؤكّد الفكرة نفسها.

فالثالوث لا يتناقض مع وحدانيّة العهد القديم.

ثانيًا: من العهد الجديد
قد يقول بعضهم إنّ مفهوم الوحدانيّة هذا ينطبق على العهد القديم فقط وأنّ المسيح ألغى كلّ ذلك، عندما أتى بعقيدة الثالوث. ولكنّ السيد المسيح كان في حاجة إلى هذه الخلفيّة، خلفيّة الوحدانيّة التي ترسّخت في عقول الشعب اليهوديّ طوال عشرين قرنًا، حتى تُفْهم. عقيدة الثالوث حقّ الفهم دون تحريف ولاعودة إلى الشرك والوثنيّة. فالثالوث إذًا لا يناقض وحدانيّة الله، بلّ يكمّلها: ” لم آتِ لأنقض بل لأكمّل “. فإليكم بعض النصوص الواضحة في العهد الجديد عن الوحدانيّة:

* أجاب المسيح نفسه على الشاب الغني: ” لا صالِحَ إِلاَّ اللهُ وَحدَه “(مرقس 10/18).
* ” فأَجابَ يسوع: الوَصِيَّةُ الأُولى هيَ: اِسمَعْ يا إِسرائيل: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هو الرَّبُّ الأَحَد. ” (مرقس12/29).
وهناك نصوص أخرى من الرسائل:
* “… وإنَّ لا إله إلاَّ الله الوَاحِد “( 1 كورنتس 8/4).
* ” وأَمَّا عِندَنا نَحنُ، فلَيسَ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وهو الآب، مِنه كُلُّ شَيءٍ وإِلَيه نَحنُ أَيضًا نَصير، ورَبٌّ واحِدٌ وهو يسوعُ المسيح، بِه كُلُّ شيَءٍ وبِه نَحنُ أَيضًا ” ( 1 كورنتس 8/6).
* ” وإِنَّ الأَعمالَ على أَنواع وأَمَّا اللهُ الَّذي يَعمَلُ كُلَّ شَيءٍ في جَميعِ النَّاسِ فهوهو.” ( 1 كورنتس 12/-6).
* ” ولا وَسيط لِواحِد، واللهُ واحِد ” (غل 3/20)
* وهناك مراجع أخرى (رومة 3/30 و1 طيموتاوس 1/17 و 1 طيم: 2: 5 ).

ثالثًا: من تاريخ الكنيسة
أتينا بنصوص كثيرة من الكتاب المقدّس بعهديه وكلّها صريحة واضحة. إلى جانب ذلك، نرى أنَّ الكنسية كافحت بقوّة وإصرار في القرون الأولى كلّ أنواع الوثنيّة والشرك، وما زالت تكافح وتقاوم الوثنيّين وأصحاب البدع. ومن البدع المشهورة في هذا المجال بدعة ” ماني ” التي تعتمد على الفلسفة المازديّة بإيران، وهي تُعْلن أنّ هناك إلهين: إله الخير وإله الشرّ. وكلاهما في صراع مستمرّ طوال التاريخ. فكافحت المسيحيّة هذه البدعة بكلّ قواها وأعلنت أنَّ: لا إله إلاَّ واحد. و كلّ هذا تأكيدًا لأنَّ المسيحيّة تعتمد على الوحدانيّة.

رابعًا العقل يثبت وحدانيّة الله
إنْ أخذنا الموضوع من ناحية أخرى وتساءلّنا: هل العقل السليم يستطيع أنْ يصل إلى إثبات هذه الحقيقة ( أنَّ لا إله إلاَّ واحد ) بالتفسير المنطقي؟ بالطبع نعم، لأنّنا، عندما نلفظ كلمة: ” الله “، ماذا نقصد بها؟ الله هو الكائن الذي يشمل في ذاته كلّ الوجود وكلّ الممكن وكلّ المستحيل. هذا هو الله. فإنْ افترضنا وجود إله آخر بجواره، خارج دائرة الألوهيّة، نفينا كيانه كشامل الكلّ. فالله لا يكون إلاَّ إذا شمل ذلك الكائن الآخر الذي بجواره، لأنَّ الله يجب أنْ يشمل في ذاته كلّ الوجود. فتصبح دائرة الألوهيّة بلا حدود، ليس في خارجها شيء ولا شخص ولا كائن مادّي أو روحيّ أو أرضيّ أو سمائيّ، أيًّا كان. فحين نقول: ” هناك ثلاثة آلهة “، يكون كلامنا مناقضًا لذاته. فإذا افترضنا أنَّ الآلهة الثلاثة تقاسموا الوجود أو الألوهيّة، يعي قلنا إنّ تعريف الإله لا ينطبق على أحدهم، لأنَّ كلمة الله شاملة لكلّ الوجود

إذن فإنَّ معطيات الدين المسيحيّ ومعطيات العقل والفلسفة تتقابل لإعلان وحدانيّة الله.

الجزء الثانى

ضرورة المحبّة في الله ومقتضياتها

ما دام الله واحدًا، فكيف نفسّر عقيدة الثالوث؟ الثالوث الأقدس لا يُفسَّر إلاَّ من خلال إطار الوحدانيّة، ولكن كيف يمكن أنْ نجمع بين وحدانيّة الله وتثليثه؟ هذه مشكلة ضخمة عانت منها الكنيسة كثيرًا في القرون الثلاثة الأولى من تاريخها، وتصدّت في أثنائها للكثير من البدع، إذ إنّ الموضوع ليس سهلاً. لا يجوز أنْ نعتقد بأنَّ أجدادنا المسيحيّين الأوائل قد تقبّلوا هذه الحقيقة بسهولة، كما نجترع رشفة ماء، بلّ إنّهم بالتفكير الجادّ المضني صاغوا هذه الحقيقة في قانون الإيمان الذي جاء نتيجة مجمع نيقية سنة 325، ثمّ مجمع القسطنطينية الأوّل سنة 381، وأصبح هذا النصّ هو المرجع الأساسيّ لإيماننا. ولكنْ لم يتمّ ذلك إلاَّ بعد اجتهادٍ شاقٍ ومعاناة طويلة لتحديد بعض المفاهيم الخاصّة بالثالوث. وعلى هذا، فإنّما لا نستغرب أن نجد صعوبة في هذه العقيدة. والآن فلنبدأ في التسلسل المنطقيّ الذي سيجعلنا نتعمّق في الموضوع شيئًا فشيئًا.

الله كامل
كلّنا نوافق على أنَّ الله كامل، وأنَّه، إنْ لم يكن كاملاً، فلا يكون الله. فكلمة “كامل” تعني أنَّ الله يجمع في ذاته كلّ الصفات الحسنة على الإطلاق. إنْ كنت أنا ذكيًا، فهو ذكيّ على الإطلاق، وإنْ كنتُ حكيمًا، فهو حكيمٌ على الإطلاق. وإنْ كنت رحيمًا فإنّه رحيمٌ على الإطلاق. فإنْ كان في العالم محبّة، ومصدر العالم هو الله، يجب إذًا أنْ يمتاز الله بهذه المحبّة على الإطلاق. والخلاصة أنَّ كلّ الصفات الحسنة التي في العالم هي في الله، ولكن على وجه الإطلاق.

الله محبّة
في نظر الفكر المسيحيّ، يلخّص الاعتراف بأنّ الله محبّة كلّ صفات الله التي يُمْكن أنْ نصفه بها، لأنّ كوْن الله محبّة يفترض أن يكون رحيمًا ورزّاقًا وغفورًا… إلخ.

ولكن الاعتراف بأنّ الله محبّة لا ينفصل عن الاعتراف بأنّ الله ثالوث، والاثنان مرتبطان ارتباطًا حتميًا، كما سنراه في ما يلي. ونصل لهذه النتيجة بالاستعانة بالعقل البحت،واضعين طبعًا في الخلفيّة إيماننا وعقيدتنا.

ما هى المحبّة؟
المحبة هي بذل وعطاء. فعندما نقول: ” إنَّ الله محبّة “، نعني أنَّ تلك المحبّة تقضي لدى الله بذلاً وعطاءً. ولكن إنْ تساءلّنا: بذل وعطاء لِمَن، افترضنا أنَّ المحبَّة تقتضي ثنائية: حتى يكون هناك محبَّة، يجب أن يكون هناك طرفان: طرف يعطي وطرف يستقبل. يبدو لنا إذًا تناقض ظاهريّ بين كَوْن الله واحدًا وكَوْنه محبّة. ونعود للسؤال: بذل وعطاء لِمَن؟

تظهر هنا عدة اقتراحات أو احتمالات سنضعها ونناقش كلاَ منها:
* أوّلاً: أن يكون الطرف الثاني إلهًا آخر. إنَّ ذلك أمر مرفوض أصلاً، لأنَّ العقل لا يقبل تعدّد الألهة، كما سبق وأوضحنا.
* ثانيًا: إن قلنا: إنّ الله يحبّ نفسه، نُلغي صفة المحبَّة منه، لأنَّ حبّ الذات عكس المحبّة ونقيضها، ولأنَّ المحبَّة تحتّم وجود علاقة عطاء وتبادل ومشاركة.
* ثالثًا: قد يقول قائل: إنَّ الله أفاض من محبّته على الخلق والبشر، فلا داعي إذًا أنْ نفترض داخل إطار الإلوهيّة مجالاً آخر للتعبير عن هذه المحبَّة. وعلى هذا الرأي، يمكننا أنْ نعترض للأسباب الآتية:

لماذا يعجز المخلوق عن أن يتيح لله مجالاً كافيًا للتعبير عن محبّته اللامتناهيّة؟

* 1- لأنّ المخلوق محدود في الاستيعاب والقـبول، إذ إنّ الله، مهما بذل من محبّة وأفاضها على مخلوقاته، لا يستطيع أنْ يفيض علينا كلّ ما لديه من محبّة، فإنَّ للمخلوق طاقة محدودة للأخذ والقبول والاستيعاب. فيكون العطاء محدودًا، لا من حيث المعطي، أي الله، بلّ من حيث القابل، أي الخليقة والإنسان. وبما أنَّ الله بذلٌ وسخاء مطلقان، فمن الواضح أنّ الخليقة عاجزة عن أن تتيح لله مجالاً كافيًا لتحقيق محبّته اللامحدودة، إذ ليس في طاقة المحدود أن يستوعب اللامحدود. ومهما كثر عدد المخلوقات، تظلّ هذه الحقيقة ثابتة، إذ إنّ المحدود + المحدود لا يمكن أنْ يساوي اللامحدود. والمحبّة الإلهية اللامحدودة لا يمكن أن تعبّر عن ذاتها بطريقة مطلقة من خلال الكائنات المحدودة، أي المخلوقات.

لا يعني هذا أنَّ الله لا يحبّنا، لكنّ كلّ شحص يأخذ من حبّ الله بقدر استيعابه. فلا يمكن لكوب أن يستوعب من الماء أكثر من سعته، مهما صُبّ فيه من ماء. فخلاصة القول هو أنّ المخلوق عاجز تمامًا عن أنْ يتيح لله مجالاً مناسبًا للتعبير عن محبّته اللامحدودة.

* 2- لأنّ الخلق محدود في الزمن أيضًا. الخلق له بداية ونهاية. لم يكن منذ الأزل، بل ظهر في زمن ما وفي مرحلة معيّنة من تاريخ الكون. فأطرح هنا سؤالاً: هل كان الله يتمتّع بصفة المحبّة من قبل وجود الإنسان والكون؟ الجواب طبعًا: “نعم”. ولكن مَنْ هذا الطرف الآخر الذي كان الله يحبّه قبل إنشاء العالم؟ فمن الضروري أن يعيش الله محبّته، سواء كان العالم موجودًا أو لم يكن. لذا يستحيل أنْ يمثّل العالم الطرف الآخر للمحبّة الإلهية، لأنَّه محدود في الزمن.

* 3- لأنَّ الله لا يمكن أنْ يتقـيّد بالخلق تقـيّدًا ضروريًّا. لو كان تحقيق الذات الإلهيّة مرتبطًا بالمخلوق ارتباطًا حتميًا، لَمَا كان الله إلهًا. وإنْ كان الله مقيّدًا بالمخلوق حتّى إنّ المخلوق يصبح شرطًا أساسيًا لتحقيق ذاته الإلهيّة وللتعبير عن محبّته، لا يبقى الله إلهًا. الله هو الغنيّ، أي في غنًى عن أي كائن آخر سواه، وهو المكتفى بذاته.

من الواضح ممّا سبق أنّ الله، حتّى يكون الله، يجب أنْ يتّصف بالمحبّة المطلقة، وأنَّ المحبّة تقتضي الثنائيّة، وأنّ الثنائيّة على شكل إله آخر مستحيلة، إذ لا إله إلاَّ الله، وأنّ الثنائيّة على الخليقة والإنسان مستحيلة، لأنّ الإنسان عاجز عن أن يمثّل الطرف الآخر للمحبّة الإلهيّة للأسباب التي عرضناها. إنّنا مضّطرّون إذًا، لعجزنا عن إيجاد الثنائيّة خارج إطار الألوهيّة، إلى البحث عنها داخل إطار الله ذاته، أي في داخل إطار وحدانيّة الجوهر الإلهيّ، لا في خارجه.

الجـزء الثالث
ولادة الابن

الولاده الأزليّة فى قالب خياليّ وعلى شكل أسطورة
والآن، فلكيّ تتجلَّى هذه القضية، سأروي هنا قصّة أحاول من خلالها أنْ أوضّح ما يحدث في الذات الإلهيّة. ولكن سأضطرّ إلى وضع هذه الحقيقة في قالب خيالي وتسلسل زمني، نتصوّر داخله وقوع أحداث متوالية، كمراحل تطوّر إلهيّ، مع التأكيد أنّ هذا خطأ بالطبع، لأنَّه، في الذات الإلهيّة، لا زمن ولا تطوّر من حالة إلى حالة ولا أفعال متوالية. ولكنّنا كبشر لا نستطيع أنْ نتكلّم عن الله إلاَّ في إطار زمنيّ، بلّ إنَّ هذا الإطار الزمني ضروريّ لنا. وفي آخر حديثنا سأقول: ألغوا عنصر الزمن من القصّة، فإنّ كلّ هذه الأحداث قد حدثت في آنٍ واحدٍ وفي لحظة واحدة – لحظة أزليّة.

وها أنا أبدأ قصّتي.

كان ياما كان، في قديم الزمان، ملك عظيم، ذو لحية بيضاء، وعلى رأسه تاج من اللآلئ الثمينة، وفي يده صولجان. والشيخ جالس على عرشه من الذهب والأرجوان، وفوق رأسه نُحِتَت هذه الكلمات: ” الله جلّ جلاله… لا إله إلاَّ هو “.

وكان هذا الملك يردّد في ذاته: ” أنا هو الله، ربّ الوجود، سيّد كلّ شيء، أنا الله بمفردي، لا إله إلا أنا…” وظلّ يُكرّر هذه الكلمات مرارًا وتكرارًا عبر العصور والأجيال حتّى أصابه الملل والازعاج فقال في نفسه: ” أنا الله، صاحب كلّ سلطة وقدرة وجلال… ولكن ما الجدوى؟ ما الجدوى، إنْ لم أجد مجالاً لحبّي الفيّاض؟ ما جدوى عظمتي دون الحبّ؟ ما جدوى سلطتي وقدرتي وجلالي، إنْ لم يكنْ فيّ المحبّة؟ كيف أحبّ وليس أمامي طرف آخر، يشاركني هذا الحبّ؟ كيف أحبّ وأنا منفرد منعزل، لا إله إلاًّ أنا…؟ “.

في تلك اللحظة كان الله يشعر في داخله بنزعة قويّة عارمة تدفعه إلى أنْ ينطلق خارج ذاته انطلاقة عطاء كامل ومطلق، والصوت الداخلي يهمس بإلحاح: ” أحبب أحبب… أحبب بكلّ ذاتك واجعل قدرتك اللامحدودة قدرة حبّ لامحدودة “.

فأخذ الصوت الداخلي يزداد إلحاحًا وقوّه ويكبر ويتصاعد ويعمّ، حتّى تحوّل إلى تيّار جارف جعل الله ينفجر انفجارًا فجائيًا وينطلق انطلاقة كاملة بفعل حبّ مطلق أفرغ فيه ذاته الإلهيّة تفريغًا شاملاً. فوجد أمامه طرف آخر يشابهه تشابهًا كاملاً ويتّصف بكلّ صفاته الإلهيّة، بلّ أصبح صورة مطابقة تمامًا لِمَا هو عليه. فصرخ الله بصرخة فرح وإعجاب واندهاش: ” هذا هو ابني الحبيب الذى عنه رضيت…”. وفي تلك اللحظه، حقّق الله في ذاته صفة الأبوّة وصفة الأقـنوم الذى كان يفتقدهما.

ولكن، عندما وهب الله ذاته للابن، هل وهبه أيضًا صفة الألوهيّة أم لا؟… طبعًا نعم، لأنّه ما كان ممكنًا أنْ يحتفظ الله بشيء له، إذ كان لا بدّ أنْ تكون محبّته محبّة مطلقة تجعله يهب فيها كلّ ما كان لديه، بما فيه الألوهيّة التي لا تنفصل عن كيانه. فوهب الآب لابنه كلّ ذاته وأعطاه أنْ يكون إلهًا مثله.

فتعجّب الابن من وجوده ومن كماله ومن ألوهيّته وتساءل: من أين لي هذا كلّه؟ فالتفت إلى أبيه وقال له: ” هل أنت صاحب كلّ هذا؟ هل أنت مصدر كياني؟ هل أنت منبع ألوهيّتي؟ هل أنا الله بالحقيقة ؟ “… فكان جواب الآب: ” نعم… لقد وهبتك كلّ ما لى وكلّ ما لديّ وكلّ ما أنا عليه، فأنت ابنى بالحقيقة، ابني الوحيد، ابني الحبيب الذي فيه كلّ رضاي ”
فقال الابن في ذاته بإعجاب: ” ها أنا أصبحت كلّ شئ دون أبي… ها أنا أصبحت إلهًا، صاحب القدرة والجلال والعظمة… لا إله إلاَّ أنا… فهل أحتفظ بتلك الهبة وأعتبرها ملكًا لي؟ “… وفي تلك اللحظة، سمع الابن في داخله صوتًا خافتًا يهمس إليه: ” كلّ ما لديك فمن أبيك الذي هو منبع كيانك… فكيف تحتفظ به ولا تعيده إلى مصدره، بحركة حبّ بنويّ مطلق؟…”.

هذا الصوت الذي دفع الآب إلى أنْ ينطلق خارج ذاته هى نزعة المحبّة التى تناولها الابن من الآب فى طيّات الهبة الإلهيّة… فكانت النتيجة أنّ تلك النزعة جعلت الابن يشعر بضرورة إعادة الهبة الإلهيّة إلى صاحبها. فتخلّى عن ذاته كليًا وأعكس السهم وأعاد الهبة إلى الآب قائلاً: ” كلّ ما لى وكلّّ ما لديّ فهو منك ولك… فأرجو قبول ذاتى وتلك الإلوهيّة التى هى ملكك…”.

ولكن لم يكنْ ممكنًا أنْ يستعيد الآب ما قد وهبه، فرفض الهبة من ابنه، إذ إنّه لا عودة فى المحبّة. فكلّ منهما رفض أنْ يمتلك تلك الهبة حتى إنّها ظلّت بينهما، لا للآب وحده ولا للابن وحده، بل كمُلك مشترك بينهما. وهذه الهبة هى ما نسمّيه الذات الإلهيّة أو الجوهر الإلهي .
وقد يقول قائل: ” بدلاً من هذا التنازع بين الآب والابن، أمَا كان ممكنًا أنْ يتقاسما الهبة بينهما؟…” كلاَّ، هذا أمر مستحيل، إذ إنّ الألوهيّة لا تحتمل الانقسام إطلاقًا، والجوهر الالهي إمَّا أنْ يكون واحدًا وإمّا أنْ لا يكون…

ولادة الابن ولادة روحيّة لا جسديّة
إن كلمة ” ولادة ” توحي عند بعض الناس بولادة بشريّة، أي بولادة جسديّة جنسيّة، بمعنى أنّ الله تزوّج حتّى يلد الابن.

مَنْ يُفكّر بهذه الطريقة فهو بعيد طبعًا كلّ البعد عمّا نسمّيه ولادة الابن. الولادة التي نتكلّم عنها هي ولادة روحيّة، لا تحتمل أيّ تفسير بشريّ، جسديّ، من أيّ نوع. لذا نرى يوحنّا الرسول، إلى جانب تعبيره عن ” الابن “، يستعمل تعبيرًا آخر وهو: ” الكلمـة “، باليونانية ” لوجوس “. وقد استخدم كلمة ” لوجوس ” تحاشيًا لأيّ تفسير مشوّه.

عندما يتحدث الإنسان، فكلامه صادر من داخله ويُعبّر عن ذاته ونفسه، والكلمة المعبّرة عمّا في داخل الإنسان نطلق عليها في العربية الفصحى عبارة: ” بنت شفة “. فماذا تقول لمَن يسألك عن لون شعر هذه البنت أو عن لون عينيها؟ هي بنت شفة مجازًا. فعندما نقول: ” ابن الله “، من الطبيعي أنْ يكون هذا الابن بالمعنى الروحيّ، تلك الكلمة التي لفظها الله، وهي كلمة روحيّة. ولهذا فلفظ ” الكلمة ” مكمّل لِلَفظ الابن، يُكسبه مذاقًا روحيًا، لأنّ الولادة ولادة روحيّة.

ولاده الابن ولادة واحدة وحيدة لا تكرار فيها
لا تكرار في الولادة لدى الله. لماذا؟ لأنّ المحبّة الإلهيّة، عندما تعطي من ذاتها، فهي تعطي كلّ شيء وتهب كلّ ما لديها. فعندما وَلَد الآب الابن، وَهَب له مرّة واحدة كلّ ذاته ولم يبقَ لديه شيء يهبه لابن آخر، خلافًا لِمَا يجرى عند البشر، فهم ينجبون مرّات كثيرة، وكلّ ابن يكتسب بعص صفات والدَيه. أمّا ابن الله، فقد أخذ من أبيه كلّ شيء بالكامل، حتّى إنّه صورة مطابقة للأصل: لذلك عندما سأل فيلبّس المسيح عن أبيه، أجابه: ” مَن رآني رأَى الآب. فكَيفَ تَقولُ: أَرِنا الآب؟ أَلسْتَ تُؤِمِنُ بِأَنِّي في الآبِ وأَنَّ الآبَ فيَّ؟ ” (يوحنا 14/9-10). نعم، بكلّ تأكيد، الابن صورة مطابقة للأصل، ” مَنْ رآني رأَى الآب “. وليس لدينا وسيلة أخرى لمعرفة الآب إلاَّ الابن.

نردّد فى قانون الإيمان: ” نؤمن بربّ واحد، يسوع المسيح، ابن الله الوحيد “. نعم، إنَّ الابن هو وحيد، ولا يمكن أن يكون هناك اثنان. وإلاَّ لكان الآب قد وهب لكلٍّ منهما بعضًا ممّا لديه، وهذا مستحيل. إنّ حركة الحبّ في الله لا يمكن أنْ تكون حركة محدودة، بلّ هي حركة كاملة مطلقة. حين أفرغ الآب ذاته في الابن، لم يبقَ لديه شيء آخر يعطيه بعد ذلك.

وإذا تناولّنا هذه الحقيقة على مستوى النطق، رأينا أنّ الإنسان يحتاج إلى كلمات كثيرة ليُعبّر عن ذاته. أمّا الله، فإنَّه، عندما ينطق، فبكلمة واحدة يُعبّر عن ذاته بكاملها. هذه الكلمة هي الكلمة الأزليّة.

ولادة الابن ولادة أزليّة
نقول في قانون الإيمان: ” نؤمن بربٍّ واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كلّ الدهور “، أيّ منذ البدء. لذا قيل في إنجيل يوحنّا: ” في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله ” (يوحنّا 1/1). ما معنى كلمة ” البدء ” هنا؟ هل هناك بدء عند الله؟ وما معنى ” منذ الأزل “؟.

نتصوّر أحيانًا أنّ الأزليّة والأبديّة عند الله هما على شكل زمن يمتد من الماضي إلى المستقبل، بلا حدود، إلى ما لا نهاية. لكن الحال ليست هكذا، وليس هناك مرحلة معيّنة لم يكن الابن مولودًا فيها من الآب. لقد ورد في قصّتي أنّ الله قضى زمنًا طويلاً منفردًا منعزلاً، قبل أن ينطلق في ابنه. لكن لم يحدث قطّ، في وقت من الأوقات، أنّ الآب كان وحده. فحين نقول إنّ الابن مولود من الآب قبل كلّ الدهور، لا نقصد بذلك أنّه وُلد في زمن معيّن، بلّ قبل الزمن، أي منذ الأزل. وولادته لا بداية لها، تصحيحًا لِمَا وَرَدَ في قصّتي.

أزليّة الله وأبديّته هي حاضر مستمرّ يرتكز في محوره أطراف الزمن: حاضر يمتدّ إلى أقاصي الزمن ويجمعه في آنٍ واحدٍ وهو ” الآن “. ” الآن ” الإلهيّة هي آنٌ شاملة الزمن، ليس لها ماضٍ، ولا مستقبل. الأمس عند الله هو الآن، وغدًا أيضًا هو الآن. القرن الماضي والقرن الآتي هو الآن. لذلك لا يجوز أنْ نقول إنّ الآب ” ولد” الابن، بصيغة اماضي، كأنّه حدث تمّ في قديم الزمان. ولكن التعبير الأصحّ هو أنَّ الآب ” يلد ” الابن لأنّ ولادة الابن تتمّ اليوم وفي اللحظة الحاضرة – أيّ الآن. وهذا هو سرّ الأزليّة الذي لا نستطيع إدراكه، لأنّنا كبشر نعيش في امتداد حقبات زمنيّة.

الابن مساوٍ للآب في الجوهر
قد تقولون: بما أنّ الابن وُلدد من الآب، فالآب له فضل على الابن، وهو أعظم منه. فكيف نقول في قانون الإيمان إنّ الابن مساوٍ الآب في الجوهر؟…

ممّا لا شكّ فيه أنَّ الآب هو مصدر الابن. لذا نسمّيه الآب، والابن نسمّيه الابن لأنه من الآب. والمسيح نفسه يقول في الإنجيل هذا القول المدهش: ” لأَنَّ الآبَ أَعظَمُ مِنِّي ” (يوحنا 14/28).

وهذه الكلمات قد تُشكّك الكثيرين من المسيحيّين وغير المسيحيّين. فكيف يجب أنْ تُـفهم؟.

إذا تتبّعنا التسلّسل الزمنيّ، كما ورد في القصّة، يكون الآب أعظم من الابن، لأنّ الآب هو مصدر الابن، وله فضل عليه. لذلك نقول عن الابن في قانون الإيمان: ” إله من إله، نور من نور، إله حقّ من إله حقّ “. ويعني ذلك أنّ ألوهيّة الابن ونوره يأتيان من مصدر آخر، ألا وهو الآب، وكأنّ الابن ما هو إلاَّ انعكاس ألوهيّة الآب ونوره.

فأين المساواة بين الأب والابن؟.

سنوضّح هذه المساواة عندما نُدرك أنَّ بين الآب والابن شرط وجود متبادَل، فلا وجود للابن إلاَّ من خلال الآب، ولا وجود للآب إلاَّ من خلال الابن. وكما أنَّ الابن لا ينفرد بذاته بعيدًا عن الآب، كذلك الآب لا يستطيع أنّ يحقق ذاته إلاَّ بفضل الابن. فهناك فضل متبادَل بين الآب والابن، لأنَّ كلاً منهما شرط للآخر. كيف ذلك؟ هل يمكن للآب أنْ يُحقق أبوّة بدون الابن؟ طبعًا لا. فوجود الابن ضروريّ لتتوافر صفة الأبوّة لدى الآب. وهل يمكن للآب أنْ يعيش المحبّة المطلقة بدون الابن؟ طبعًا لا. فوجود الابن ضروري أيضًا لتتوافر صفة المحبّة لدى الآب.

عندما قلنا إنَّ الله كان في البدء وحيدًا، ارتكبنا خطأ، إذ لا يمكن أنْ يكون الله وحيدًا، لأنّه، دون انطلاقة المحبّة التي تؤدّي إلى ولادة الابن، ليس هناك ألوهيّة. وتلك الألوهيّة هي علاقة الحبّ المتبادَل بين قطبيّ الذات الالهيّة. في ديناميّة العطاء بينهما، يصبح الآب أبًا والابن ابنًا، ويوجَد الاثنان في اللحظة نفسها كشرط أساسيّ لوجودهما المتبادَل.

ما من أولويّة ولا تفضيل بين الآب والابن، لأنَّ الاثنَين يوجَدان معًا فى الحركة واللحظة نفسيهما، فى لحظة أزليّة.

الجـزء الرابع
الروح القدس

لقد تحدّثت حتّى الآن عن الآب والابن، وتجاهلت الروح القدس كأنّ ليس له من وجود أو دور، وكأنّ كلّ ما تمّ بين الآب والابن تمّ بدونه. فهل للروح دور في إطار اللاهوت وأيًّا قد يكون هذا الدور؟.

الروح القدس في الثالوث
في إطار قصّتنا، تحدّثنا عن صوت خافت يهْمِس داخل الآب ليدفعه إلى أنْ يحبّ وينطلق… ووجدنا نفس الصوت يهْمِس أيضًا داخل الابن ليدفعه هو بدوره إلى أنْ يُعيد الهبة التي نالها إلى مصدرها… فنستطيع الآن أنْ نكشف اسم هذا الصوت الخافت: فهو الروح القدس الذي يمثّل نزعة العطاء في الألوهيّة.

إن الروح القدس بمثابة سهم ذي اتجاهين، يمثّل ديناميّة الحبّ بين الآب والابن وحركة العطاء المتبادَل بينهما. وهو السهم الذي يدفع كلاً منهما نحو الآخر. هو في الآن نفسه يربط ويوحّد بينهما… لذلك نرى الكنيسة، في ختام صلواتها، تذكر دائمًا الآب والابن ” في وحدة الروح القدس “… فالروح القدس شرط لتحقيق المحبّة الإلهيّة، بلّ هو المحبّة بالذات.

الروح القدس فى الكتاب المقدّس
إنَّ الروح في الكتاب المقدّس له شخصيّة غامضة وشبه متناقضة. فنجده على شكل طير يرفرف على وجه المياه في بداية الخليقة، أو على شكل حمامة تحلّق فوق نهر الأردن يوم عماد المسيح – وقد يكون هذا رمزًا للخصب ولبَثّ الحياة. (تكوين 1/1 ومتّى 3/16).

ونجده أيضًا على شكل نسمة نَفَخَ بها الله في أنف آدم، عندما خلقه (تكوين 2/7) – وأيضًا على شكل نسيم خافت حين كان إيليّا النبي على جبل الكرمل ( 1 ملوك 19). ولكنّه ظهر أيضًا بشكل مخالف تمامًا يوم العنصرة، حيث تحوّل النسيم الخفيف إلى ريح عاصفة هزّت البيت على قواعده. ثمّ نزل الروح على شكل ألسنة من النار أشعلت التلاميذ غيرةً وشجاعة وأطلقتهم إلى الخارج (أعمال 2).

وسمّيَ أيضًا الروح في الإنجيل ” الباركليت ” وهي كلمة تعني المعزّي أو المحامي أو المُلْهم (يوحنّا من 15/26 إلى 16/15 ).

وبولس الرسول يتكلّم عن الروح كلامه عن العنصر الجامع والموحّد في الكنيسة التي، رغم اختلاف المواهب والوظائف فيها، تشكّل جسدًا واحدًا (1 كورنتس 12). وهذا الدور في الكنيسة يشابه تمامًا الدور الذي يقوم به الروح في داخل الثالوث.

الروح القـدس في الإنسان
عندما يحاول الإنسان أنْ يتصوّر الروح، يجد نفسه عاجزًا. فما هو الروح، وما شكله وها هو كيانه؟ ولماذا لا يمكن تحديده؟.

في استطاعتنا أنْ نتصوّر الأبوّة في الله مقارنة بالأبوّة البشريّة، وكذلك يمكننا أنْ نتصوّر كيان الابن من خلال الإنجيل. أمَّا الروح القدس، فلا نعرف عنه الكثير. وقد لا نفهمه، لأنَّه مصدر الفهم، ولا نعرفه لأنه منبع المعرفة، تمامًا كما أنَّ النور لا يُرى لأنَّه مصدر الرؤية. أنت لا ترى عينيك، لأنها جهاز البصر في جسمك. والروح هو عنصر يقيم في داخلنا ويجعلنا نفهم كلّ شيء، دون أنْ نفهمه. وهو الذي ينير كل شيء فلا نستطيع أنْ نراه. إنَّه مصدر الفهم والبصر والرؤية. وله في الانسان نفس الوظيفة التى يمارسها في الله، وظيفة انطلاقيَّة، تجعل الإنسان يبذل نفسه ويهب ذاته. هو حركة الحياة، حركة الانبثاق.

انبثاق الروح القدس
يتحدّث قانون الإيمان عن الروح بأنَّه منبثق “. فما معنى ” الانبثاق “؟ وما الفرق بين الولادة والانبثاق؟ نقول عن الابن إنَّه مولود من الآب لأنَّه يأخذ من الآب كلّ شيء. ومفهوم الولادة هو عطاء من ناحية وقبول من ناحية أخرى. أمَّا الانبثاق فهو دفعة أو نزعة لتحقيق العطاء والمحبَّة، أو هو حركة انطلاق واندفاع، ينبثق الروح القدس بقدر ما تتحقَّق المحبَّة من الآب والابن بالعطاء المتبادَل.

إذا عُدنا إلى القصة الأولى، نستطيع أنْ نقول إنَّ الروح القدس قد اكتمل عندما أعاد الابن الهبة إلى الآب، مع عدم وضع عامل الزمن فى الحسبان. إنَّ حركة الانبثاق قد تمّت عن طريق الولادة. فيمكننا القول إنَّ الولادة شرط للانبثاق، كما أنَّ الانبثاق شرط للولادة. وما قلناه عن الآب والابن بأن تواجدهما فى آنٍ واحدٍ مرتبط بوجودهما معًا، نقوله كذلك عن الروح القدس. لا يمكن أنْ نتصوّر الآب والابن بدون الروح القدس، لأنَّه شرط إتمام هذه الحركة. لذا يتواجد الثلاثة معًا كشرط تواجدهم كإله واحد: الثلاثة مرتبطون ارتباطًا لا ينّفك. وهم معًا كشرط لتحقيق الألوهيّة الواحدة. هذا ما حاولّنا إثباته عن طريق المنطق والعقل.

هناك نقطة خلاف بين الكاثوليك والأرثوذكس بالنسبة إلى انبثاق الروح القدس. يصف الكاثوليك الروح القدس في قانون الإيمان بأنَّه منبثق من الآب والابن، في حين أنَّ الأرثوذكس يقولون إنَّه منبثق من الآب فقط. فما هو تفسير هذا الخلاف؟ عندما صيغ قانون الإيمان في القرن الرابع الميلاديّ، صيغ هكذا: ” المنبثق من الآب” كما ورد حرفيًا في إنجيل يوحنّا (15/26).

وحين انفصلت كنيسة مصر عن كنيسة رومة، احتفظت بهذه الصيغة الأصليّة – أمَّا الكنيسة البيزنطية فمالت إلى التعبير الآتي: ” المنبثق من الآب من خلال الابن “… فى حين توصَّل اللاهوت الكاثوليكي إلى العبارة الآتية: ” الروح القدس منبثق من الآب والابن “. والتعبيرات الثلاثة صحيحة في نظري. فالروح القدس منبثق من الآب، لأن الآب هو الصدر، وهو ” منبثق من خلال الابن “، لأنَّ انبثاق الروح تمَّ عن طريق ولادة الابن، ولا مانع من أن نقول إنَّه ” منبثق من الآب والابن “!!! إذ إنَّه روح الآب والابن على السواء، وهو السهم ذو الاتجاهين الذي يمثل العطاء المتبادَل بين الآب والابن. وهذا ما جعل الكاثوليك يقرّون بأنَّ الانبثاق هو من الآب والابن، وأدخلوا هذا التعديل في القرن الرابع عشر!!!.

ثلاثـة فى واحد
بعد ما حاولنا أنْ نحلّل وأنْ نفسّر ما لا يُفسّر، لنفهم مقتضيات المحبَّة في الكيان الإلهيّ، علينا الآن أنْ نجمع ونوحّد ما اضطررنا إلى أنْ نجزّئـه.

هذه التجزئة في حيّز مكانيّ كانت تهدف إلى تقريب الموضوع إلى عقولنا الضعيفة، مع أنَّه ليس هناك مجال، في الذات الإلهيّة البسيطة والروحيّة، لمكان أو لمسافة.

كذلك اضطررنا أيضًا إلى أنْ نضع في إطار زمنى ما هو أزليّ وأبديّ لدى الله.

فعلينا الآن، في نهاية المطاف، أنْ نُلغي عنصر المكان وعنصر الزمن اللذين أدخلناهما خطأ في الذات الإلهيّة.

علينا الآن أنْ نضغط على هذه الدوائر الثلاث حتّى نجعل منها دائرة واحدة تجمع الآب والابن والروح القدس في وحدانيّة الذات الإلهيّة البسيطة.

ليس هناك ابن أمام الآب ومنفصل عنه.
ليس هناك آب فوق الابن ومنعزل عنه.
وليس هناك روح مستقلّ عنهما، إذ إنَّه روحهما المشترك.
وليس هناك ذات إلهيذة قائمة بذاتها خارج الأقانيم الثلاثة كعنصر رابع متميّز عنها.

إن كنّا قد لجأنا إلى هذه التصوّرات، فلكي نشرح فقط، ولكوننا جسديّين وزمنيّين.

فى الولادة البشرية، ينفصل الابن عن أبويه ليتمتّع بحياة مستقلة وكيان منفصل، في حين أنَّ ولادة الابن من الآب هي ولادة داخل الذات الإلهيّة ولا تمثل أي انفصال عن كيان الآب، بل هى ثبات فيه. إنَّ تعبير الإنجيل صريح وواضح كلّ الوضوح، فهو يتكلم عن ” الابن الواحد الذي في حضن الآب ” (يوحنا 1/18).

لم ينفصل الابن عن الآب لحظة واحدة، ولم يبتعد عنه على الإطلاق، حتّى فى عمليّة التجسّد. وهذا ما جعل يسوع يردّ على فيلبّس الذي قال له: ” أَرِنَا الآَب وحَسْبَنَا “: ” يَا فِيلُبّس، مَنْ رَآَنِي رَأَى الآب … أّلاَ تُؤمن بأنِّي في الآب وأنَّ الآب فيَّ ؟ ” (يوحنّا 14/10).

كلّ ذلك يؤكّد أنَّ التثليث في الذات الإلهيّة الواحدة لا يقبل أيّ تجزئة ولا تفرقة ولا ابتعاد ولا انفصال ولا تعدّد.

إنَّ الله واحد، والتثليث فيه يُثبِّت هذه الوحدة ويكلّلها، أو بتعبير آخر، إنَّ الثالوث قمّـة الوحدانيـّة.

الجزء الخامس
بعـض التساؤلات
عـن سـرّ الثالـوث الأقـدس

كم مرّة وُلد المسيح؟
وُلـد المسيح مرتين: الأولى مذ الأزل كابن الله من الآب والروح القدس وهي ولادة روحيّة. والثانية في ملء الزمان كابن الإنسان من العذراء مريم والروح القدس، وهي ولادة بشريّة جسديّة. ونلاحظ أنَّ الروح القدس هو في كلتَي الحالتَين مصدر الولادة، سواء من الآب أم من العذراء مريم.

ما معنى كلمة أقـنوم؟
في اللاهوت المسيحيّ نقول إنَّ ” الله واحد في ثلاثة أقانيم “. فما معنى ” أقنوم “؟ إن كلمة ” أقـنوم ” تعنى شخصًا. فنقول إنَّ الآب أقنوم والابن أقنوم والروح القدس أقنوم. لماذا لا نستخدم كلمة ” شخص ” ونقول إن الله واحد في ثلاثة أشخاص؟ لقد رفضت الكنيسة استخدام كلمة ” شخص “، لأنَّ هذه الكلمة قد توحي لبعض الناس بكائن بشريّ له حدوده وشكله وملامحه. فتحاشيًا لكلّ تصوّر خاطئ ولكلّ تحديد للأثسخاص الإلهيّة، لجأت الكنيسة إلى كلمة غير عربيّة، مصدرها سريانيّ. وقد استخدمت كلمة أقنوم في اللاهوت المسيحيّ للإشارة إلى الأشخاص الإلهيّة الثلاثة. وهى لا تستخدم فى أي مجال آخر غير هذا المجال.

أين صورة الثالوث في الطبيعة والمخلوقات ؟
أي عمل فنّيّ يُعَبّر عن دواخل الذي أنجزه حتى إنّه، من خلال دراسة عمله، يمكننا أنْ نستشف طباع الفنان وشخصيته. فهل طبع الله في الكون والإنسان ملاح كيانه الداخلي؟ وبمعنى آخر، هل من الممكن أنْ نستشف من خلال الخلق صورة الثالوث؟.

حين نتحدّث عن الثالوث، نلجأ عادة إلى تشبيهات معيّنة كالمثلث الذي هو صورة هندسيّة واحدة ذات ثلاثة أضلاع متساوية. أو نشبَّه الثالوث أيضًا بنبتة البرسيم التي تتكوّن من ثلاثة أوراق أو بإصبع واحد ذي ثلاث سلاميَّات. أو نشبّه الثالوث بعقل الإنسان الذي يتمتع بثلاث طاقات: الذكاء والذاكرة والمخيلة. أو نقول إنَّه كالشمس التي هي ضوء وحرارة وقرص.

بالحقيقة أكره تمامًا كل هذه التشبيهات لأنّها تشوّه مفهوم الثالوث، وهي غير مقنعة للعقل على الإطلاق.

فهناك تعبير أراه أفضل وأنسب وهو عبارة عن ثلاث شمعات مشتعلة نقرِّب بعضها من بعض، حتّى تصبح شعلة واحدة، ثمّ نفصل بعضها عن بعض حتّى نبيّن أنّ لكل شمعة شعلتها الخاصّة. ولكن، حتى هذا التعبير هو غير كافٍ، لأنّ الأقانيم الثلاثة لا تقبل الانفصال، وإنْ فصلناها تتحوّل إلى ثلاثة آلهة.

ولكن ألم يطبع الله في المادّة ذاتها صورته؟ والذي يدرس الفيزياء يعلم أنَّ داخل الذرة شحنة موجبة وأخرى سالبة وبينهما طاقة. هذا بالنسبة إلىَّ أقرب صورة وأحسنها للثالوث، إذْ إنَّها تمثل الثالوث بقطبَين متميِّزَين تربطهما طاقة.

نميل عادة إلى تشبيه الثالوث بثلاثة عناصر، في حين يجب أنْ نبحث عنه في شكل عنصرين مرتبطين معًا بعنصر آخر غير منظور على هيئة طاقة. وهذه الطاقة هي الروح، لأنَّ الروح هو عنصر الترابط والوحدة في الكون، وليس هو عنصرًا ثالثًا نضيفه إلى العنصرين السابقين. إنه وحدة العناصر.

الإنسان أجمل صورة للثالوث وأصدقها
وجدنا إذًا على مستوى المادّة صورة للثالوث. ونجدها أيضًا على مستوى جسد الإنسان. فهناك عينان وبصر واحد، أذنان وسمع واحد، رجلان وسير واحد، ذراعان وعناق واحد، رئتان ونفس واحد… إلخ. كلّ هذا يعني أنّ الإنسان، حتّى في جسده، خُلق على صورة الله على شكل ثنائيّة موحّـدة.

ولكن هناك تشبيه أفضل على مستوى الحبّ البشريّ وفى العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة: هما ثنائيّة موحّدة يكوّنان كلاهما جسدًا واحدًا. إنّ هذا أقرب صورة وأعمقها وأجملها لكيان الله.

لذلك، بعد ما قال الكتاب المقدّس إنَّ الإنسان خُلق على صورة الله وكمثاله يُضيف: ” على صورة الله خلقه، ذكرًا وأنثى خلقهم ” (تكوين 1/27)، مستعملاً تارة صيغة المفرد وتارة أخرى صيغة الجمع. وبهذا يريد أنْ يُبَيّن أنَّ هذا الجمع هو مفرد وأنَّ هذا المفرد هو جمع وأنَّ الإنسان، بعلاقته مع المرأة، يكوّن وحدة لا تتجزَّأ: فيكونان كلاهما جسدًا واحدًا… فما جمعه الله لا يفرّقه إنسان (تكوين 2/24ومتّى 19/5-6).

ونجد أيضًا في سفر التكوين تلميحًا آخر إلى سرّ الثالوث في قول الله هذا عن آدم بعدما خلقه: ” لا يحسن أنْ يكون الإنسان وحده فأصنع له عونًا بإزائه ” (تكوين 2/18). فكما أنَّ الله لا يمكن أنْ يعيش إلاَّ في علاقة حبّ وتبادل، كذلك الإنسان الذي خُلق على صورته يحتاج إلى طرف آخر ليبادله حبّه. فلا يحسن أنْ يكون الإنسان وحده ولا يحسن أن يكون الله وحده.

فبامتداد هذا النصّ، يروي الكتابب المقدّس كيف أنَّ الله خلق المرأة من ضلع الرجل مشيرًا بذلك إلى ولادة الابن من الآب وإلى أنَّ الاثنان أصلاّ كائن واحد. لذلك قال آدم عن حوّاء: ” ها هذه عظم من عظامي ولحمٌ من لحمي، فتُسمَّى امرأة لأنَّها من المرء أخذت ” ( تكوين 2/23). فكما أنَّ المرأة مشتقَّة من الرجل في كيانها، يكون اسمها أيضًا كامرأة مشتقَّ من اسم الرجل كمرء – وهذه إشارة جديدة إلى ما يتمّ فى سرّ الولادة الإلهيّة.

بعدما خلق الله الإنسان، أمره بالإنجاب قائلاً: ” أنموا واكثروا واملأوا الأرض “. وهذا يدلّ على أنَّ الحبّ البشريّ خصب في طبيعته ولا يكتمل إلاَّ من خلال الطفل الذي يمثل وحدة الزوجين ورباطهما، إذ لا يكتمل الحبّ البشريّ إلاَّ إذا تحوّل إلى ثالوث.

لذلك، فالحبّ مقدّس، وعلاقة الرجل بالمرأة مقدّسة، لأنَّها تمثّل أعلى تعبير للكيان الإلهيّ. وعندما أرى زوجين يسيران في الطريق وبينهما طفلهما، أرتقي تلقائيًا إلى الثالوث وأجد في هذا الطفل المنبثق من أبيه وأمّه تجسيدًا حقيقيًا لحبّهما.

هذا هو سرّ الله. فالله محبّة والله ثالوث والله جماعة، والله عائلة. ليس الله كائنًا جامدًا خاملاّ منعزلاً منفردًا، بل في كيانه حياة متدفّقة فيّاضة، حياة حبّ يفوق كلّ خيال وتصوّر.

الخاتمـة

لقد كشف لنا سر الثالوث الأقدس أعماق كيان الله كما هو في ذاته. وليس هناك دين آخر خارج المسيحيّة توصّل إلى هذا الاكتشاف، ولا فضل لنا على الآخرين سوى أنَّ الله أعلن لنا عن هذا السرّ. ومن خلال هذا الإعلان استطعنا أن نسير خطوة بعد خطوة بالعقل والمنطق حتى توصّلنا إلى هذه النتيجة. هناك بالطبع خلفيّة إيمانيّة أضاءت لنا الطريق، ولكن وجدنا أنَّ العقل والمنطق قادران على تقبّل سرّ الثالوث. فهناك منطق للثالوث.

أخيرًا أختم بهذه الكلمات: نحن نؤمن بإله واحد ولا نؤمن بإله وحيد. نحن نؤمن بوحدانيّة الله ولا نؤمن بوحدته. نرفض أنْ يكون الله كائنًا منعزلاً منفردًا. إنْ كان الله محبّة، فيجب أنْ يكون محبّة في ذاته وفي داخل كيانه وجوهره الواحد.

هذا هو مفهومنا للثالوث الأقدس.

موجز عن “منطق الثالوث ”

· من البديهي والضروري أن يكون الله واحدًا. ” لا إله إلاَّ هو “، كما يقول الكتاب المقدّس. لذلك فالوصيّة الأولى من الوصايا العشر هي: ” أنا الربّ إلهك لا يكن إله غيـري “.
· من البديهي والضروريّ أيضًا أنْ يتميّز الله بجميع الصفات الحسنة وأعلاها المحبّة. فما هي المحبة؟.
· إنَّ المحبّة هي عطاء وتبادل ومشاركة، ممّا يُفترض وجود طرفين:
– طرف المحبّ وطرف المحبوب.
– طرف المعطي وطرف القابل.
– بتعبير آخر، ليس هناك حبّ دون ثنائيّة.
– ولكن الثنائيّة تتعارض مع الوحدانيّة وتؤدّي إلى الشرك والكفر والوثنيّة.

” لا إله إلا الله ”
· فكيف نستطيع أنْ نوفّق بين وحدانيّة الله التى لاتقبل شريكًا ومحبّته التي تتطلّب طرفًا آخر.
· الحلّ لهذا المأزق الحرج هو فى الثنائيّة في داخل الذات الإلهيّة، ولا في خارجها.
· هذه الثنائيّة عبارة عن قطبَيْن متميّزين – وفي الوقت نفسه متّحدَين – حتّى إنَّهما يمثّلان ذاتًا إلهيّة واحدة.
· ما يجعل هذه الوحدة ممكنة هي المحبّة – أيّ الروح – التي تربط بين القطبَين – أي الآب والابن – ويحقق وحدتهما.
· هذا هو أبسط تعبير للمفهوم المسيحيّ للثالوث الأقدس: إله واحد في ثلاثة أقانيم متّحدة بعضها ببعض ومتميّزة بعضها عن بعض: الآب والابن والروح القدس.
· قد يعترض بعض الناس على ضرورة فرض الثنائيّة داخل الذات الالهيّة، إذ إنّ الله يستطيع أنْ يحقق حبّه من خلال الإنسان.
· يستحيل هذا للأسباب الآتية:
1- إن كانت المحبّة الإلهيّة صفة أزليّة، فكيف استطاع الله أنْ يعـبّر عنها قبل وجود الانسان وبداية العالم؟.
2- إنْ كانت للمحبّة الإلهيّة أبعاد لا محدودة، فكيف يستطيع الله أنْ يفيضها تمامًا في الانسان؟…
لأنَّ ليس فى مقدور المحدود أنْ يستوعب اللامحدود، وليس في مقدور المخلوق أنْ يحتوي خالقه.
3- بما أنَّ المحبّة صفة أساسيّة من صفات الله، يجب أن تتحقّق داخل الذات الإلهيّة ولا خارجها. لا يجوز إطلاقًا أنْ يكون الله مقيّدًا بالإنسان حتى إنَّه يكون في حاجة إليه ليحقق ذاته الإلهيّة.

إنّ الله هو ” الغني ” أي المكتفي بذاته، القائم في ذاته، ولا حاجة له إلى الإنسان حتى يكون…
إذًا من الضروري أنْ يكون الله محبّة مطلقة ولامحدودة، بمعزل عن العالم والإنسان، داخل كيانه الإلهي.

هذا هو المفهوم المسيحيّ للثالوث الأقدس.