نص كلمة الأنبا إغناطيوس برزي مطران كرسي طيبة

نص كلمة الأنبا إغناطيوس برزي مطران كرسي طيبة

في تجديد الكرسي الإسكندري وتعيين الأنبا كيرلس بطريركاً عليه
«اخلعي يا أورشليم حلة النوح والمذلة والبسي بهاء المجد من عند الله إلى الأبد»
( باروخ 5 /1 )

خاص بالموقع -الأب إسطفانوس دانيال جرجس عبد المسيح

1-في ما كان عليه الكرسي الإسكندري من المجد والسؤدد في عهد اتحاده مع الكرسي البطرسي وصار إليه في الذل والرق حين انفصال عنه .

( أيها السادة الكرام والشعب المسيحي )

    أن إسرائيل بعد أن قضى السنين الطوال باكياً على آثامه التي ارتكبها بالتجائه إلى الآلهة الكذبة ونسيانه الإله الحق غفر له الرب زلاته أعاده إلى أورشليم بسرور في نور مجده برحمة وعدل من عنده . فلما عاين النبي باروخ إخلاص شعبه وعودته إلى المدينة المقدسة تهلل بالروح وهتف قائلاً : « اخلعي يا أورشليم حلة النوح والمذلة والبسي بهاء المجد من عند الله إلى الأبد » إن الذي قد ناله إسرائيل من النعم في العصور الخالية قد تم اليوم للشعب المرقسي إسرائيل الجديد فإن بكاء أبناء الكنيسة الإسكندرية على نسيانهم عهودهم مع كنيسة الله الجامعة قد مزّق كبد السماء وبلغ عرش العلي، فسمع الرب صراخهم وأجاب تضرعاتهم وأعاد إليهم مج آبائهم. فإن عيوننا قد شاهدت اليوم مجد الكرسي الإسكندري عائدا نقياً بهياً، ورأت من أشتهر بعلمه وفضله كيرلس الثاني جالساً عليه بطريكاً فيحقّ لنا اليوم أن نوجه خطابنا إلى الكنيسة الإسكندرية هاتفين مع النبي باروخ وقائلين لها بفرح وسرور : اخلعي يا أورشليم حلّة النوح والمذلة وألبسي بهاء المجد من عند الله إلى الأبد ثوب البر الذي من الله واجعلي على رأسك تاج مجد الأزلي فإن الله اظهر سناك لكل من تحت السماء.

 من مدة ليست ببعيدة كنا نبكي أمجاد كنيستنا التي اندثرت ونرثى مكارمها ومحاسنها التي ضاعت وانمحت. ولكن فليتبارك الرب يسوع الذي ترأف علينا وأعادنا اليوم بفم نائبه على الأرض الحبر الأعظم لاون الثالث عشر عزّ أجدادنا وشرف كنيستنا بتعيين كيرلس مقار بطريكاً علينا . اليوم صارت ثغور آمالنا بواسم وغرر أيامنا بصنوف الأفراح مواسم . كيف لا واليوم قد قامت طائفتنا من  حضيض الذل، وارتفعت إلى أوج الكمال، وصارت ليس فقط ُتحصى بين الطوائف المسيحية إذ فيها قد انتظمت كل المراتب الكهنوتية، بل نالت منصبها الأول ومقامها السامي في المشرق المسيحي.

    كم من تقلّبات طرأت على الكرسي الإسكندري وكم من محن وشدائد قد قاسى قبل وصوله إلى هذه الحالة المجيدة . أيها السادة ليس أحد منكم بجهل كون منشئ الكرسي الإسكندري هو القديس بطرس هامة الرسل الذي أرسل تلميذه وابنه الحبيب القديس مرقس ليجلس عليه بطريكاً وقد حاز هذا الكرسي منذ غرة النصرانية المقام الأول بعد كرسي رومة نظراً لمقام القديس بطرس مؤسسه . وليس هنا فقط وجه الافتخار بل أن ما أوتى من العلم والقداسة جعل له مركزاً سامياً في العالم المسيحي حتى قيل « أن لكرسي رومة سلطة القضاء والتدبير وأما الكرسي الإسكندري فله مجد العلم والتنوير » ومما زاده فخراً تمسكه الشديد وارتباطه مع أمه الكنيسة الرومانية ولنا أعظم شاهد على ذلك تصرفات الكنائس في الأجيال الأولى فإن هذه الكنائس عند ما كانت تريد إشهار انطباق آرائها لأراء كرسي رومة ما كان بها إلاّ التصريح بأنها مقتفية آثار الكرسي المرقسي ومتبعة خطته فإن هذا الكرسي كان دائما منقاداً لمراسيم رومة في كل المسائل وغير مخالف لها في أي أمر كان.

 أما سمعتم ما نطق به آباء المجمع الأورشليمي أهل فلسطين في مسألة الفصح حينما أحبوا أن يظهروا لقداسة البابا فيكتور رضوخهم التام لأوامره المقدسة اكتفوا بالقول « أنهم يحتفلون عيد الفصح مع الكنيسة الإسكندرية » ما أعظم الارتباط بين هاتين الكنيستين رومة العظمى وكنيسة الإسكندرية حتى كان إتباع خطة البطريك الإسكندري عنواناً على الخضوع لصاحب كرسي رومة. فطالما كان هذا الاتحاد سائداً بينهما كانت كنيسة الإسكندرية مقر القداسة ومحط حال العلماء مدارسها كانت عامرة وأسواق العلوم فيها قائمة وبضائع الآداب نافقة وشعائر الدين معظمة. نساكها أنطونيوس وباخوميوس ومقار كانوا مثال الورع والقداسة. إكليروسها كان مزداناً بحلية الهيبة والوقار ولا سيما بطاركتها العظام ديوناسيوس وأثناسيوس وكيرلس فهؤلاء فضلا عن سمة جمال العلم والتقوى التي كانت تضئ على جباههم كانوا أبطالاً للدين. سيفهم البراق كان كلمة الله القاطعة فيها شيدوا فخار الدعوة المسيحية أمام السلاطين ونشروا الحق وقهروا أضاليل الملحدين .

    هذا ما كان عليه الكرسي الإسكندري. ما أجمل ما كانت مدارسه: كانت زاهرة كزنابق الحقل. ما أبهى ما كانت كنائسه! كانت جميلة كخدر الأبرار ولكن كم من الزمن بقيت هذه المدارس منبت العلوم والفضائل كم من الزمن بقيت هذه الكنائس مقر الإيمان والتقوى. أو حسرتاه زمناً قصيراً لأن اتحاد الكرسي الإسكندري مع رومة لم يلبث إلا أجيالا قلائل. فإنه في منتصف الجيل الخامس شق ديسقوروس بطريك الإسكندرية عصا الطاعة وقطع علاقاته مع الكرسي البطرسي. لا ريب أنه لم يمر إلا القليل حتى جلس على السدة المرقسية بطريرك كاثوليكي متحد مع الكرسي الرسولي غير أن رباط الألفة بين الكرسيين قد ضعف جداً ولذا بنبئنا التاريخ بأن الكرسي المرقسي بعد انفصاله الأول مكث سنين وأجيالا يتنازعه البطاركة الكاثوليك والبطاركة اليعاقبة فكان يجلس عليه تارة بطريك كاثوليكي وتارة يعقوبي إلى أن تغلب عليه أخيرا بطاركة اليعاقبة وآل إليهم أمره إلى الجيل الخامس عشر الذي فيه انضم الكرسي الإسكندري إلى كنيسة الله الجامعة غير أنه ما لبث إلا القليل حتى انفصل من مركز الوحدة ثانية واستمر منفصلا إلى هذه الأيام كما تعلمون. وماذا يا ترى حل الكرسي الإسكندري في هذه السنين الطوال. هل حفظ مركزه بهياً نقياً من كل عيب كما كان له ذلك في الأحقاب الغابرة هل صان لؤلؤة علومه وفضائله من صدى الجهل وحمأة الرذيلة ؟

إن الحالة التعيسة التي وصل إليها الكرسي الإسكندري بعد انشقاقه أشهر من أن تذكر فقد أظلمت غرر علومه وذبل يانع فضائله وأصبح الخير فيه نادراً والشر ناضراً، أصبح العلم فيه مدفوناً والجهل منتشراً. أين تلك الرياض الزاهرة التي كانت تقف فيها منتصبة دواحي العلوم والفنون؟ أين تلك الأديرة السالفة التي طالما راق لأريج فضائلها الشرق والغرب؟ أين هم هؤلاء النساك الذين كانوا في ذلك القطر كأني بهم كواكب طالعة ونجوم ساطعة؟ أين هؤلاء البطاركة الفخام مساند الدين ودعائمه؟ يا لها من محاسن يصاحب زوالها الحسرات والدموع. ويا لها من مآثر يرافق ذكرها الأسى واللهف فتياً وسحقًا لشقاق كانت هذه عاقبته. أضاع مجد كنيستنا وهدم عزّ أجدادنا وأباد مدرسة الإسكندرية فخر الدين ونور العالم المتمدن.

2-في تدبير العناية الإلهية التي قيضت لنا كيرلس مقار لإعادة المقام البطريركي:

لقد استمر الكرسي الإسكندري على هذا النحو سالكاً في ليل مدلهم أجيالاً عديدة ينتظر بزوغ شمس الخلاص وبقي أبناؤه الأمناء يبكون منتظرين اليوم السعيد الذي فيه يعاينون إعادة مقام البطريركية الإسكندرية فعبروا وعيونهم لم تر شيئاً من ذلك. فأتت الأعوام وانصرمت الأجيال وكنت تسمع كلاً منها يسأل مع أشعيا النبي: يا حارس ما من الليل يا حارس ما من الليل متى يأتي أوان التعزية والسلوان متى يشرق الفجر. متى نحضر تلك الساعة المباركة؟ فكان الجواب الليل طويل!

 كان المرسلون اللاتين الذين أتوا من بلاد شاسعة يسألون يا حارس ما من الليل.متى يرتفع هذا الظلام؟ متى يسكن غضب الرب؟؟ كان الجواب الليل حالك الليل طويل!! يسأل النواب الرسوليون والأساقفة الكاثوليك المصريون متى ينتهي الخصام بين أولاد الكنيسة القبطية ويتم الصلح بين مسيحي مصر ويرجعون بأجمعهم إلى مركز وحدة الكنيسة الرومانية. لا ينتهي حتى يطلع الفجر. ابشروا أيها المرسلون ابشروا يا نواب مصر وأساقفتها ابشر أيها الشعب القبطي قد قرب الصبح. طلع الكوكب الساطع في الشنانية بمديرية أسيوط ظهر كيرلس مقار  رجاء طائفتنا الموقوف عليه إجراء إعادة الكرسي الإسكندري إلى عزّه الأول وسؤدده الأصلي.

3-في ما ظهر عليه كيرلس مقار من المواهب الفائقة في عهد التلمذة:

    سطع هذا الكوكب في مطلعه السعيد بنور العلم والفضيلة فإنه (أي كيرلس مقار) ما بلغ من عمره عشر سنوات حتى انتظم في سلك التعليم في كلية الآباء اليسوعيين ببيروت وكان الباري رزقه ذهناً متوقداً وفهماً نقاداً حتى بلغ من العلوم في مدة قصيرة مبلغاً عظيماً وفاق أقرانه لا سيما في علم الأدب والبيان والفصاحة واللسان وشغف بالنظم فكان يؤلف الأشعار بدون عناء كأنه ولد شاعراً وأعجب ما يقال في هذا الشأن وعايناه بالعين أنه بعد أشغال النهار عندما كان التلامذة يرقدون على أسرتهم كان يصنف القصائد الرنانة وفى الصباح كان يتلوها من ظهره فضلا عن الروايات البديعة التي كان يتفرّغ لتأليفها في بحر العطلة المدرسية. وكم نظم أشعار رثى بها بلاده المصرية ليس لأن أصقاعا ممتدة كانت تبعده عنها ولكن كان يرثيها لأنها تخلّقت بأخلاق مغايرة لشيم آبائها الكرام. ولم تذكر ما كانت عليه أجداها في سالف الأحقاب ولم تقتفِ آثار أئمتها القديسين الذين غرسوا على أديمها نبات العلم والقداسة.

    فبعد ما نبغ في العلوم الطبيعية والفلسفية وأتقن اللغات الأجنبية مثل الفرنسية واللاتينة واليونانية فضلا عن العربية والقبطية لغة أجداده ولج علم اللاهوت الفسيح المجال وما لبث أن برز منه بعد أربع سنوات وعلى هامته إكليل الدكتورية ولا تظنوا أن ما أتاه ربه من العلوم الواسعة حمله على الزهو والاختيال ورماه في التصلف والعظمة. كلا، بل جعل كيرلسنا الاتضاع أساسا شيد فوقه كل خصاله الحميدة ومناقبه الشريفة وعند ما كانت ترد عليه التهاني من كل صوب وفج لكثرة معارفه العظيمة فبعيداً أن ينّسر بذلك كان يذرف العبرات وكنا نسمعه يناجى نفسه قائلاً :« انتبهي يا نفسي ولا تغتري بقليل من العلم أعارك إياه من لو أراد لأعدمه منك سريعاً. أركني نفسي إلى التواضع واعلمي أن الله لم يرزق العلم إلا امتحانا  لمن يقتبله. فالأجدر بك، والحالة هذه، أن تذرفي العبرات طالبة عون الغلبة لا الاشتباك  بحبائل الغرور» فلله دره من كيرلس جمع بين العلم والتواضع والبشاشة والوقار والحلم والغيرة الرسولية والاستقامة والفطنة والنزاهة وعزة النفس هذا قليل من كثير. جعله أهلا لأن يقبل درجة القسوسية في مدينة بيروت من الحبر الجليل السيد غود نسيو بونفيلى الذي صار له أبا ولنا جميعاً إذ وضع يده على الكل ونعم الأب . . .

انطلق الآن يا كيرلس مقار انطلق إلى وطنك العزيز الذي طالما اشتقت لإصلاحه ومكثت بعيداً عنه خمسة عشر سنة لتكون في استعداد لذلك قم وانطلق إلى بلاد أجدادك واليوم تاج الفضيلة يكلل رأسك وجمال العلم يضئ على جبينك أنطلق تنفيذاً للعمل الخطير الذي انتدبك إليه ربك .

4-في ما ألفه من المصنفات الشائقة واقترحه من المشاريع الجلية أثناء ما كان متسما بدرجة القسوسية:

    عاد القس كيرلس مقار إلى الديار المصرية في شهر يوليو سنة 1892 ولما كان من أبناء الطائفة الذين يهمهم أمر تقدمها أخذ يبحث في كيف يسد عظيم ثلمها ويعالج شديد كلمها. فما وجد لذلك أحسن طريقة سوى النداء بالاتحاد وجميع شتات أولاد الطائفة القبطية إلى الوحدة وحيث أن معظم الأوجه الفاصلة بين أولاد الطائفة القبطية هما رئاسة صاحب كرسي رومة على العالم المسيحي والقول بالطبعيتين في المسيح. ألف القس كيرلس كتابين الأول سماه ” دليل المصريين ” والآخر دعاه “المسيح عمانوئيل” أثبت فيهما حق الرئاسة لبطرس وخلفائه أحبار رومة والقول بالطبعتين في المسيح وفند ادعاءات كل من ينكرون ذلك وما اكتفى بهذا الأمر بل صنف كتاباً ثالثاً وسماه تاريخ الكنيسة الإسكندرية كله درر. أبان فيه جلياً متتبعاً المستندات التاريخية التي لا يجوز لعاقل إنكارها بأن ما حصلت عليه الكنيسة الإسكندرية من الخير كان سببه اتحادها مع الكرسي البطرسي. كما ما انتابها من الشرور كان مصدره انفصالها عنه وهذه والحق يقال أنجع وسيلة تذرع بها القس كيرلس لإعادة أبناء الكنيسة القبطية إلى أمهم الكنيسة الرومانية فكم من إخوتنا الأقباط المنفصلين عنا دخلوا إلى حظيرة المسيح على أثر مطالعتهم هذه التآليف الجليلة فإن المئات والألوف رجعوا باكين إلى دين أجدادهم الدين الكاثوليكي.

    غير أن القس كيرلس فطن بما فطر عليه من سمو المدارك وثاقب الأفكار بأن الكرسي المرقسي مادام مترملاً ليس له رئيس يرأسه ولا قائد يسوسه كان العمل ناقصاً والفائدة قاصرة. فانتهز فرصة التئام بطاركة الشرق في رومة وبعث  إلى قداسة البابا لاون الثالث عشر برسالة موقع عليها من الإكليروس القبطي الكاثوليكي بيّن فيها انحطاط البطريركية الإسكندرية بعد سابق ارتفاعها إلى ذروة المجد أوج الكمال وأن الشأن الأعلى في تحسين شؤون الأمة القبطية هو إقامة الهيئة الكنائسية بتمام مراتبها فيما بينها والتمس من الحبر الأعظم أن يقرر بماله من السلطة الرسولية تجديد النظام الأسقفي عند المصريين وإعادة المقام بطريركي إليهم .

5- ما أتاه من الأعمال الخطيرة أثناء توليه المنصب الأسقفي:

    قد رأى لاون الثالث عشر الحبر الأعظم الذي أنار العالم المسيحي بضياء حكمته الساطعة غب اطلاعه على هذه الرسالة التي تليت في مؤتمر البطاركة بان الكرسي المرقسى لما هو عليه من وثيق العلاقة وشديد الارتباط بالكرسي البطرسى لا يجدر أن يبقى على هذه الحالة التعيسة وبان شرف الكنيسة الرومانية يقضى عليها أن توجه أنظارها إلى بنتها البكر وأن تعيد لها مكانتها واعتبارها الأولين وفعلا أن الحبر الاعظم قد منحنا بادئ بدء كيرلس مقار أسقفا ونائباً رسوليا على القطر المصرى فصادف هذا التعيين عند أبناء الأمة القبطية حسن القبول ووقع في قلوبهم ألذ موقع وإظهاراً لامتنانهم للكرسي الرسولى اشتدت عزيمتهم على أن يرسلوا إلى رومة وفداً حافلاً تشكراً للحبر الأعظم وفى الحقيقة قد تمثل بين أيديه في شهر سبتمبر سنة 1895 وفد الأقباط الكاثوليك من كافة طبقات الأمة تحت رئاسة أسقفنا الجليل أنبا كيرلس الذي بعد أن رفع لقداسته مراسيم الشكر لتعيينه أسقفا وأعرب في ضمائر طائفته من المحبة والاحترام نحو الكرسي البطرسى  وشدة تعلقهم به التمس من الحبر الاعظم مساعدة وشمولا أوفر بشؤنهم وشؤون إخوتهم المنفصلين ويبرز في مقابلاته العديدة للحبر الاعظم إن الشأن الأعلى في ذلك هو إعادة منصب البطريركية الإسكندرية وطلب منه ذلك بتواضع والحاح عظيمين فتأثر قلب هذا الحبر لدى وقوفه على هذه العواطف ولم يستطع إلا أن يفرج عن الكنيسة الإسكندرية غمها وبرد لها ضالتها المنشودة .

    فما أحسن وأعظم هذا اليوم الذي تحقق فيه الحبر الاعظم عدالة هذا الطلب وملائمة تلبية هذه الرغائب فجدد مقام البطريركية الإسكندرية وقرر للأقباط أمر تدبيرها وعهد إليهم بزمامها ما اشرف هذه الساعة المباركة التي دخل أنبا كيرلس إلى وطنه العزيز بعد غيبة طالت ثلثة أشهر ناشراً هذه البشرى العظيمة على مسامع أبناء طائفته في هذا اليوم خلعت الكنيسة الإسكندرية لباس الحداد وتسربلت بثياب عزها في هذا اليوم عم السرور الديار المصرية وكان الجميع  يتعانقون فرحاً وابتهاجاً

    هذه هي الأمور الخطيرة التي تمت في رحلة السيد أنبا كيرلس صحبة الوفد إلى رومة في جلسة 29 نوفمبر سنة 1895 ولم يبق إلا تعيين البطريرك فعلا وقد طمحت من ذاك العهد كل الانتظار تعيين البطريك فعلا وقد طمحت من ذاك العهد كل الانتظار إلى شخص أنبا كيرلس منتظرة انتخابه إلى هذه الرتبة السامية من يوم إلى يوم حتى بلغنا الخبر بأنه سافر قاصداً بلاد الحبشة بأمر من الكرسي الرسولى ولما ترى إن العناية الإلهية التي ألهمت الحبر الأعظم أن ينقذ الأسرة التليان الذين سقطوا بين أيدا الحبشة ألهمته أيضا أن يختار كيرلس مقار لهذه المهمة . فيتمكن إذ ذاك مدير شؤون بطريركيتنا من زيارة الشعب الحبشي التابع للكرسي الإسكندرى . أعجبوا من طاعته السامية التي لا تلتفت إلى المصاعب وقلبه الشجاع الذي لا يخشى الأخطار ترك الأوطان وركب البحار وسار في القفار والبراري أياما عديدة تتميماً لمهمته الخطيرة أما نحن غكنا نرافقه بالفكر ونقول لأنفسنا خائفين : هل يا ترى يرجع إلينا سالماً معافاً . احفظى يا ملائكة الله شخص رئيسنا الموقر وقودي خطواته في هذا السفر الطويل فإنه رجاء امتنا وعليه وضعنا آمالنا وتحسين مستقبلنا . وصل أنبا كيرلس مقار عاصمة الحبشة بعد ما رأى من الأهوال أشدها وقاسى من المشقات أمرها وليس احد منكم يجهل كيف قام بمأموريته الخطيرة أمام منليك سلطان الحبشة وحسبنا أن نقول بأن الفطنة التي اشتهر بها في إنجاز هذه المهمات قد أدهشت الأعداء وحازت موقع القبول لدى رجتا الفاتيكان وبعد ما مكث ستة أشهر في رحلته هذه رجع إلى بلاده التي كانت تتلهف لمشاهدة تلهف الأيل إلى المياه وعاد وفد حنكته التجارب وزادت علمه وفضيلته رسوخاً وجمالاً وهذا مما زاده اعتباراً في أعين طائفته ومعزة عندها .

    إن العقل يندهش والفكر يرتبك عندما يتأمل في الأعمال الجليلة التي أتاها أنبا كيرلس في مدة وجيزة تحسينا لشؤون طائفته فضلا عن المهام الخطيرة التي قام بها أمام الملوك والسلاطين فهو والحق يقال الذي أحيا فينا العظام وهى رميم بمساعيه قد تعين لنا أسقف  مصر بالديار البطريركية تحت رئاسة نيافة القاصد الرسولى  غود نسيو بونفيلى وجدوا قانون الكنيسة القبطية مع مراعاة ظروف الأزمنة والأمكنة .

6-على البطريق الجديد بان يقتفى أثار سلفائه الكرام وتحذير للكرسي الاسكندرى ألا يخون عهوده مع الكرسي الرسولى:

    حقاً قد تم نظام الكرسي الاسكندرى ولم يبق إلا تعيين من يجلس عليه وطالماً تساءل الأفراد والجماعات هل يا ترى يتم لنا ذلك. هل لكم أيها الأقباط أن تروا بعد انصرام عشرة أجيال ونيف بطريكاً كاثوليكيا جالساً على الكرسي الاسكندرى بلا شك ترون في ذلك فإن الحبر الاعظم لاون الثالث عشر الذي أبدى للكنيسة الإسكندرية من إمارات الانعطاف والمحبة مالا يوصف قد نطق واصدر قراره . وفى جلسة 19 يونيو سنة 1899 قد أعلن بصفته صاحب الرئاسة العليا كيرلس مقار بطريكاً على الكرسي الاسكندرى لما رأى فيه من العلم والتقوى وحسن الإدارة . تهلل اليوم يا كيرلس مقار بطريركنا العزيز ليس لأنك تقلدت هذه الرتبة السامية التي أبداً ما مالت إليها نفسك بل لأن الرب بفم نائبه قد أنجز كل مقاصدك الشريفة التي أوحاها لك قلبك التقى . تقلد سيف مجدك الذي هو تعليم كلام الله تسر بل بحلة سلفائك ديوناسيوس وأثنانسيوس وكيرلس . حلتهم كانت العلم والقداسة . فلتكن دائما هذه حلتك وأنت أيها الكرسي الاسكندرى انهض من وهدة الظلام وارفع أبصارك إلى النور فقد أشرقت عليك شمس الصلاح والفلاح أخلع عنك الحداد لباس المذلة وتسربل بحلة المجد فإن زمان ترملك قد انقضى وأتاك عريسك كيرلس مقار متجملا بكل الفضائل مزداناً بكل العلوم . ولا تنس في فرحك من كان سبباً لعزك ومجدك لا تنس الحبر العزيز لاون الثالث عشر الذي ألبسنا بعد الحداد الطويل لباس البهاء والسرور . لا تنس الكنيسة الرومانية ولا تخونن عهودك معها . تذكر أن الأحزان الطويلة الشديدة التي ألمت بك كان سببها انفصالك عنها كما أن المجد الذي كلل هامتك اليوم وكان لك في الأصل ما نلته إلا باتحادك معها . نعم يا كنيسة الله الرومانية يا عروس المسيح الحقيقة أننا لا ننساك أبداً إذا نسيناك فلتنسنا يميننا وليلتصق لساننا بحنكنا بل إننا جعلنا خيرنا وشرفنا في توثيق رباط الوحدة معك وتعلقنا الشديد بك . وذلك طالما يجرى في عروقنا دم ويسرى في قلوبنا حب آمين .

في كاتدرائية القيامة للأقباط الكاثوليك بالإسكندرية
في يوم الجمعة الموافق 12 من شهر يوليو لسنة 1899

بنعمة الله
أخوكم الأب إسطفانوس دانيال جرجس عبد المسيح
خادم مذبح الله بالقطنة والأغانة – طما – سوهاج
stfanos2@yahoo.com