نذر الطاعة ومشوار المِيل الثاني: رؤية عملية

نذر الطاعة ومشوار المِيل الثاني: رؤية عملية

الأب توما عدلي – مصر
مدرس للكتاب المقدس

مقدمة
يظهر العهد الجديد عمق مفهوم الطاعة في منطق تدبير الله الخلاصي. فالطاعة لا تجد كمال معناها إلاّ في سياق إرادة الله خلاص الإنسان. الطاعة والحب في العهد الجديد هما وجهان لعملة واحدة ويعبر عنهما ويبرزهما التخلي الكامل بإرادة حرّة. يقول الإنجيلي يوحنا (يو 3 :16) “فإن الله أحب العالم حتى إنه جاد بابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية “، والفعل يعني أعطى بحرية، ويعني أيضا أعطى ببذل وتضحية، وهذا المعنى الثاني هو المناسب لسياق اللآية المذكورة. فتكلفة محبة الله للبشرية هي أن يبذل ابنه الوحيد بكل طاعة للحب الذي يملأ قلب الثالوث.
كما يعلمنا القديس بولس في رسالته إلى كنيسة فيلبي (فل 2 : 6-8) “هو الذي في صورة الله لم يعد مساواته لله غنيمة بل تجرد من ذاته متخذا صورة العبد وصار على مثال البشر وظهر في هيئة إنسان فوضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب. ” يعلمنا القديس بولس أن يسوع مساوٍ لله، لكنه ولأجل الحب تجرّد ووضع نفسه وأطاع حتى الموت. فالطاعة في منطق العهد الجديد هي طاعة لما في القلب من حب. فخارج الحب لا كلام عن الطاعة بالمعنى الإنجيلي بل هو خضوع لأي شيء أخر، قانون أو ظلم أو اضطهاد …

بعض التشوّهات التي أصابت مفهوم نذر الطاعة
1- المفهوم الخاطئ أن كل رئيس مستحقٌّ لمرؤوسين، لذا يأمر فيُطاع على مثال قائد المائة (مت8 :8، 9) “فأجاب قائد المائة: “يا رب، لست أهلا لأن تدخل تحت سقفي، ولكن يكفي أن تقول كلمة فيبرأ خادمي. فأنا مرؤوس ولي جند بإمرتي، أقول لهذا: اذهب ! فيذهب، وللآخر: تعال ! فيأتي، ولخادمي: افعل هذا ! فيفعله”. “. فالأشخاص المرؤوسون لا يمكن أن يكونوا استحقاقا لأحد أو مكافأة لرئيس بعد طول خدمته، فهذا يتعارض كلية مع منطق السيد المسيح في خدمته ومحبته لبني البشر.
2- تشويه مفهوم نعمة الحال، فعندما يفشل مسؤول في شرح حيثيات ما يصدره من أوامر يلجأ إلى مفهوم نعمة الحال ليسبغ على أوامره نوعا من السلطة الإلهية.
كذلك المرؤوسون يبررون خنوعهم بتخدير أنفسهم بمفهوم نعمة الحال. فنعمة الحال هي عطية الله التي تساعد حرية وإمكانيات الرئيس والمرؤوس معا لتهيئة مناخا من الهارمونية والانسجام في الحياة. لذلك فهي نعمة الله المعطاة لحرية بشرية قد تصيب وقد تخطيء وتخون هذه النعمة. فهي ليست العصمة من الخطأ، بل هي في احتياج دائم إلى العمل على خلق بيئة صحية للنمو والإثمار. هذه البيئة تُخلَق باتحاد إرادة الرئيس والمرؤوس مع إرادة الله لخلاص النفوس.
3- تشوّه أخر هو إقحام نذر الطاعة في كل كبيرة وصغيرة في الحياة اليومية وكأن حياة المكرّسين يتم سجنها وتقييدها بما قامت باختياره بحريّة وحب، كما لو كان المكرّس يتم عقابه على محبته.
إن الحياة اليومية يتم تسييرها بالقوانين الوضعية التي من شأنها أن تنظم حياة الجماعات والمجتمعات. أما نذر الطاعة فهو أعمق من أن يكون قانونا وضعيّا لتسيير تفاصيل الحياة اليومية، وهو قفزة من القانون إلى قانون الحب، قفزة من الشريعة إلى شريعة الحب، كما سنعرض لاحقا.
4- تشوه مفهوم “حرية مجد أبناء الله” (رو 8 : 21)، فالبعض يظن أن حرية أبناء الله لا محدودة، وبالتالي تتحوّل إلى حرية مطلقة جامحة، قانونها الوحيد هو اللاقانون، ساحقة في طريقها الحب، وساخرة من بُعده الفصحي، ومغلِّبة منطق المطالبة المطلقة بالحقوق. هذه الحرية لاتحترم الرموز، وتحتقر تراكم الخبرات، لذا لا يمكن الحديث معها عن نذر الطاعة، فمنطقها الوحيد هو أن كل طاعة هي عبودية.

مستويات الطاعة: رؤية إنجيلية
1- (مت16:19-22)
“وإذا برجل يدنو فيقول له: يا معلم، ماذا أعمل من صالح لأنال الحياة الأبدية ؟ 17 فقال له: لماذا تسألني عن الصالح؟ إنما الصالح واحد. فإذا أردت أن تدخل الحياة، فاحفظ الوصايا. 18 قال له: أي وصايا ؟ فقال يسوع: لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بالزور. 19 أكرم أباك وأمك و أحبب قريبك حبك لنفسك. 20 قال له الشاب: هذا كله قد حفظته، فماذا ينقصني ؟ 21 قال له يسوع: إذا أردت أن تكون كاملا، فاذهب وبع أموالك وأعطها للفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال فاتبعني. 22 فلما سمع الشاب هذا الكلام، انصرف حزينا لأنه كان ذا مال كثير.”

تبرز قصة هذا الشاب الغني منطق السيد المسيح الذي يريد تثبيته كأساس لبناء ملكوت الله بين البشر. فالحوار ينتقل من المستوى الأول الذي يملك عليه فعل “حفظ”، حفظ الوصايا أو مراعاة الوصايا أو اتّباع الوصايا، أو بمعنى أخر حفظ الشريعة أو مراعاة القوانين أو اتّباع الأوامر. هذا المستوى الأول يتبعه السؤال: ماذا ينقصني؟ لأن الوقوف عند حد تنفيذ القوانين فقط لا يرفعنا إلى المستوى الثاني الذي يشكّل منطق يسوع ألا وهو “أن تكون كاملا”. لاتوجد شريعة أو قانون يُجبر الإنسان على بيع كل ما يملك وإعطائه للفقراء. لذلك فيسوع أراد أن يقفز بالشاب الغني من مستوى طاعة القوانين إلى مستوى طاعة الحب، أراد أن يقفز به من النقص إلى الكمال. لم يُرد يسوع إلغاء طاعة القوانين، بل أراد التسامي بها إلى طاعة الحب. كذلك نذر الطاعة لا يكمن في طاعة القوانين بل في المستوى الثاني أي طاعة الحب.

2- (مت 5 : 40 – 42)
“40 ومن أراد أن يحاكمك ليأخذ قميصك، فاترك له رداءك أيضا. 41 ومن سخرك أن تسير معه ميلا واحدا. فسر معه ميلين. 42 من سألك فأعطه، ومن استقرضك فلا تعرض عنه.”

يوضِّح لنا هذا الجزء من عظة السيد المسيح على الجبل بصورة أكثر عمقا التمييز بين المستويات المختلفة للطاعة. الآية 40 تتحدث عن المحاكمة (أي القانون الوضعي) التي قد تجبر الإنسان على ترك قميصه، ويجب على الإنسان طاعتها، ثم تتحدث الآية على ترك الرداء أيضا (العطاء بحرية كاملة)، وهذا مستوى أكثر تساميا وأكثر عمقا لمفهوم الطاعة، فالحرية تخرج بمفهوم الطاعة من التوقف عند حد الشعور بالعبودية إلى حد الشعور بحرية أبناء الله.
وبنفس المنطق، تقدم لنا الآية 41 قانون السخرة كقانون وضعي، هذا القانون الذي كانت تفرضه الإمبراطورية الفارسية ومن بعدها الرومانية، وهو أن رسول الإمبراطورية أو حامل الرسائل كان من حقه أن يأمر أي شخص من الأرض المحتلة أن يحمل معه ما يحمله لمسافة ميل واحد، لذلك فإن الفعل اليوناني المستخدم لكلمة “يسخر” هو من جذر فعل “يرسل”. ثم تنتقل الآية 41 بعد ذلك إلى ميل الحرية، الميل الثاني الذي يحرر الميل الأول. الميل الذي يخرج من طاعة القوانين إلى حرية الطاعة.
إن المؤسسات الدنيويّة تحكمها القوانين الوضعية حكما مطلقا، ويجب على الجميع تنفيذ قوانين المؤسسة، أما لنا نحن المكرسين، فإن نذر الطاعة يسمو بطاعتنا الواجبة لقوانين الكنيسة (كمؤسسة) إلى طاعتنا لما نملك من حبٍّ داخل قلوبنا لله ولإخوتنا البشر. إن نذر الطاعة هو مشوار الميل الثاني، وفي الواقع لايوجد ميلٌ ثان بدون ميل أول هو طاعة القوانين الوضعية.

نذر الطاعة، نقاط عملية
رأينا مما سبق أعلاه أن طاعة القوانين الوضعية واجبة لأنها هي التي تنظّم حياة المجتمع والجماعة والأسرة وتحكم سلوك الأفراد. أما نذر الطاعة هو طاعة الحب التي تصنع بنا قفزة نوعية بعيدة جدًا تدخلنا في عالم الحرية الحقيقية التي قانونها الوحيد هو المحبة (محبة ملكوت السموات). لذلك نحاول هنا أن نقترح بعض النقاط العملية التي قد تساعدنا نحن المكرسين على أن نعيش نذر الطاعة كما يليق بمفهوم المحبة وبمفهوم حرية مجد أبناء الله:

1- إن ما يستخدم لتسيير الحياة اليومية هو قانون المؤسسة الكنسية أو الرهبانية وليس نذر الطاعة. وتطبيق قانون المؤسسة يحتاج دائما إلى وعي ونضج من جانب الرئيس، مهارات إدارة وقيادة، عدل، وثبات على المبدأ، وقوة لتطبيق القانون وجرأة وحزم. كما يحتاج منه أيضا الثقة بمرؤسيه ومحبته الصادقة لهم. يجب على الرئيس في الحياة المكرسة أن يعي جيدا أنه ليس حارسا لأنظمة وضعية، بل حارسا لحكمة الله وناقلا لها إلى كل المكرسين الآتين بعده.
كذلك يجب على المرؤوس أن يكون ناضجا، محترما لتراكم خبرات الرؤساء وواثقا بهم محبّا لهم. يجب عليه أيضا أن يتعلم أن يعرض رأيه بكل صراحة وبطريقة تليق بجوهر الحياة المكرسة، تاركا مساحة لصانع القرار، حتى لو كانت قرارات الرؤساء لا تتفق وإرادته. يجب على المرؤوس أن يحترم أنظمة وقوانين ورموز المؤسسة التابع لها، فالحياة ليست ثورة مستمرة، و لا تمضي على الدوام بالتغييرات الراديكالية، ولا تتقدم بإلغاء دور المسؤولين.

2- نذر الطاعة هو مشوار الميل الثاني، هو ما لا تفرضه القوانين الوضعية، لكننا نطيع ما بداخلنا من حب حين نطيع بكل حرية ما يصلنا من رسائل من قبل الله لخلاص النفوس. فنحن نطيع رغبات الله التي يرسلها كرسالة لنا سواء على فم المسئولين عنا أو على فم إخوتنا. فنذر الطاعة ليس فعلا من مرؤوس لرئيسه، بل إنه عمل مشترك بين الرئيس والمرؤس تجاه الله ومحبة البشر.
إن نذر الطاعة لله وليس للبشر، ففي حياتنا المكرّسة نحن تعهدنا بحفظ واتباع قوانين الكنيسة، ونذرنا لله طاعتنا واستعدادنا لأن يمنطقنا آخر ويذهب بنا حيث قد لا نشاء، من أجل محبتنا لله والبشر، مصلّين مع يسوع قائلين لكن لتكن إرادتك لا إرادتي.

3- يجب على الرئيس والمرؤوس أن يعملوا معًا ليصلوا لحالة من النضج الإنساني والروحي، ليرتقوا بطاعة القوانين الوضعية التي تسيّر الحياة اليومية إلى طاعة من أجل الحب وطاعة عن حب، وذلك عن طريق المحبة الصادقة بينهما، الحساسية والاحترام الحقيقي للكرامة الإنسانيّة المتساوية، فالكل متساوٍ في الكرامة الإنسانية، ولكن خبرات الحياة غير المتساوية بينهما.
لأن توقف الرئيس عند حد تطبيق القانون الوضعي للمؤسسة من شأنه أن يحوّله إلى حارس نظام، ومن شأنه أيضًا أن يقتل كل آفاق الإبداع عند المرؤوسين، فالإبداع هو تعبير أصيل عن الحرية. كذلك يفقد الرئيس فرحه وسلامه من قلقه المستمر على اللوائح.
وتوقف المرؤوس عند حد تطبيق القانون الوضعي للمؤسسة يجعله يفقد الحافز للحياة تدريجيًا، ويرضى بأن يعيش بالحد الأدنى. كذلك يفقده الإحساس بالانتماء لهذه المؤسسة، ويقتل فيه روح المبادرة ويحبسه في طفولية مستمرة.

خاتمة
بعد كل ما تم عرضه، نستطيع أن نخلص إلى أن نذر الطاعة لا يعني التوقف عند حد تطبيق القوانين، بل يسمو بالمكرس ويتخطى به الهوّة العميقة بين الشريعة والحب. الطاعة كمشورة إنجيلية مرتبطة بالحب، والحب هو الوسيلة الوحيدة لاستعلان الحرية. فالحب يخلق حرية حكيمة، حكمة نازلة من فوق (يع 3 : 13)، حكمة وديعة مسالمة. ففي الواقع، الحرية الحكيمة تجعل من مقتنيها هيكلا لإرادة الله، فلا يشعر الإنسان بأي أثر لأي نوع من العبودية أو الإحساس بالقهر أمام ما يجب عليه من تضحيات لخلاص النفوس. إن نذر الطاعة هو مشوار الميل الثاني الذي يتطلب دائما سير الميل الأول، نذر الطاعة لا ينفي ضرورة طاعة القوانين الوضعية، لكنه يقودنا نحن المكرسين، سواء كنا رؤساء أم كنا مرؤوسين، إلى تحرير حريتنا من كل قيود أو مفاهيم خاطئة من شأنها أن تمنعنا من اختبار انطلاقة الروح، فحيث روح الرب تكون الحرية (2 كو 3 :17).

مراجع
جان غبرييل رانكي، المشورات الإنجيلية والنضج الإنساني، دار المشرق، بيروت 21998.
يوحنا الحلو (الخوري)، من أنت أيها الكاهن؟، دار المشرق، بيروت 21997.

BETZ H. D., The Sermon on the Mount (Minneapolis, MN: Fortress, 1995).
SKA J. L., Cose Nuove e Cose Antiche (Mt 13, 52): Pagine scelte del Vangelo di Matteo, Bibbia e Spiritualità 22 (EDB: Bologna 2004).

TENACE Michelina, Custodi della Sapienza: il Servizio dei Superiori, Lipa, Roma 2007