نَحنُ وثقافة الخير العامّ

نَحنُ وثقافة الخير العامّ

الأب أنطون فؤاد
مدرس تاريخ الكنيسة بالكلية الإكليريكية

مقدمة

مصطلح الخير العام يعني, أن الشخص يُفضِّلُ خيرَ الجماعة التي يحيا فيها عن خيره الشخصيّ، أو بتعبير آخر أن يكون الفرد أمينًا على مقدّرات الجماعة, وهذا المبدأ هو مبدأ أساسيّ لحياة أي جماعة، فحينما نقول: جماعةً أو وطناً فنحن لا نعني فقط عدداً من الأفراد، ولكن نعني أفراداً يعيشون معًا في حالة تضامن كامل، هذا التضامن يعني أن يقوم كلُّ فرد بدوره نحوَ الجماعة والحفاظ على مقدّراتها وأنْ تقوم الجماعة برعاية الفرد ومساعدته في أن يحقّق ذاته وسط الجماعة وليس على حسابها أو بمعزل عنها.

ماذا لو غاب مبدأ الخير العام؟

لا نحتاج لأن نفتح الكتب أو نبحث في المعاجم والقواميس للإجابة على هذا السؤال، بل نحتاجُ أنْ نرصد ما يحدث في الشارع المصريّ لنجد أوضح وأصدق إجابة عن حال مجتمع اندثرَتْ فيه وغابَتْ عنه ثقافة الخير العام: فهذا يوقف سيارته في عرض الطريق، لا يبالي بتعطيل سير الآخرين، وهذا يلقي بالقمامة في الشارع غير مبال بما تجلبه للآخرين من أمراض، وآخر يسير بسيارته في الاتجاه المعاكس، لا يَهُمُّهُ ما يفرضه من مخاطر على الآخرين و حياتهم، وهذا يذهب إلى مكان عمله ولا يريد أنْ يقوم بالجهد المطلوب منه تُجاه الآخرين أو لا يذهب نهائيًا غير عابئ بما يعطله من مصالح العباد، وآخر يستولى على ما تحت يده من مقدّرات الوطن أو الجماعة ويسخّرها لخيره الخاص غير عابئ بأنه قيّمٌ وأمينٌ عليها وليس مالكًا لها، حتى نصل لمَنْ يرغب في السلطة حتى ولو وصل أنْ يثبّت عرشه على جثث الآخرين والكثير والكثير مما نراه أو نعاني منه. أيّ يمكننا القول بلا مبالغة أنه حينما تغيب ثقافة الخير العام يتحوّل المجتمع تدريجيًا إلى غابة، لا يهمُّ الفرد فيها إلاّ إشباع جوعه حتى لو افترس الآخر.

لماذا غابَتْ ثقافةُ الخير العام من مجتمعنا؟

دائمًا ما أطرح على نفسي هذا السؤال: كيف لمجتمع يتباهى دائمًا بالدين أن تكون سلوكّياتُهُ بهذا الشكل؟ لماذا نتكلم دائمًا بلهجة دينيّة ولا تظهر هذه اللهجة في سلوكنا؟

يتفق الكثيرون من الباحثين في مجال العلوم الاجتماعيةّ أن درجة إيمان أيّ مجتمع وثقافته تتناسب طردّيًا مع إعلاء ثقافة الخير العام. وهنا حتى لو أن هذا ليس مجال مقالنا ولكن علينا أن نتساءل هل نحن مجتمع مؤمن؟ أم مجتمع له مظاهر الإيمان؟

و في إجابتي على السؤال لماذا غابت ثقافة الخير العام لم أجد إلا التاريخ ملاذًا ليقدم لي إجابة مرضية. فكيف لشعب عاش دائمًا يدرك أنّه والأرض التي يحيا عليها وكل ما فيها ملك للفرعون أيًّا كان هذا الفرعون حسب ثوب الزمان الذي يمثّله سواء كان حاكم أو إقطاعي.

أيضًا كيف لشعب عانى الخضوع من احتلال لآخر أن يشعر أنه مسئول عن أرض ووطن يشعر دائمًا أنها سُلبت منه. كيف لشعب قام بعدة ثورات وضحّى فيها كثيرًا بدمه أملاً في أن يشعر أنه مواطن ودائمًا يجد من يسرق ثورته أو يأخذها لنفسه ومنفعته.

كيف لشعب شعر دائمًا أنَّ مقدراتِ الوطن أو المؤسسة في أيدي أهل الثقة وليس أهل الكفاءة أن يشعر بالانتماء؟

وفي العقود الأخيرة التي سيطرت فيها على مجتمعنا ثقافة البادية التي ترفض الآخر ولا تقبله شريكًا كيف يمكن أن ينظر فرد تتلمذ منذُ صغرِهِ على أن الآخر لا يخصني، أن يُغَلِّبَ مبدأ الخير العام في التعامل معه.

كل هذه العوامل جعلَتْ الثقافةَ السائدةَ هي ثقافةُ “أنا ومن بعدي الطوفان” وهي الثقافة التي لا ترقى بأمة ولا تقود مؤسسة أبدًا نحو النجاح، ولعلَّ هذا ما يجعل ما نراه اليوم حولنا ونستنكره، مألوفًا بل ومحبوبًا عند البعض.

كيف نخرج من هذا؟

ما تراكم في سنوات وقرون لا يمكن تغييره في لحظات، هذا ما يعلّمنا إيّاه التاريخ، ولكن التاريخ يعلّمنا أيضًا أنهّ من أجل إحداث التغيير لا يكفي أن تقفَ دائمًا على الرصدِ بل عليك أن تبدأ بالفعل. فمجتمعنا ماهرٌ جدًا في الرصد والتحليل ولكننا اليوم لا نحتاج لرصد أو تحليل وإنَّما نحتاج لتفعيل خطة عمليّة للتغيير تبدأ بالتوعية وتنتهي بتطبيق القانون الذي يحمي مبدأ الخير العام ويتساوى أمامه الجميع.

التوعية تعني أن تقوم كلُّ الوسائل التعليميّة والتثقيفيّة بتقديم نفس الرسالة والسير بها في نفس الاتجاه، فلا يجب أن يسمع الطفل في المدرسة رسالة وحينما يذهب إلى السينما أو يجلس أمام التلفزيون نقدّم له رسالة أخرى، نحن نحتاج إلى مشروع قوميّ فعليّ تتضافر فيه كلُّ مؤسّسات المجتمع يدور محوره حول إرساء وتعميق ثقافة تغليب مبدأ الخير العام، وقتها حسب اعتقادي سَتُحَلُّ كثيرٌ من المشاكل التي نعاني منها الآن.

الكنيسة ومبدأ الخير العام

تعرّضنا فيما سبق لإرساء مبدأ الخير العام في المجتمع، ولكن بحكم كوني كاهناً عليّ أن أتساءَل عن دور الكنيسة تُجاه إرساء وتعميق مبدأ الخير العام الكنيسة إحدى المؤسّسات الفعّالة في المجتمع، مثلها مثل المَسجد والمدرسة والجامعة والإعلام، ومَنْ يذهب للكنيسة لا يبحث فقط عن متابعة الطقوس، ولكنّه يبحث أيضًا عن كلمة حياة، أيّ كلمة تقوده نحو الحياة الأفضل، والدخول في عمق العلاقة مع المسيح، لذا فدور الكنيسة يكمن في التوعية الدائمة بأهمية الحفاظ على الخير العام، وذلك من خلال العظات والكلمات المقدَّمة في الاجتماعات الفئوية، نحتاج تعميق جوهر المبدأ وليس لفظه فقط، كذلك يحتاج المؤمنون أن يَروا سلوك الكنيسة يتطابق مع المبدأ الذي تعلّمه، فلا يُعقَلُ أن نصدق من يريد تعميق مبدأ الخير العام ونراه يدوس الآخرين من أجل الوصول لمنصب، أو مَنْ ينادي أن يلتزمَ الجميعُ بالحفاظ على مقدّرات المؤسّسة الكنسيّة ونجده يبدِّدُها من أجل منفعته الخاصّة، أو مَن يرفع لواءَ العدالة الاجتماعيّة في المجتمع ولا يطبّقه في اختياراته وتوزيعه للمسئوليات.

الكنيسة هي بنت مجتمعها، نعم ولكنّها قائدة له نحو التغيير، لذا على الكنيسة أن تخرج للمجتمع لتغيّرَه، لا أن تسمحَ له بالدخول إليها ليفسدَها.

خاتمة

أحلُمُ بمجتمع تسوده العدالة الاجتماعيّة، أحلُمُ بمجتمع يتضافر فيه الجميع؛ الحاكم والمحكوم من أجل نهضته، أحلُمُ بمجتمع يملك فيه الجميع كلَّ مقدّراتِه، وفي نفس الوقت، يُسأَلُ فيه الجميع عن حماية هذه المقدّرات. أحلُمُ بمجتمع وكنيسة تحكمهما ثقافة “الخير العام، أولى أن يُتّبَع، والخير الشخصيّ سيأتي لاحقًا”.
نداء لكلِّ فردٍ في بلدي وكنيستي “هَلُمَّ نبني أسوارَ أورشليم فلا نُصبِحُ عارًا بين الشعوب” مع استبدال أورشليم ببلدنا وكنيستنا وكلّ مؤسسة نحن فيها.
فهل من مجيب؟!