نعم … أنا “سورايا”  بقلم المونسينيور بيوس قاشا

نعم … أنا “سورايا” بقلم المونسينيور بيوس قاشا

  في البدء

المسيحية رسالة، والإنجيل ليس كتاباً بل مسيرة حياة نحياه في مسيحيتنا كي نحمله إلى الآخرين، فالمعلّم علّمنا قائلاً:”اذهبوا إلى العالـم وتلمـذوا الأمـم”(متى19:28)، فالمسيح ليس مُلْكنا بل هو لكل إنسان آتٍ إلى العالم، فنعلن له رسالة الإنجيل في البشارة الحسنة، وما هذه البشارة إلا

نبوءة السماء وعطاؤها، فكلنا واحد في جسد المسيح “فإذا تألم عضو تألم الجسد كله” (1كور26:12) وهذا ما يجعلنا أن ننفي من مسيرة حياتنا طائفيتنا وأقليتنا وأغلبيتنا كي نجعل الآخرين أخوة لنا وليس عبيداً أو تابعين لإرادتنا أو لأفكارنا أو حتى لمخططاتنا، فالمسيحية تنادي بقبول الآخر المختلف واحترام إيمان الآخر وفي ذلك نحمل البركة إلى الآخرين إذ قال:”باركوا ولا تلعنوا” (رو14:12).

   الرجاء بالمسيح

عمَّذتُ طفلاً، وطُلِبَ مني أنْ أُعطيه إسماً، فأسميتُه “سورايا”، وإنْ كان زمانُنا مخيفاً وضائعاً، فالأسماء فيه مبتلاة والتسميات مشترات خوفاً من أو استعباداً لغيره، فلم أسمّيه “كلدو” ولا “آشور” ولا “نهرين” ولا “رافدين”، ولم أسمّيه “آرامياً” أو “سريانياً” أو “كلدانياً” أو “أرمنياً” ولا حتى “مارونياً” خوفاً من أن يكبر في القامة عنصرياً أو طائفياً أو أقلياً، ويعيش أغلبية فيكره الأقلية، ولكن أردتُ أنْ يكون إسمه مسموعاً في الآذان ومقبولاً في الرحيل والهجرة، في الغرب وغروبه وفي الشرق ومشارقه. فعند الغرباء الأجانب ربما يفسّرون إسمَه من تبعية العنصرية فلا يقبلون بَصْمَتَهُ ثم رحيلَه، وعند الآخرين ينعتونه طائفياً فلا يسمحون له بالمواطنة وينجح الأصوليون في تسميته كافراً ويحلّلون دمه، ومن خوفي من تسميته في هويته أو في جوازه كي لا يكون مرفوضاً ومهجَّراً علّمتُه أن لا يخاف من الدنيا، فالرجاء بالمسيح الحي. تمنيتُ أنْ أسمّيه كاثوليكياً أو أرثوذكسياً ولكن خوفاً من أن لا يكون أميناً لِدِينِه وإيمانه، ولا يعرف عنهما شيئاً إلا سطحيات الزمن، ومع هذا تراجعتُ فبدأتُ أرشده وأعلّمه مبادئ الإيمان، فهو خُلِقَ لله ولمسيحه ولإنجيله، ثم لشعبه وأرضه، وأردتُ أن يعرف أنّ الكنيسةَ أرضٌ مقدسة وإنّ وطنَه ترابٌ أحبّه الله فمنه خَلَقَه وفيه وضعه، فهو مسيحي له ولغيره.

   في مركز الناصرة

شبّ الطفل وكبر في القامة أمام الناس (لوقا 52:2) فسجَّلتُه طالباً في مركز الناصرة للتعليم المسيحي ليكبر أيضاً في الحكمة والنعمة أمام الله (لوقا 52:2) وكنتُ له معلِّماً، وأرشدتُه في طريق الحقيقة ليقف في وجه كبار الزمن الفاسدين من الداخل وهم عنهم _ قال المسيح الحي _ ذئابٌ خاطفة (متى15:7)، فيقدّسون ذواتهم ولا يقبلون أنْ تُكسَر كلماتهم وتُعدَّل أفكارهم… إنهم الكبرياء بالذات.

   تعليم وإيمان

علّمتُه، أنّه حُمِلَ صغيراً إلى بيت الرب بكراً وفاتح رحمٍ ليحمل الضعفاء إلى حيث المتعَبين والثقيلي الأحمال فالمسيح الرب يريحهم (متى28:11).

علّمتُه، أنّ الإيمان ليس أغلبية وأكثرية أو أقلية وطائفية بل إنّ الإيمان هو في مسيرة الحياة وفي قلبها، وما نعيشه في السيرة والمسيرة، وإنه صدق ومحبة ورحمة وعمل، وقول المسيح للأبرص:”هل تؤمن؟”… إنها الحقيقة (لوقا 19:17).

علّمتُه، أنّ المسيحية رسالة سماوية قبل أن تكون بشرية، وإنّ الإنسانية حقيقة وليس وَهَم، وما علينا إلا أنْ نكون خدّاماً لكلمة الحقيقة، فالمسيح الربّ قال:”مَن كان فيكم كبيراً فليكن خادماً” (مر43:10).

علّمتُه، أنّ الجائعَ يجب أنْ يُعطى ويُزاد لا أن يكون مرفوضاً ومطروداً، فالمسيح جائع إلينا (متى31:25-46) قبل أنْ نجوع لأنفسنا، وإنّ الظلمَ والفسادَ مرفوضان مهما صَغُرا أو كَبرا، فهو قال:”لا تسرق ولا تظلم” (الوصية السابعة).

علّمتُه، أنْ لا يسرق من مال غيره، أو يجعل نفسه طاهراً فيسرق فساده من دنياه ليكون طاهراً أمام الناس والملأ، فيكون قديساً أمام ناظريهم ولكن الربَّ يعرف النوايا والخفايا (أع 21:4).

علّمتُه، أن المسيحية لا تحمل خطوطاً حمراء بل هي الحياة لكل الناس “فيه كانت الحياة” (يو4:1)، ولا يكون رئيساً يحب بعضاً ويكره بعضاً، ولا يجامل أقاربه ومعارفه وأصدقاءه وأحبّاءه، ولا تكن المصلحة هدفه، بل أردتُه أن يكون خادماً للكل، فالمسيح الرب قال:”أنا بينكم مثل الذي يخدم” (لو27:22).

علّمتُه، أنّ الله يحيا في القلوب، ففيها كانت الحياة قبل الطوائف والمعابد والمذابح، فربّنا يدعونا أنْ نترك كل شيء على المذبح ونصالح أخانا، وليس أنْ ننتمي لذواتنا أو نعتبر أنفسنا نحن وليس غيرنا (متى23:5-24).

علّمتُه، أنّ اللهَ أمينٌ حتى الموت وليس مخافةً أو جبروتاً. فالمخافة حكمة وسبيلها الله، والجبروت قوة وسبيله الحب، والرب يسوع لم يمت من أجله، ولا من أجل عشيرته ولا طائفته، بل أعطى حياته من أجل العالم كلّه وأعطاها حتى الموت (يو16:3).

علّمتُه، أنّ الفاسدين فاسدون، ومَن يحامي عنهم يسرق وصية الله، ويشوّه صورته، ويشترك في خطيئته مهما كان مركزه أو مقامه، فبالفساد يمكن شراء كل شيء. والإنسان لا يملك شيئاً حتى الذي له ليس له، فالرب يقول:”والذي أعدَدْتَه لِمَن يكون” (لو20:12).

علَّمتُه، أنْ لا يرافق النميمة ولا مسيرة الإفتراء، وأنْ يكون مسيحياً يحفظ أسرار الآخرين وليس إشهارهم، وعلّمتُه أنْ لا يجالس مثل هؤلاء الناس ولا يصدق كل ما يقال له من قريب أو بعيد، بل أن يكونَ مؤدباً في مسيرته ومحتشماً في كلامه ولا يحابي أحداً من أجل مصلحته، صادقاً في كلامه، لا يهاب كبار الزمن ولا صغار الدنيا لأنَّ أساسه مبني على صخرة المسيح (متى 7).

علّمتُه، أنْ يقول الحقيقة في وجه الأقوياء والفاسدين الذين يقفون في الصفوف الأولى والأمامية في المعابد بحجّة أنهم أطهار القلوب وسليمي النيّات وقادة الشعوب وقلوبهم مليئة حقداً وبغضاً وكرهاً… إنهم شيطان اسود وشجرة رديئة لا تعطي إلا ثمراً رديئاً وإنْ إخضرّت أوراقها (متى 18:7).

علّمتُه، أنّ ما يجب أنْ يكون هو ما ينقصنا، وإنّ ما عندنا ليس مُلْكَنا، فكل شي هو لله، ومنه وإليه يعود، وما نحن إلا وكلاء، وما على الوكيل إلا أنْ يكون أميناً، والأمانة رسالة ومحبة (متى45:24).

علّمتُه، أنّ الرحمة سبيله إلى العيش، وأنَّ لا مناص من ذلك ليكون كريماً في عينَي الربّ، كما كان السامري صالحاً (لوقا10).

علّمتُه، أنْ يقول “آمين” لمشيئة الرحمن عملاً بقول المعلّم “لتكن مشيئتكَ يا الله” (متى39:29) كي لا يتكبّر في الدنيا والأزمان (متى39:29).

علّمتُه، أنْ لا يكون في خلاف مع معبده ليتركه ويذهب إلى معبد آخر معتبراً أن مسيح معبده قد أضاع الحقيقة ونسي أنه هو الابن الضالّ الذي ترك معبده ووالده( لوقا 15) .

علّمتُه، أنه مهما حصل عليه أن يقول “أنا سورايا” كي يمحو من عقله وقلبه كل التسميات والأنانيات، كل العشائريات والطائفيات والقَبَليات، كلّ الأنا وحبّ الذات، ولكي أعلّمه أنّ الربَّ جائعٌ وعطشانٌ إلى نفوسنا وليس إلى سواعدنا، وإنّ الربَّ غريبٌ بيننا ومسجونٌ بسبب نكراننا له، وحبّنا لأنفسنا ولمناصبنا وكراسينا وزماننا ومواقعنا، “والعبد الشرير، يقول ربنا، يُرمى في الظلمة البرّانية هناك يكون البكاء وصرير الأسنان” (متى42:23).

علَّمتُه، أنْ يكونَ مطيعاً لرؤسائه وإخوته وليس عبداً، وأن يعبد الرحمن الرحيم وليس أولياء الأمور والزمن، فاللهُ حيٌّ لا يموت.

علَّمتُه، أنْ يكونَ أميناً للحقيقة ولا يفتش عن القضاء من أجلِ منصبٍ مسروقٍ لكبار الدنيا في مصلحة “الأنا”، فالمسؤولُ خادمٌ وليس قاضٍ.

علَّمتُه، أنْ يعطيَ كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ ولا أنْ يتلاعبَ بميزانِ اللهِ وعدلِهِ من أجلِ نيَّةٍ أو مصلحةٍ أو نظرةٍ أو حسابٍ.

   الخاتمة

ختاماً، علّمتُه، أنْ يكون شاهداً للحقيقة مهما جارت الدنيا والزمن، وأنْ يكون كلاً للكل وخادماً للكل ومُحبّاً للكل، لأنه ينتمي إلى الكلّ، وليس إلى قوميته أو طائفته، ولا يمكن أن يكون خادماً لمذبحه ومعبده، بل هو مُلْكٌ للآخرين (مر35:9). فالمعبد والمذبح لله في مجده، وللكلّ في صلاته… نعم، سَمَّيتُه سورايا، بل أنا سورايا من أجل الكل، حينذاك بإمكاني أن أكون كلدانياً أو سريانياً أو أرثوذكسياً أو أرمنياً أو حتى مارونياً… نعم أنا سورايا… نعم وآمين.