والخلائق تسبح بحمده “الرمال”

والخلائق تسبح بحمده “الرمال”

المونسنيور د. بيوس قاشا

نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ،  حكمة ومحبة ورسالة… وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات  من ” والخلائق تسبح بحمده” أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .

        مَثَل صيني قديم يقول: أن الأشياء الليّنة والرخوة تستطيع أن تتغلّب على الأشياء الصلبة وتحطّمها، ولكن العكس غير صحيح. فالهواء يقتلع الأشجار القوية العملاقة، والماء ينخر صخور الجبال ويفتّتها على مرّ الأجيال. حاولتُ أن أفهم هذه الحقيقة يا سيدي، وأنا قابض على حفنة من الرمل بين أصابعي. إن رمال الشواطئ كانت في الأصل صخوراً صلبة وكثيفة ثم تفتّتت وتآكلت بفعل المَدّ والجَزر. واليوم أصبحت هذه الصخور الضخمة عواصف من الرمل والغبار، تدور في بطون الصحارى ثم تهجم على مدننا وأريافنا، وتدخل حتى في خياشيمنا( أنوفنا) .

         إن الرمال تحكي لنا قصة تاريخ الكون بصوت خفيض. أريـد أن أجدكَ يا سيدي في صميـم هذه الحكاية. أريد أن أفهم العلاقة بين الصلابة والنعومة، بين القوة والليونة، بين الحقيقة والفساد، بين الكبرياء والوداعة ، بين السذاجة والبساطة ، بين الغرور والانفتاح ، ومَـن منهما سوف يتغلّب على الآخر؟. لاشكّ أن النعمة تحاول جذب الإنسان إلى الله، وإن الحرية الشخصية تحاول الابتعاد عن الله. ولكن هنالك مؤرّخون مسيحيون كثيرون أدانوا حملات الحروب باعتبارها وسائل عنف محرَّمة في الدين المسيحي. وأنا بدوري لا أريد أن أخوض في المعارك الدامية التي دارت بين الألبيجيين والهوسيين من جهة، وبين المحاربين البابويين من جهة أخرى، ولا في السجون المظلمة التي أُعدَّت للهراطقة، ولا في محارق محاكم التفتيش الإسبانية، ولا في صكوك الحرمان التي كانت تتهاوى كالصواعق والرصاص على كل مَن يَحيد قيد شعرة عن قرارات المجامع.

 إن الرمل الناعم يعلّمني أن القوة الغاشمة ليست هي أصل الدين،وأن المصالح ليست حقيقة الحياة ، وأن القساوة ليست حقيقة الغفران، وإن صلابة الجماد غير كافية لمنع تفتّت الصخـور، كما إن الطغيان والاستبداد لا يحميان البشر من الاندثـار. فما تعلّمني الرمال خاصةً هو أنْ أقيم ألف حساب لعامل الزمن. هذا الزمن الذي لا يرحم البشر، ويكشف كل خفّي حسب قولك يا سيدي ” ليس خفي إلا سيظهر “( لو17:8) فيه تُبان الحقيقة والذي لا يستطيع جبابرة الأرض وكبار دنيانا، ورؤوساء زماننا، صدّه مهما فعلوا. إن الزمن يردّد لي على لسان الرمال أنْ لا شيء على الأرض يدوم أو يثبت بصورة نهائية، وأن الحقيقة ستبان يوما حسب قولك يا سيدي ، ولأجل الاستمرار في الحياة على البشر أن يتجدّدوا كما يتبدّل جلد بشرتهم الذي ينضرنّ ويتوالد باستمرار.

         إني أعلم أنه من الممكن أن ترتخي عزيمتنا شيئاً فشيئاً، وتتبدد إرادتنا درجةً درجة بفعل نفخة من الريح، وبدون سابق إنذار، وهذا ما يدعوه المرشدون الروحيون بالإهمال أو الطيش أو الروتين أو “الفتور”. لقد رأيتُ حولي ألوفاً مِمَّن سقطوا من ارتفاعات عالية ببطء وبدون شعور، كالجبال الشاهقة التي سقطت فيما مضى في بطون البحار، وإني أعتقد أنه للحفاظ على مستوانا وعدم الانخفاض إلى الأسفل، هو نوع من أعمال البطولة، لأن الذي لا يتقدم سوف يهبط حتى إلى الأسفل، ولأن عدم التقهقر هو نوع من التقدم، لأن عدم التقهقر معناه المقاومة بصلابة ضد قوة معادية،أو كبار مغرورين ، وعدم الارتخاء تحت ضغط الأعداء مهما كان فسادهم وعمق مصالحهم وشرورهم وكبريائهم . أنا لا أحب كلمة “رجعي” أو “محافظ” في السياسة لأنها كلمة مقيتة، ولكن عند المسيحيين “المحافظة على النعمة” تعني شيئاً كثيراً لأنها تتضمن شجاعةً وبطولة، إحتمالاً وداعةً ، إنتظاراً وفرجاً .

         هناك صفة أخرى أساسية للرمل مهمة جداً وهي، إذا كان الرمل ناتجاً عن تفتّت الصخور، فإنه سبق وأن كوّنها بواسطة الترسبات، خلال أجيال وأجيال تراكمت الترسبات في أعماق البحار، وتكدّست وتكثّفت بفعل الضغط الشديد الهائل وتحوّلت إلى حجارة نبني اليوم بها منازلنا وكنائسنا وقصورنا وصروحنا واستراحاتنا الصيفية ، . هنالك إذن طريقة لحصول كتل كبيرة صلدة من حبيبات صغيرة مجهرية لا تُرى بالعين المجرَّدة. إن عملية رصّ هذه الحبيبات الناعمة في مجموعة متينة هي سرّ قوة الوجود. كانوا يكررون علينا غالباً أن الاتحاد قوة، ولكن الاتحاد لا ينتج دائماً قوة، بل أحياناً ينتج الضعف. هل إن إضافة حفنة من المترهلين المصابين بداء المفاصل إلى مجموعة من الشباب المحاربين تزيد هؤلاء قوة؟ هل أن فيلقاً من الخيّالة تصبح أكثر شجاعة لأنكَ عضدْتَها بكوكبة من الحمير؟ هل وضع أناس مصابين بالكورونا فايروس مع كبار السن والمرضى المزمنين تحمي من الاصابة أليس ذلك تدمير شعوب وقتل أبرياء ، وفي كل جيوش العالم قاطبة، تخلية الجرحى والقتلى من ساحة المعركة أمر ضروري لتجنب عرقلة سير القتال… إن الاتحاد ضمن التجانس هو الذي يصنع القوة، بشرط أن كل عنصر يلعب دوره المخصَّص له، ويحترم أدوار الآخرين.

         كم أحبّ ذرّات الرمل المتكدّسة فوق بعضها بصمت ومحبة واحترام لحقوق بعضهـا دون كراهية ، بكل طاعة واتّضاع. إن كل رملـة وجدت مكانها واستقرّت فيه، من دون أن تحاول أن تميّز نفسها عن غيرها، ولا أن تبرز في المقدمة بمظهر المباهاة، ومن دون أن تختار جاراتها، ولا أن تتدافع لاختيار مواقعها، كل هذا سهّل عملية تكوين الصخرة الصلدة. وأنا هل اخترتُ عائلتي وطبيعة وطني وتاريخ ميلادي؟، ألم تكن أنتَ يا سيدي أساساً لوجودي حيث أنا الآن؟ شئتُ أم أبيتُ فإني جزء من مجموعة عليّ أن أرضى بالانتماء إليها،  وبوطن ولدتُ فيه، ولكن وا أسفاه، غالباً ما أتمرّد وأشكو من ظروفي التي وضعتَني فيها. ما كان ينفع مريم المجدلية (يو7:26) لو تمرّدت على دورها وحاولت أن تقوم بدور مار بولس؟، أليس الاكتفاء بالقيام بأدوارنا دون أستغلال المصالح والمحسوبيات هو طريق تقدمنا في البرّ والفضيلة؟ عندما تحاول العين اليمنى أن تلعب دور العين اليسرى، أو بالعكس، فإن النتيجة الوحيدة هو “الحَوَل”. إذن ، إن القوة الحقيقية غير ناتجة من مجرد التراكم، بل من الوفاق.وهذا ما حصل مع إبراهيم بطاعته إذ ” جعلتَ سلالته كرمل البحر” ( تك 17:22). نعم يا إلهي، اجعلني مثل حبة الرمل التي تستقر في مكانها راضيةً، وإن رفضها حاملها ،فاجعلني ياسيد،  متّحداً مع ذاتي، عاملا ” بكلمتك ومشيئتك”(متى 42:26) ، لأستمر في القيام بالدور الذي خصصتَه لي منذ خلقتَني.نعم ياسيدي ، نعم وآمين .