والخلائق تسبح بحمده ” القصبة “

والخلائق تسبح بحمده ” القصبة “

المونسنيور د. بيوس قاشا

نعم ، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى ، حكمة ومحبة ورسالة… وكلما كان الإنسان صالحاً وخالياً من الأنانية والكراهية ، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية ، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي ، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقاً واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى . فعبرَ مقالات من ” والخلائق تسبح بحمده” أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة .

مررتُ هذا المساء بمستنقع حيث مئات القصبات المنتصبة تتمايل، فتذكرت معمدك يوحنا فهو القصبة ، فتمتزج همسات حفيفها بنقيق الضفادع، بينما سطح الماء فوق المستنقع يتجعّد بمرور النسيم. وبدا لي كأنّ تلك القصبات تشعر بالسعادة وهي تحتلّ مواقعها. إن هذه النباتات المائية تقوم بدورها على أحسن ما يرام، ببراءة وصفاء طوية، وبدون تمرّد ضد قدرها المحتوم.هل صدفة توقفتُ على حافة هذا المستنقع لأتأمّل قصبات مترنّحة؟، أم لأنني أنا أيضاً قصبة ولكن “قصبة مفكرة” كما قال باسكال؟.إنني لا أبحث عن ذاتي في هذه القصبات، ولكنني أريد أن أضيع في داخلها، لأنني أعلم جيداً أنّ في أعماق هذا التأمل الصامت سوف أجد الحب الأزلي الذي كان مصدر وجودي ووجودها ووجود جميع الكائنات، ” وخلقني على صورته” ( تك 1) و”حسنة ” وبغتةً، ودون أي جهدٍ، اكتشفتُ نفسي في موقعها الحقيقي بين هذه القصبات، لا بل في هذا الكون برمّته؟.
فغالباً، يا إلهي، مخلوقاتكَ الحقيرة هي التي تقودنا إلى الحقائق الأزلية من دون الاستعانة بالكتب أو استخدام الكلمات. إنّ ما نحتاجه يا إلهي، هو بكل بساطة، أن نحبَّ خليقتكَ. ونحن نصنع العكس، نريد أن نستعملها لأغراضنا المحددة ، وأن تكون عبيدة لاهوائنا وأنانياتنا وكبريائنا. فمنذ أجيال ونحن نقطع القصب لنحرقه ونتدفّأ به إبان الشتاء، أو لنصنع منه أقلاماً للكتابة، أو سهاماً من أجل أن نتحارب. ولكن المحبة تأخذ اتجاهاً مغايراً: فهي تتأمل الأشيـاء ثم تتوقف عندها، لتقيم جسراً يربط ما بين جميع المخلوقات، معتبرةً كلاًّ منها هو خيرٌ بحدّ ذاته.
علّمني يا إلهي أن أحترم جميع المخلوقات مهما صغر شأنها، وأن أحبكَ من خلالها، وأن أحوّل كل غريزة للفتك بها وتدميرها إلى عاطفة حب لها، وأن أكون راضياً عنها لأنها من صنع يديكَ، فقد رأيتَ كل شي حسن ” (تك1 ) وبعد كل هذا. نعم أنهم وضعوا قصبةً في يدكَ بدلاً من صولجان (متى29:27)، في تلك ليلة النزاع، ليلة الحب الالهي ،أتذكّر أيضاً الأشواك المغروسة في رأسكَ (متى29:27) بأمر من الانسان المخلوق ، تحت ضربات قصبةٍ طيّعة، إنها أعمال الخليقة بانانيتها المعهودة ، وحقدها المصلحي، وكبريائها الوجودي.
يا رب!، هل بإمكان قصبات ضعيفة أن تمجّــــدكَ بمثل تلك الموسيقى الغريبة التي كانت تعزفها سيقانهــا المحتكّة بغير عنف مع بعضها!؟.آه يا سيدي!يا ربي ، لقد شاركتْ هذه القصبة كما شارك الشوك واكليله ، أيضاً بعملية الفداء!عملية الحب السماوي ! وفظيعٌ ألاّ تكون للقصبة مكانةٌ خاصة في قلوب المسيحيين!وبدلا عنها غيّر البشر القصبة بصولجان من ذهب بسبب كبريائهم ، فكانت كعِجل أسرائيل يعبده الشعب المخلوق . فسامحني يارب وأجعلني قصبة تنشد لك لحن الحب الازلي ، ياإلهي ، نعم وآمين.