يسوع الناصري ووسائل الاتصال الحديثة

يسوع الناصري ووسائل الاتصال الحديثة

أنجلة يسوع

بقلم روبير شعيب

الفاتيكان، الاثنين 7 نوفمبر 2011 (Zenit.org).

هناك مهمة طارئة تترتب على عاتق المسيحيين رغم أنها قد تبدو غريبة للوهلة الأولى وهي: “أنجلة يسوع”، أي “تقديم وجوده الملموس ورسالته كما نقلها الرسل والجماعات المسيحية الأولى”[1]. فغالبًا ما يمر “يسوعنا” في غربال الأفكار الخاطئة التي تطبع بالعمق نظرتنا نحو الناصري.

في هذه الحالة، يستطيع البحث التاريخي-اللاهوتي الذي يعرف باسم “البحث عن حياة يسوع” (Leben-Jesu-Forschung) – أي البحث عن الدلائل التاريخية التي تعطي فكرة أكثر وضوحًا عن هوية يسوع، مواقفه، تصرفاته… – يستطيع أن يشكل واقعًا أعمق من النظر بِشك إلى مكنونات الأسفار المقدسة. فبحث من هذا النوع يمكن فهمه وعيشه كضرورة حب وإيمان. بفضل الوقفة الصادقة أمام المعطيات التاريخية، من الممكن التقرب أكثر من يسوع في الأناجيل وتطهير صورته المطبوعة في فكرنا ومخيلتنا مما لا يعود البتة إليه.

إن مقاربة من هذا النوع ليسوع التاريخي، ليست مجرد عمل أكاديمي جاف وممل. فهي تستطيع أن تضحي ذات غنى رعوي وروحي كبير. فكثير من الأشخاص يرفضون قبول يسوع في حياتهم لأنه يشكل بالنسبة لهم شخصًا خرافيًا، بعيدًا عن الحقيقة، لا يستطيعون أن يدركوا جاذبيته وعبقريته. لقد أدرك هذا الأمر منذ أكثر من قرن الطوباوي جون هنري نيومان عندما كتب في “مذكراته الفلسفية”: “قد يبدو تصوير ربنا في الأناجيل بالنسبة للبعض غير واقعي وغير حقيقي، بعيد عن قدرتهم على تكوين صورة عنه، لأنه يختلف عن كل ما يلتقون به في حياتهم”[2]. هذه الصورة المشوهة تستطيع أن تضحي دافعًا للانغلاق على الإيمان، لأن القلب يجد نفسه معوقًا في انفتاحه على الرب وعلى اللقاء به.

لهذا السبب دعا البابا بندكتس السادس عشر المكرسين في رسالته بمناسبة اليوم العالمي للاتصالات الاجتماعية في عام 2010 إلى “تمهيد السبيل للقاءات متجددة” مع المسيح، ودعا بشكل خاص العاملين في حقل الاتصالات الاجتماعية إلى ضمان “نوعية التواصل الإنساني والانتباه إلى الأشخاص وإلى حاجاتهم الروحية؛ وإلى تقديم العلامات الضرورية للتعرف على الرب إلى الأشخاص الذين يعيشون في هذا العصر التكنولوجي”.

إذا ما نظرنا مليًا إلى ما يقوله الأب الأقدس، نجد دعوتين هامتين: الأولى هي دعوة لتهيئة درب اللقاء بالرب، إلى القيام بدور “يوحنا المعمدان” الذي يهيئ سبل الرب؛ الثانية هي دعوة متجددة إلى الكنيسة بشكل عام، وإلى المكرسين بشكل خاص، لكي يكونوا مبشرين “بحق وجود الله” في عصر الانترنت والتطور التكنولوجي.

إن موضوع الرسالة التي استشهدنا بها كان: “الكاهن ورعويات العالم الرقمي: وسائل الاتصال الحديثة في خدمة الكلمة”. وقد اندرجت تلك الرسالة التي وجهها الأب الأقدس بشكل خاص إلى الكهنة في إطار السنة الكهنوتية لكي يغنيها ببعد لم يعد خياريًا بل ضرورة. فحضور “رجال الله” في عالم وسائل الاتصال الحديثة بات ضروريًا، بحسب الأب الأقدس، لتهيئة الدرب للرب، “لكي يستطيع أن يسير في دروب المدن ويتوقف على أبواب البيوت والقلوب ويقول من جديد: ’هاءنذا واقف على البابا أقرع، إذا سمع أحد صوتي وفتح البابا، أدخل عنده، آكل معه وهو معي‘ (رؤ 3/ 20)”.

نص البابا هذا دفعنا إلى التساؤل: لو تجسد يسوع المسيح في عصرنا، هل كان ليستعمل وسائل الاتصال الحديثة لنشر ملكوت الله؟ – قد يبدو السؤال “ولاديًا”، ولكن إذا قمنا بطرحه من منطلق رعوي ولاهوتي معمق، فسيكون الجواب نافعًا لتوجيه عمل الرعاة الرسولي، وعمل اللاهوتيين التحليلي، إذ سيمكننا من التعمق في فهم “عبقرية يسوع التواصلية”. كما وسيمكننا الجواب من التعمق في فهم بعد مظاهر التواصل الذكية التي عاشتها الكنيسة على مدى التاريخ. وسيعطينا أفكارًا ووسائل غنية لتبشير متجدد بالإنجيل.

“انتبهوا كيف تقرأون”

“انتبهوا كيف تقرأون”، إذا كانت الأناجيل تنقل لنا على لسان يسوع هذه الكلمات التي ينبه فيها على طريقة قراءة وفهم الكتاب المقدس وتفسيره، فهذا يعني أن هناك طرق مغلوطة في قراءة كلمة الله. لعل إحدى القراءات الشائعة لنصوص الأناجيل هي القراءة المليئة بالصور والأفكار المسبقة، التي تجعلنا نرى في النص الكتابي ما ليس موجودًا فيه بالواقع، أو التي تحجب عن عيوننا وأفهامنا ما يتضمنه النص الكتابي بحد ذاته. غالبًا ما ننظر إلى الأناجيل كدليل أخلاقي يعلمنا ما يجب فعله أو ما لا يجب فعله.

كثيرون منا يقرأون الأناجيل وأول ما يريدون أن يصلوا إليه هو العبرة من النص. هذه القراءة ليست مغلوطة بحد ذاتها، ولكن النظر إلى الكتاب المقدس وإلى الأناجيل من هذا المنظور يشكل فشلاً في إدراك عمق الرسالة الإنجيلية. القراءة الأخلاقية البحت تحرمنا من الدهشة التي هي نقطة انطلاق لا بد منها لاكتشاف فرادة وجاذبية يسوع الناصري. هذه القراءة المليئة بالدهشة والانذهال كانت قراءة كبار آباء الكنيسة والقديسين مثل القديس برندروس، القديس بونافنتورا، والقديس أغناطيوس دي لويولا الذي أسس منهجية صلاته و “رياضاته الروحية” على قدرة تصر يسوع وإعادة بناء الإطار الذي تجري فيه وقائع الأحداث الإنجيلية، للدخول ليس فقط في فهم ما يقوله يسوع، بل للشعور بالإطار السردي والعاطفي الذي يرافق مقولاته وأفعاله.

لا بد لمن يقارب الأناجيل أن يتعلم أن يعيد النظر إليها بـ “عيون بسيطة”، فيرى أبعد من الأفكار والأحكام المسبقة جدة الإنجيل، ويسمح لعنصر المفاجئة أن يلمسه من جديد. فكم من المرات نقرأ الأناجيل بممل ولسان حالنا يقول: “أعرف كيف ينتهي هذا النص”. سنتعمق في أقسام المقالة المقبلة بالنوايا العميقة التي دفعت إلى كتابة الأناجيل (وذلك لكي نسعى قدر الإمكان أن نفهمها بحسب نوايا كتّابها)، وسننظر من ثم في بعض بوادر يسوع التي تبين عبقرية التواصل في كلامه وحياته.

[1] Conferenza Episcopale Italiana (CEI), Il rinnovamento della Catechesi, Roma (2 febbraio 1970), n. 59.

[2] J.H. Newman «Philosophical Notebook», in Id. Opere filosofiche, Bompiani, Milano 2005, 815.

يسوع الناصري ووسائل الاتصال الحديثة (3)

في المجلد الأول من مؤلفه العظيم، “يهودي هامشي” (A Marginal Jew)، يستعرض الباحث جون مايير المراجع القديمة التي تذكر يسوع أو تتحدث عنه، فيعتبر كتابات يوسفوس فلافيوس، وخصوصًا نصه المعروف تاريخيًا باسم “شهادة فلافيوس” والذي يرد في كتاب “الأخبار اليهودية القديمة”، كما ويستعرض “حوليات” تاكيتوس، و “سيرة حياة الإمبراطور كلاوديوس” للمؤرخ سفيتونيوس، ورسالة بلينيوس الحاكم للإمبراطور ترايانوس، والمؤلف الساخر “موت بيريغرينوس” للوشيانوس من ساماوستا، والأناجيل المنحولة[1].

وما يلاحظه الباحث هو أن كل هذه النصوص تقدم إما شهادات مختصرة جدًا، أو هامشية، أو عمومية، أو بعيدة تاريخيًا عن يسوع، وبالتالي لا تستطيع أن تشكل مرجعًا كافيًا وموثوقًا للتعرف على يسوع. إنما هذا هو واقع ملموس، لا بد لأي مؤرخ أن يقبله.

المرجع الأكبر حول يسوع التاريخ هو الكتاب المقدس، الأناجيل الأربعة ورسائل القديس بولس. وهذا الأمر يشكل مشكلة كبيرة[2]. فالأناجيل ليست سيرة حياة كاملة ليسوع، وليست مختصرات تاريخية عن حياته. ما هي إذًا قيمة الأناجيل الأربعة[3]؟

من الأهمية بمكان أن نعي أن الأناجيل قد مرت في مرحلة صياغة طويلة. ففي أيامنا تتم كتابة الكتب، أما في الماضي، فكانت الكتب تنمي مع الوقت. لهذا لا يمكننا أن نعتبر الأناجيل كسير ليسوع كتبت على طاولة أو في مكتبة. ترتبط الأناجيل بتقليد الجماعة الشفوي. هذا التقليد عينه تم تسطيره في ما بعد للحفاظ على ذاكرة الجماعة في المستقبل، لكي يكون للأجيال اللاحقة لقاء مع دقة خبرة المسيح.

إن الوثيقة المجمعية حول الوحي الإلهي للمجمع الفاتيكاني الثاني “كلمة الله” (Dei Verbum)، تقدم لنا مختصرًا وافيًا لمراحل نشأة الأناجيل: “أما المؤلِّفون القدِّيسون فقد كتبوا الأناجيل الأربعة وإختاروا بعضَ ما كان يُنقل بغزارةٍ، شفوياً أو كتابةً، وأَوجزوا البعض الآخر أو فسَّروه مع مراعاة ظروف الكنائس، وإحتفظوا أخيراً بأسلوبِ الكرازة بحيث أنَّهم أعطونا دوما عن يسوع ما هو حقٌّ وصادق” (عدد 19).

هذا النص المختصر والمكثف يعطي أهمية خاصة للإطار الحياتي (Sitz im Leben) الذي نشأت فيه الأناجيل، فيقدم خمسة مفاتيح لفهم النوايا التي حركت الإنجيليين على الكتابة: الاختيار، الإيجاز، مراعاة ظروف الكنائس، الهيكلية، النية. فالإنجيليون يقومون بعمل اختيار، ويقدمون ملخصًا للأحداث الكثيرة التي عاشها يسوع في حياته. ويأتي اختيارهم انطلاقًا من مراعاتهم لحالات وحاجات الكنائس التي يوجهون البشرى إليها، في شكل يطابق هيكلية الوعظ، وبنية محددة، هي تقديم وقائع حقيقية وصادقة حول يسوع.

عمل الإنجيليين إذًا هو عمل بحث، إيجاز وتفسير، كما يلاحظ الأسقف فرنشيكسو لامبيازي، ولكنه في الوقت عينه عمل صدق وأمانه. يقول الأسقف اللاهوتي بشأن حرية الإنجيل في الكتابة أنها كانت دومًا “مرتبطة بأمانة للتقليد، ولم تخن يومًا هذه الأمانة”.

بكلمات أخرى، تمكن الإنجيليون أن يؤقلموا النصوص ويفسروها، ولكن لم يقوموا باختراع الوقائع أو تشويهها”، والدليل على ذلك هو أن الشخصية التي يرسمها الإنجيليون ليسوع هي رغم تنوعها لا تتناقض بين بعضها[4].

وعليه فإن ألفة الأناجيل تسمح لنا أن نعيش تواصلاً مباشرًا مع أصداء التبشير الأول، الذي يعبر بدوره عن اللقاء المباشر بتلاميذ يسوع الأولين. إن كلمات الأناجيل في بساطتها تكشف لنا وجهًا فريدًا من وجوه يسوع، وهدفنا في المرات المقبلة هو التوقف بعمق أكثر على بعض الآيات التي تحرمنا العادة من اكتشاف عمقها ومعناها الكامن.

(يتبع)

[1] Cf. J.P. Meier, A Marginal Jew. Rethinking the Historical Jesus, Vol. I, The Roots of the Problem and the Person, New York 1991, 56-166.

[2] Cf. J.P. Meier, A Marginal Jew, op. cit., 41.

[3] بما أنه لا يمكننا أن نتعمق في هذا الموضع بهذه المسألة، نشير إلى بعض الكتب التي تتحدث عن هذا الموضوع بتفصيل ووضوح:S. Pié-ninot, La teologia fondamentale. Rendere ragione della speranza (1 Pt 3,15), Queriniana, Brescia 2002, 321ss.; R.E. Brown, Introduzione al Nuovo Testamento, Queriniana, Brescia 2001, 171-176; P. Sequeri, Il Dio affidabile. Saggio di teologia fondamentale, Queriniana, Brescia 20003, 159ss; C.M. Martini, C’è ancora qualcosa in cui credere, Piemme, Milano 1993, 11-34.

[4] F. Lambiasi, «Credo in Gesù Cristo» in F. Lambiasi – G. Tangorra, Gesù Cristo comunicatore, Paoline, Milano 1997, 17.

يسوع الناصري ووسائل الاتصال الحديثة (4)

إذا ما تخلينا للحظة عن “النظارات الأخلاقية” التي نحصر فيها قراءة الأناجيل، ونظرنا إلى هذه الكتب الأربعة الصغيرة بعين الدهشة، لوجدنا الكثير عن يسوع عبقري التواصل.

نكتشف، مثلاً، أن هذه الأناجيل، – خلافًا للأناجيل المنحولة مثل إنجيل مريم وإنجيل توما – ليست مجرد مجموعة من أقوال يسوع. الأناجيل القانونية هي تصوير حي يضم سوية تصرفات وأقوال يسوع. إذا ما نظرنا بانتباه، وجدنا أن الأناجيل تفيض بالكلام عما يفعله يسوع، عن حركاته، إيماءاته، وسمات وجهه. يسوع ليس مجرد “ناطق رسمي” يتلفظ بالكلمات من منبر جامد، يسوع يتحرك، يلمس، ينظر، يحدق. حتى عندما يتكلم، يسوع يرفق كلماته، فنرى أنه لا يحاكي الآذان وحسب، بل يحفر في القلب والذاكرة.

إن الوثيقة المجمعية التي سبق واستشهدنا به “كلمة الله”، تلفت انتباهنا إلى أن مشروع الخلاص الإلهي قد تم في “أفعال وكلمات مترابطة في ما بينها”[1]. هذا البعد المميَّز والمميِّز للوحي الإلهي يظهر بشكل واضح في وجود يسوع المسيح.

لم يكن يسوع مدير قناة تلفزيونية، ولكنه كان يعرف حتى قبل أكثر من 1900 سنة من اختراع التلفاز أهمية التواصل المرئي، أهمية الموضع الذي يتم فيه التواصل. نرى في الأناجيل العناية الخاصة التي يكرسها يسوع لاختيار الأماكن التي كان يتحدث منها إلى الجموع. وهكذا، يخبرنا إنجيل متى أن يسوع، قبل أن يتلو ما يعرف باسم “عظة الجبل”، يصعد إلى الجبل لكي “يبثّ” البشرى السارة (راجع مت 5، 1).

ولوقا، بدوره، يعلمنا أن يسوع كان يصعد على قارب بطرس وكان يدعوه إلى إبعاده قليلًا عن الشاطئ لكي يخلق بيئة فعالة للحديث إلى الجموع (راجع لو 5، 3).

في إطار آخر، نجد أن يسوع – عندما كان يبغي أن يلقي خطابًا حميميًا – كان يدعو تلاميذه ويأخذهم إلى مكان منفرد وكان يقضي الوقت معهم (راجع يو 11، 54). وعندما أراد أن يقوم بـ “الحوار” الأكثر حميمية، ذلك الحوار الذي وهب تلاميذه خبز جسده وخمر دمه، اختار يسوع موضعًا حميميًا جدًا، العلية، لكي يرافق ما سيفعله ببيئة مناسبة.

إلى جانب اختيار الأماكن، نجد أن يسوع كان يستعمل ببساطة وعفوية إمكانيات التواصل التي توفرها مختلف حواس الشخص البشري، وليس فقط الصوت ومختلف نبراته، بل أيضًا اليدين، الوجه، العيون…

إن الاكتشافات التي تمت مؤخرًا حول أهمية “لغة الجسد” (body language) بينت أن أكثر من 90 % من التواصل بين الأشخاص يتم من خلال الجسد، وفقط أقل من 10 % من خلال الكلمات. هذا الردح الواسع من الأهمية للغة غير المحكية يحثنا على إعادة اعتبار التواصل من خلال تعابير الجسد والوجه.

وهذا ما سنتوقف عليه في القسم التالي من المقالة.

(يتبع)