نبض من الحقيقة

نبض من الحقيقة

المونسنيور بيوس قاشا

في البدء :

إن ما يحصل لنا وما يحلّ بنا لا أعلم إن كان حكماً بحقنا قد أصدرته محكمة العوالم الدنيوية _ عادلة كانت أم مزيفة _ حكماً انتقامياً، أم استحقاقياً، إنْ لم يكن حكماً تأديبياً بل إبادياً من أجل غاية واحدة ولكن بهدفين… فالهدف الأول يعلمه الجميع ودون أن يُذكَر عنوانه وتُعلن أحرفه واضحة من أجل أمن وغاية، أما الهدف الثاني منه ما هو إلا بلبلة الشعوب واحتقار المسالمين وعِداء لأبرياء غُلب على أمرهم، عبر الفواصل وهدم الجسور، تدمير القيم بعولمة مزيفة، وإيصال الخليقة إلى طاعة عمياء شاءت ام أبت. فالناس يُساقون كغنم، بل كخراف وكعبيد، بينما هم أحرار، إذ يقول ربنا يسوع:”دعوتُكم أحبائي ولم اسميكم عبيداً، فالعبد لا يعلم ما يعمل سيده” ( يو15:15)، وأيضاً “تعرفون الحق والحق يحرركم” (يو32:8)… ما هذا الانحدار القيّمي، والانحطاط الحضاري.

واقع أليم :

نعم، في كل ساعة من ساعات نهاراتنا وحتى ليالينا نشهد مشهداً مؤسفاً ومؤلماً، مشهداً مخيفاً يحمّلنا حالة نفسية غريبة لا توصف لا بصداعها ولا بعبئها، ومرضاً يجعلنا في حالة (شيزوفرينية) غريبة عبر انقسامات الروح في الاتهامات والتجاوزات وما إلى ذلك من إهانات واحتقارات وعدم المبالاة في استعمال لغة الأنا قبل الأنت، وحمل سياط القوة في مسيرة الغاب بقنابل عمياء لا تقتل إلا الأبرياء وجعلهم في زنزانات ظلماء لا نسمة فيها ولا هواء. وما يحصل ما هو إلا طغيان واستبداد وإجرام… إنه واقع مُرّ نعيشه وخصوصاً في هذه السنين الأخيرة، العشرة الثانية من الألفية الثالثة. وقد أفرز مظاهرَ قاسية وغير مألوفة في الحياة، فيها العنف الدموي والموت الدائم والقتل اليومي، وكأن أرواح المواطنين باتت كائنات رخيصة الثمن، وأصبح الانتماء في درجة لا يملك شعوراً ولا حساً إيمانياً، وتحولت أفكارنا من الوطنية وحب التراب المقدس إلى مذهبية بل أحياناً إلى مذهبية مفرطة وممارسات لغايات من قِبَل أفراد هم لها، ولدنياهم منفذين، ولمخطط يُرسَم لهم… وما ذلك إلا علامات ضياع وتفكك ودمار. كما عانينا ولا زلنا نعاني، وباتت قلوبنا _ كما باتت الصراعات والتيارات _ إقليمية، وعيون الطائفية تتربص بنا وبصوت حقيقتنا، وأصبحنا لا نميز بين حقيقة الإله وإله الحقيقة، ولا من آمال أو رجاء. ولم يبقَ سلامنا رمزاً لنا، فحتى لغتنا وأرضنا قد زالتا من الوجود ومن كُتب العلم والتاريخ، ولم نعد نجد اتجاهنا وطاعتنا، ألله، أم للوطن، أم لغيرهما، وذلك لأنه قال لنا : اترك… فتمسّكنا، وقال: أحبب… فحقدنا، وقال: إشهد… فتخاذلنا.

بين الضمائر والمخططات :

نعم، ربما أسأنا وأساءت شعوبنا، ولكن هذا لا يعني قتل شعوب من أجل شعوب، وتدمير أوطان من أجل أوطان. فالوجوه مهما كانت سوداء أو حنطية أو حمراء أو بيضاء أو بنيّة أو شقراء، فكلها بألوانها، لون الخالق العلي العظيم، المحب والرحمن الرحيم… ألم يقل سفر التوراة في الكتاب المقدس :”إن الله خلق الإنسان على صورته كمثاله”

( تك26:1)، و”إنه رأى كل شيء حسناً جداً” ( تك31:1).

نعم، ربما أساءت شعوبنا، وربما لم يكونوا حكّامنا في السراط المستقيم، وما تلك إلا بليّة الشعوب، ولكن هذا لا يعني تدمير بلداننا وقتل مواطنينا وإجبارهم على الرحيل، وترك ما ورثوه من آبائهم وأجدادهم، وإبادة أصالتهم من أُسسها، وتدمير ما بنوه في حضارة القيم والتاريخ وما رسموه لتقدم الشعوب والأمم. هل فسدت الضمائر وأصبحت الجيوب تُحصى بما فيها قبل أن تمتلئ القلوب من سرقة الحرام ليكون حلالاً مقدساً. فبسبب الذين أرادونا أن نكون لهم عبيداً أذلاّء، وبسببهم اتّهمنا الأصوليون إننا لهم ومنهم ولأجلهم، فقتلونا بلا رحمة وسرقوا ما نملك (سرقوا كل شيء حتى آثارنا وشواهدنا) كما سرقوا، هم عقولنا، وأفرغوا، ما في جيوبنا، وطردونا من أرضنا، وفي عملهم هذا، لا يدرون ما يفعلون

( لو34:23). ربما يعملون ما يحلو لهم أو ما كُتب لهم. لنسأل إدارات الجمعيات الخيرية ومحلات النجارة والموبيليات كم وكم من التوابيت الخشبية صادروا، ولنسأل بزّازي الأقمشة كم وكم من الأمتار من الخام كفّنوا بها موتانا وقتلانا وضحايانا الأبرياء، نساءٌ ترمّلن ويتامى يتضوّرن جوعاً وألماً ويقاسون حرماناً، ولا من سجل يحفظ وجودهم وكينونتهم، فقد وقّعوا عنهم إنهم يجب أن يكونوا حطباً ولا خير فيهم… هذا كان قرارهم… إنه حقيقة حقدهم وسلوكهم… هم موتى في سجلاتهم ومخططاتهم ولكنهم أحياء في ضمائرنا وعقولنا وزوايا بيوتنا ومعابدنا وكنائسنا، نعم إنهم أحياء عند ربهم يُرزَقون.

هذه الحالة جعلتنا في حالة حرب وصِدام، حالة تشتت وانقسام، حالة بقاء أو رحيل… حربٌ فُرضَت علينا لغايات ومصالح وإنْ بطرقٍ كاذبة وملتوية وبأساليب واهمة ومسالك وعرة كي يبقى الكذب حقيقة، وتتبخر الحقيقة في الأجواء فتسمّم براءة السماء، وتشوّه وجوه العقول، وتبقى البشرية حائرة بين الحقيقة والرياء، بين النفاق وإبعاد الأبرياء، بين الكلمة ولغة الفساد والحقد وتدمير ذوي الإرادة الصالحة.

بين الصمت والرحيل :

أمام كل ذلك أسأل نفسي أو أتساءل: هل ذلك مخطط الدنيا في حكمته؟… ما يحصل يقول لنا بلغة الإشارات وكابوس الصمت أنْ ارحلوا، واعبروا المحيطات فلا عودة لكم بعدُ إلى أرضكم، ولا مجال للصلاة في كنائسكم. قالوها يوماً إنّ كنائسنا قد ترهلت، وإن كنيسة الشهداء استعارت اسماً آخر وسُمّيت بكنيسة الرحيل… تلك الشاهدة على حضارة الشرق وإيمانه… تلك الشاهدة على حقيقة الحياة المشتركة والمتبادَلة، فوضعونا في صفوف الأعداء وإنْ لم نكن نحمل أية سِمَة تدل على الصفة، ولا علامة تشير إلى الحقيقة المزيفة التي تبنّوها كي يكونوا هم أمراء أسيادهم، وتكون كلمتهم فاصلة في أفواه كبارهم… يا لهم من قائين آخر، وهيرودس الألف الثالث.

إنّ جراحنا مؤلمة، وهمومنا مورِقة، ومشاهداتنا قاسية، كوننا نحمل رمز الإنسانية وحقيقة المحبة والخدمة بصمت وسكوت، لأن قناعتنا ما هي إلا سِمَة مزروعة في أعمق أعماقنا، وراية نرفعها بعلو هاماتنا بل فوقها، وما كلماتنا إلا قيمنا الحقيقية… فكم أتمنى أن لا تتحول الكلمة إلى هتك لهذه الحقيقة، فالوضوح ليس في الثرثرة واتّهام الآخرين والتلويح لهم أنه لا يحق لهم العيش أو أن يقاسمونهم عيشهم، بل عليهم الرحيل والعودة إلى من حيث أتوا… إنها بلبلة الزمن في دروب الحياة، وما هم إلا أبطالها، وبذلك يرسموا زمناً في أزمات ومحن بينما الحاجة إلى التروّي والتحليل وإعلان الحقيقة بالصمت المقدس رغم الواقع المضنوك والمتأزم، ومهما علت أصوات من على الأبراج وعبرها، ومن على المرتفعات وهضابها… وبما أن عالمنا اليوم عالم صعب المزاج، وأفراده يعملون عملاء لطرق مبطَّنة، والصامت ما هو إلا الحقيقة الذي تتمنى الأشواك خنقه فلا يستطيع أن يعلن ذلك على الملأ، وإنْ أعلنها فيقفلوا عقولهم كي لا يقبلوا حقيقتهم متوهمين أنهم على مسلك ومسار صادقين… لذا يجب جمع الزوان ( متى30:13 ) والشوك أولاً ثم تُبان الحقيقة ناصعة وإنْ آلمت أصحابها ردحاً من الزمن ومسيرةً من الأيام، حينها تنكشف أفكار من قلوب كثيرين، كما تظهر غايات من أعماق مبطنة ومتوشّحة بلباس وإنْ كانت محتَرَمة المنظر. لذا علينا إيصال صوتنا إلى العالم بعد أن دفعنا ثمناً باهظاً في استشهاد أبنائنا، وجعلوا وطنيتنا في مهب الريح، كما أرادوا من العالم وكباره أن لا يعطوا أُذناً صاغية كي تفهم الحقيقة.

الحقيقة.. حقيقة :

نعم، الله أرادنا أن نحمل آلام بعضنا من أجل عرض حقائق منظورة أو خفيّة، وما أذكره من أحداث ما هو إلا أحداث تتوالى وتتعاقب أمامنا، وواجب الحقيقة يجب قولها، نسبية كانت أم عمومية، رغم المخاطر والمطبّات، وذلك لأجل إيقاظ الضمائر وكشف حقيقة الحدث وبراءة الأبرياء والحقد الذي تسلّحوا به من أجل نيل مآربهم وإكمال مخططاتهم في عيش حريتهم المزيَّفة كما هم لها متوسّمون. ومن المؤسف أن كبار الدنيا ورجال الزمن يسمعون لهم وربما صاغرون، فيحكموا على وطن وشعبه هل يحق له العيش أم لا، مستصغرين قول الإله المحب:”هذه الأرض كلها لكم” (تك1)، ويزيد الالم في عدم تداوي جروحاتنا في التجاوز والعبودية والاستصغار… أرادوا محو حضارتنا كما فعل سابقهم في الماضي القريب من القرن العشرين “هولاكو”، وآخرون شبيهون به، فغيّروا عبوديتنا إلى استعبادنا، فكنا عبيداً بالأمس، واليوم أصبحنا أكثر استغلالاً وعبيداً لعبيد.

 لذا فلابدّ من وقفة حقيقية من الجميع لكي نُثبت وجودنا وأصالتها، ونُظهر حضارتنا التي ما كانت وما زالت راية لأوطاننا، كي نُظهر حقاً إننا من هنا وإلى هنا ننتمي ولا يمكن أن نتخلى عنها، فقد اختلط ترابنا بعرق جباه شهدائنا ورجالاتنا، ولا زالت دماء أبنائنا تصرخ إلينا، كما حصل زماناً مع قائين “إنّ دم أخيك يصرخ إليّ”( تك10:4).

الحقيقة المؤلمة هو الإحساس بالإحباط الشديد من الحاضر، والغياب المطلق للثقة بالمستقبل، هو الواقع اليومي الذي يسيطر على عقولنا، فلا أمل من الخروج من هذا النفق المظلم، ولا يحمل أي أمل أو بصيص رجاء لواقع، ولا يُظهر أنه يسمح بتحقيق أي حلم ولو كان صغيراً في ظل الأوضاع السيئة التي نعيشها.

شهادة وكلمة :

ولكن، مهما طال الزمن، ومهما قست الحياة، ومهما استعبدنا الضالمون والمستكبرون بزيفهم ومكرهم وحقدهم ومآربهم،لا يمكن أن نتنكر للإنجيل ولتعاليم الكنيسة، فهناك مَن تلفّنا بجلبابها كي تحمينا.. إنها ملكة السماء والأرض.. مريم القديسة، كي تُنمي فينا قيم الحقيقة من أجل دعم رجالات الحب والسلام بدلاً من المدمّرين والمخرّبين… فاليوم لسنا بحاجة إلى سياسة الفوضى الهدّامة التي سُمّيت بالخلاّقة، فالأمر لا يُخفى على أبناء البصر والبصيرة. فالمسيح وحده هو كل شيء، وحده يستطيع قول الحق…وإن لم يعد للحق مكاناً، وإن حُجب وجهُ المسيح بغيوم أنانيتنا، ولكن سنبقى نشهد ونعلن بالحق مَن هو الله. وستبقى كلمته هي تحاكينا في كل مناسبة وحدث وسنبقى واقفين امام الصليب نرسم سمته على جباهنا، فيتحول جسدنا ونتحول إلى جلجلة آلام، فنموت مع المصلوب لنحيا معه في قيامته المجيدة. وسنبقى نشهد للحق من أجل الأبرياء، هذه هي البشرى السارة، رجاء الله الذي وافانا، هذه هي قضيتنا، نعم إنها قضيتنا، بل حقيقتنا، نعم، ما ذلك إلا نبض من الحقيقة.