من المؤكد .. لا فائدة ولا معنى

من المؤكد .. لا فائدة ولا معنى

المونسنيور بيوس قاشا

* من المؤكد،
وفي علم الجميع، أن شرقَنا عامة وعراقَنا خاصة، موزائيكي بأديـــــانه ومذاهبه ومؤمنيه، وتعددي بطقوســــه وتقاليده وعاداته ، وكبيرٌ في اختلافاته وانتماءاته وقبائله وعشائره، كما إن شرقَنا حاضنٌ لرسالات سماوية لله الواحد الأحد ، اليهودية والمسيحية والإسلام ، رباطها المحبة والشهادة والرحمة، وفقدان أية واحدة مـــــن
هذه سوف يفقد غناه وتنوعه وفرادته وشهادته وأثره وحتى وجوده ، وربما حتى كيانه، فتتخلخل السواتر بسبب هشاشة البنيان وربما تحلّ كارثة يسجلها التاريخ ألماً وأسفاً وغباءً إذا ما سقط بسبب رياح الحقد والكبرياء والطائفية والأنانية والمذهبية والكراهية القاتلة بل والمميتة، معلناً أن كل ذلك كان مبنياً على رمال البحور ومن صنع جليد الشتاء، حينذاك ستجد الفتنة أرضيتها وأيّما أرضية ، خصبة، مهيأة، فتأتي وتسكن وتعمّر في القلوب كما قال ربنا يسوع المسيح (متى 45:12) وتنادي الجارة فتجد فتنة أخرى ومن نوع آخر كونها تعشعشت في عمق القلوب وماتت الإنسانية بعدما شُيّعت صفات الحوار بسبب أناس وأشخاص حملوا رايتها وباعوا أنفسهم لكبريائهم ونكروا الحقيقة بسبب حقدهم وحبهم لمجال الشرير، فضاع الجوهر ودُمّر الكيان وقُتل الخيار وقُبر التنوع وضاع المجتمع وأصبح شرقنا أخيراً بلا شموس ولا أنوار، وضاعت معه أسطر الحياة في كتاب الزمن فلا حضارة ولا رافدين ولا تاريخ .

* من المؤكد،
​ما حصل في بلدي من مآسي لا تُعَد ولا تُحصى، عديدة في تسلسلها ومخيفة في رواياتها حتى تقدمت عناوينَ الأعلام وملأت صحفَ الأخبار ودورَ الوكالات ومقراتِ أبنائها، وصُوِّرَ شعبُنا ويا للاسف بشعب دموي سِمته القتل والتدمير وسفك الدماء، وأية دماء!، دماء الأبرياء وضحايا في ضحايا العبوات وشهداء اللاصقات عبر مخطط لا نعلمه ولا نفهمه ولا ندري إتجاه مسيرته ، وإلى أين يكون مداه، شهداء مسلمون ومسيحيون وآخرون لمصلحة مَن لا أعلم ولن أعلم ما دامت الأخوّة عداوة ، والأخوة أعداء ، وما دامت الحياة حقد وكراهية وكبرياء، غيرة وأنانيه ، بتخويف الفقراء والبسطاء وبسفك دمائهم وإن شاركوا في مسيرة البناء، والذين لا يملكون لا سلاحاً ولا سيفاً ولا حول ولا قوة، بل جُلّ ما هم ، أناس بسطاء ، كل ذلك لم يكن في الحسبان ولا على البال . فهُمّشت المهارات وأُبعدت الكفاءات وطُردت العلاقات ودُنست بيوت المقدسات ، ونُصبت موائد الحلفاء ، وحيكت المؤامرات وقُتل أبناء أقلياتنا ، فضاع وجودنا وشُرّد كياننا ولم يبقَ إلا قلة قليلة وهذه تنتظر الرحيل غداً مع دقات اجراس الهجرة ثانية وثالثة . بعددها واختلافاتها ومعهم قُتلَ الحقُ وصُلبت الحقيقة، وما حصل كان مخيفاً بل ومخيفاً جداً.

* من المؤكد،
​إنني واحد من ملايين العراقيين الذين يحبون وطنهم وترابهم، ومن أجله يرفعون الصلوات. كما إنني واحد من الذين يعيشون حضارةَ الآخرين وتاريخها ومياهها وهواءها ومعجب بها، وإنني أحمل فكراً إنسانياً مُحباً صادقاً بريئاً لجميع أطياف بلدي ، فأنا شاهد لحقيقةٍ _ هكذا قالها لي يوماً البابا بندكتس السادس عشر _ وهكذا ارادتني سيدة النجاة ، وإن أخفاها آخرون ، كانوا أصلاً في المجهول ، أن اكون الشاهد الاول والوحيد حينها وساعتها وأن ارى ما كان وما حدث ، وسأبقى لها في احترامي لديانات ورموز مؤمني وطني بمذاهبهم وطوائفهم، وأحترم مقدِّراً غالبية الوطن كي تكون للأقلية رسالة وخدمة. وأنتمي بفكري إلى الإنسانية في إنجيل المسيح الحي في المحبة وفي الأخوة وسلوك طريق السلام وعيشه في البشارة وفي الشهادة وحتى الاستشهاد، فأنا رسالة مُحبة إلى العقول وكلمة بريئة إلى القلوب، فنمدّ الأيادي لتتلاحم الكلمات في أفكار حاملة للمسؤولية في الخدمة والعدالة وحرية الضمير، وما أنا في ذلك إلا خادم وضيع وعامل أمين ، شاهد وشهيد ، ليس إلا.

* من المؤكد،
​صوت الأرشاد الرسولي ، لا زال وسيبقى يعمل فينا من خلال كنيستنا المقدسة ، فهو يقول في الفقرة (فقرة 35):”إن المسيحيين بسبب الحاجة والتعب أو اليأس، يقررون اتخاذ الخيار المأسوي بترك أرض أجدادهم وعائلتهم وجماعتهم المؤمنة. وإن آخرين وبالعكس ممتلئين بالرجاء، يتمسكون بالبقاء في بلدهم وفي جماعتهم. إني أشجعهم على ترسيخ هذه الأمانة الجميلة والبقاء ثابتين في الإيمان. وآخرون هرباً من غياب الاستقرار والأمل في بناء مستقبل أفضل يختارون بلدان المنطقة ليعملوا فيها ويعيشوا”.
​وكذلك في الفقرة (فقرة 67) فالمسيحي قبل كل شيء شاهد، والشهادة لا تتطلب فقط تنشئة مسيحية ملائمة لفهم حقائق الإيمان بل تُنشد أيضاً حياة متوافقة مع هذا الإيمان نفسه للرد على متطلبات أناس زمننا”. وأما في الفقرة (فقرة 82) و”إن الأوضاع البشرية المؤلمة والناجمة عن الأنانية والقلق والرغبة الجامحة في السلطة قد تلد الإحباط وفقدان العزيمة. مع ذلك يوصي المسيح بالمداومة على الصلاة”… فلابد من الحفاظ على وجودنا عبر الشراكة والتفاعل.
​وخلال ذلك أستطيع أن أقول أنه ، على المسيحيين أن يؤمنوا أن ربنا وضعنا هنا لعيش المحبة، وعليهم أن يُدركوا النعمة الكبيرة التي أعطاهم إياها الله بأنهم ولدوا في الشرق وعلى أرض آبائنا ، وأجدادنا ، أرض الأنبياء ، وهذا شرف كبير لهم .

* من المؤكد،
​إننا إذا لا ننتبه إلى مسيرة الحياة وكل ما يحصل ستتبعثر مسيرتنا الزمنية وينفتح باب الضياع على مصراعيه وتضيع الحقوق وتفشل المنظمات المدنية ونصبح بلا قانون فلا هدف لنا ولا خطة طريق لمسيرتنا، والزمن سلاح سيفتك بأبنائه ولا يستثني من هذا المصير أحداً بسبب منظمات أو مؤسسات أو حركات أو أحزاب أو ائتلافات تختفي خلف لافتات ويافطات وشعارات إنسانية، والحقيقة غير هذا تماماً وحقاً وعملاً، وهذا ما لا يعلنه أحد ، فمصالحها وأهدافها اقدس من قبول الآخر وأهدافه وتطلعاته وإذا ما إختلفت عن أهدافه عُدَّ الاخر عدواً وأُضيفت الى صفاته وتعامله حقداً وغيرةً مميتة ، ومن المؤسف أن يكون هذا ، وكما قال غبطة البطريرك مار بشارة الراعي:”هنالك أناس لا يريدون أن نقول الحقيقة، ولي حق أن أقول ما أراه مناسباً ما دمتُ حياً، ويجب على العالم أن يعي ما يجري من حولنا”… “أنا لستُ ضد أحد _ ويقول غبطته أيضاً _ أنا مع كل الدول والشعوب ولكن لا أريد أن نرى أنفسنا نُذبح كل يوم أمام مصالح وسياسات دولية ، أو غايات سوء لأشخاص لا يرون إلا كبرياءهم ، ونحن نريد أن نعيش سوية باحترام متبادل، فالمسيحيون لم يلعبوا ولو مرة واحدة دوراً معادياً ، والجميع يقولون إننا مواطنون صالحون، فلماذا يريدون قتلنا” ، أو تهميشنا ، وأن نخضع لأوامرهم ولألوانهم .

* من المؤكد،
​إن التنوع الديني لغة الغِنى لوطني، ومسؤولية الحفاظ لا تقع فقط على عاتق الفاتيكان والكنيسة وقداسة البابا، أو على عاتق المجتمع الدولي وحده، بل من المؤكد وبدرجة أساسية على عاتق السلطات الممثِّلة للغالبية العربية والمسلمة وغيرها ، فهي مطالَبة بإظهار قبولها وحرصها على التعدد والتنوع _ ليس فقط عبر بيانات بل عبر تفعيل البيانات إلى حقائق واقعة بل ودامغة _ ورعايتهم واحتضانهم في دولهم للثبات والرسوخ من أجل بناء عالم الحضارات في تحقيق المساواة والشراكة الحقيقية والمواطَنة الصحيحة، وبدستور لا يعنيه الابواب والفقرات وصياغتها بل بالانسان وكل الانسان ، وكل انسان ، أولاً وأخيراً ، ليس إلا، بدلاَ من الانصياع إلى ما يسمى صراع الحضارات، فتنزلق إلى نموذج بعدم قبول الآخر في مذهبية واحدة وقومية واحدة وطائفة واحدة ودين واحد ولغة واحدة… فالشرق غني بتنوعاته، وبائس وفقير بانفراداته ، وبعدد تعدد المذاهب والطقوس والعادات والتقاليد بقدر ذلك يتجسد الحب والإنسانية وترتفع راية الوطن فوق هامات ابنائه ملؤها سلاما ووئاماً .

* من المؤكد،
​إننا عانينا في شرقنا وعبر اسفار التاريخ ومجلدات الزمن ، اضطهاداً منظَّماً وعاتيا ولا زلنا نعاني _ عبر مضايقات لا تُعَد ولا تُحصى _ شئنا أم أبينا، علناً أو سراً، وظيفياً أو وجودياً، عقائدياً أو عاداتياً، مما يجعل الهجرة مصدر قلق. والأرض التي قامت عليها المسيحية بدأت تفرغ من اصلائها ومؤمنيها شيئاً فشيئاً، فمستقبل الوجود المسيحي _ بقاؤه أو زواله _ بدأ يشمل المنطقة بدولها وشعوبها، وبدأت بعض البلدان تعاني من فقدان الوجود المسيحي في أرضها، بأسباب داخلية كانت أم خارجية، وهناك مَن يموّل الإعتداءات عليهم بهدف عدم استقرار الحياة ،عبر تنامي التيارات الأصولية وملحقاتها، فكانت الهجرة حلاً، حيث الراحة والأمان وتأمين فرص العمل، وبعد أن فتح الغرب ابوابها ، تسهيلات أُعطيت لهم وشجعتهم على الهجرة… فالهجرة مأساة، فمَن يتحمل مسؤولية تلك المأساة!… إنها كارثة إنسانية، فما هي المعالجات الممكنة؟.
​كما إن وجودنا كمسيحيين وفي شرقنا العربي بات مهدداً أكثر من أي وقت مضى، فالهجمات والدعوات إلى التكفير، والفتاوى القاتلة والنداءات إلى المحرَّم والممنوع والعنف الممارَس ضد الأبرياء باتت عنيفة ومميتة، وهذا ما حلّ بنا في السنين التي مرّت ولا زال القلق على المصير يلاحقنا أو يزأر بنا ينتظر ساعة الصفر لكي يحاكمنا، ومن هنا نعيش حالة من الخوف على مستقبلنا إضافة إلى أننا دائماً ندفع ثمن الأزمات التي تهب على المنطقة وهذا ما يجعلنا دائماً نفتش عن ملاذ آمن في مكانٍ ما من العالم بعدما بدأنا نفقده في وطننا وأوطاننا وكأننا أصبحنا شريحة أو مجموعة أو أقلية أو طائفة… أو… أو… والتسميات عديدة، لم يعد مرحَّباً بنا إلا من قلّة حكيمة واعية وعاقلة.
​وأيضاً ، كمسيحيين نرفض رفضاً قاطعاً أن نعيش أهل ذمة كما حصل في الأمس، بل نحن شركاء مع الآخر، وهذه الشراكة عمرها الاف السنين، وإصرارنا على العيش في هذا الشرق ما هو إلا علامة وجودنا ، وما على الأخر إلا أن يكون دستورا جديداً وكتاباً مفتوحاً يقرأه الجميع ويذيعه على الجميع فيجعل من حقوق الأخر قويمة وحسب ايمانه وما ذلك الا شجاعة ايمانية نحتاجها اليوم وليس كنزاً مخفياً لا ينفع إلا صاحبه وفي ذلك اخاف من العث ( متى 19:6) ومن السارق ولله في ذلك شؤون بل واعلم .

* من المؤكد،
​نعم، ” نحن لسنا زوّاراً في هذا الشرق أو مهاجرين إليه ” ، كما يقول غبطة البطريرك يوسف الثالث يونان ( رسالة الميلاد2013 ) بل نحن أهل الأرض ومشرقيون أصليون وأصيلون، ومن المؤسف لم يوضَع يوماً ملفّنا على طاولات ومناضد المحاورين، وهذا ما يؤكد إننا لسنا على بال أحد، وبقاؤنا _ أقولها _ يعتبر مرهون بانتصار المعتدلين الذين يقبلون الآخر. أسأل: ألم يحن الأوان للمجتمعات أن تتحرك بدل أن تطلق الكلمات والشعارات وتصدّر البيانات فقط بعد أن كثرت المؤتمرات واللقاءات والمنتديات والاجتماعات ، أقليمية ودولية ووطنية ، حول مسيحيي الشرق ووجودهم والتحديات، وهذا ما حلّ فينا ، وما رأيناه ولمسته أيدينا ، ولكن لا زال يسجل ضياعنا؟. هل هو مخطط للشرق الأوسط الكبير أو الجديد وهل بدأ ينجح في زرع فكرة اقتلاع المسيحيين من هذا الشرق؟… الا يكفي صمّ الاذان عن الجرائم النكراء بقتلنا وحرق كنائسنا وأديرتنا ، وقتل كهنتنا ، واساقفتنا ، ومؤمنينا ، وخطفهم فرادا ووحدانا التي تمزق نسيج مسيحيتنا، وانسانيتنا ووطننا ، فلا نحتاج بعد إلى خطابات تذكّر بضرورة الحفاظ على المسيحية المشرقية وعلى مشرق متنوع، بل نحتاج اليوم إلى تفعيل ما نقول عبر توقيع وإثبات، وإلى دستور واضح وصريح ومحق لحقوق كل إنسان… فالتاريخ قالها يوماً _ ويرددها كل يوم حاملو لسان الحق والحقيقة _ وهي أن المسيحيين ما هم إلا سكان الشرق ولم يتركوا بلدانهم ، لا مع مجيء الإسلام ودخوله ، ولا مع نشوب الحروب ، في المنطقة على امتداد التاريخ . فلا فائدة ولا معنى أن يطالب المسلمون مقاسمة العيش المشترك ، والتضامن الإسلامي – المسيحي إذا ما تمّ تفريغ المنطقة من المسيحيين او يهجّرون حيث يُرسم لهم أو يُقتلون بصبغة تكفيرية ، مما حدا بالبابا فرنسيس أن يرفع صوته قائلاً ” أنه لا يتصور شرق اوسط بدون مسيحيين ” ، وهذا ما نراه اليوم في بعض المناطق في شرقنا العزيز .

* من المؤكد،
​نعم ونعم ، هاهم المسيحيون اليوم يُقتَلَعون من جذورهم من قِبَل أناس متعصبين وأصوليين ، فأين هم كبار الزمن ، وأين هي وسائل الإعلام لكشف الحقيقة ؟… لا ينفكّ المسيحيون يطلبون المساعدة ويناشدون المجتمع الدولي ، بتنوعاته ومنظماته ، ولكن “لا حياة لِمَن تنادي”. للأسف، يخشى عدد من كبار الزمن انتقاد الأصوليين والمتعصبين، ولكن كل ذلك على حساب مَن؟… نعم، على حساب كل مسيحي وكل الأقليات، وبسبب ذلك فإن فرارنا وانقراضنا بات وشيكاً ، وسيقولون أنهم كانوا يوماً هنا .
​أليس من حقنا أن ندافع عن حضورنا ووجودنا ونؤكد على شهادتنا المشتركة في كل المجتمعات ، والمحافل الوطنية قبل الدولية والإقليمية ؟ وإنْ كنا وكانت أوطاننا تعاني من ترسبات الماضي، هذا لا يعني القبول بالأمر الواقع بل علينا النظر إلى المستقبل كي لا يكون مقترناً بالخوف والجزع بقدر ما يكون مرتبطاً بالموضوعية ، والواقع الايماني بحس المسيحية . فمن سالت دماؤه ، وحبر قلمه من أجل العيش المشترك ، وزرع السلام ، ويافطة الوئام ، والحوار في تأكيد الضمير وحريته ، وقبول الاخر بايجابياته وسلبياته ، ما هو إلا رجل تاريخ ومسيرة . بل شجاع من اجل الشهادة للحقيقة ، من أجل معالجة المشكلة على الصعيد الكنسي وعلى جميع الاصعدة وإلا فلا فائدة ولا معنى، .. نعم وآمين .