150 عام والحلم يستمر مع دون بوسكو

150 عام والحلم يستمر مع دون بوسكو

18/12/1859 – 18/12/2009

لكل شيء في الحياة بداية، ولكل بداية هدف، ولتحقيق هذا الهدف نحتاج لنعمة الله و الإرادة الصالحة. هكذا نجتهد لتتميم مشيئته من خلال حياتنا اليومية التي تزخر بعلامات حضوره ومحبته.

هكذا بدأت قصة الحب بين الله الخالق والإنسان. فكّر فينا منذ الأزل وأحبنا، لذلك خلقنا على صورته ومثاله. اختارنا لنكون في نظره قدّيسين بلا عيب في المحبة، زيّننا بنعمته الوافرة التي أفاضها علينا بالحبيب. أرسل لنا ابنه الوحيد، كلمته الأزلية، ليقول لنا أحبكم وأريد خلاص نفوسكم ولا أريد أن يهلك أحداً منكم. اسمعوا كلمة ابني الذي صار إنسانا مثلكم، واعملوا بوصاياه التي هي من أجل مجدكم. لأني أتمجّد عندما أرى الإنسان الحي الذي يعيش بفرح، والحياة تفيض فيه مثل ينبوع حي يتدفّق حبّاً لي ولأخيه الإنسان.

الرب يسوع عندما أراد أن يبشر بالملكوت، لم يتوانى أبداً بإعطاء الثقة للإنسان، ذلك الإنسان الذي رغم ضعفه ومحدوديته، يصير مشاركاً لله في نشر ملكوته بين البشر.هكذا ظهرت ثقة يسوع بالإنسان عندما صار إنسانا، وخاصةً عندما أراد إشراك الإنسان في رسالته الخلاصية.

هناك كانت البداية، حين اختار الرب رسله ألاثني عشر. بدايةٌ أساسها البقاء أوّلاً مع يسوع، عيش خبرة شخصية معه، معرفته، تعلّم فن المحبة منه، مشاركته أفراحه وأتعابه، صلاته ومعاناته. لم يختر الأقوياء، الوجهاء، العلماء، معلّمي الشريعة والعبادة، بل اختار بسطاء الشعب، الضعفاء، الخطاة. اختارهم ليكونوا شهودا له وينشروا كلمته ويبشروا بإنجيل الحياة.

قصة الحب هذه لم تتوقف على مر العصور، ولم ينفكّ الرب يسوع في دعوة أشخاص كثيرين لإتباعه ولنشر رسالته. هكذا حتى وصلت قصة الحب هذه إلى يوحنا بوسكو الصغير، حيث كان في سن التاسعة حين حلم حلماً بقي راسخاً في قلبه طوال أيام حياته. ذلك الحلم كان دعوة من الرب يسوع لإتباعه ولتحقيق رسالة خاصة: إيصال قصة الحبّ هذه إلى الشبيبة المحتاجة وخاصةً الفقيرة والمهمّشة. بدأ الاستعداد لهذه الرسالة بالدراسة واكتساب العلم، غير أن فقر عائلته أجبره على العمل ليتابع دروسه، فاحترف أيضاً مِهناً عديدة استخدمها فيما بعد في سبيل خدمة الشباب.
سيم كاهناً في 5/6/ 1841 و في 8/12 في عيد الحبل بلا دنس، استقبل أول صبي مشرد(بارتولوميو غاريللي) حيث تلى معه مرة السلام الملائكي، وبعدها بدأ عدد الصبيان يزداد حتى بلغ الأربعمائة. دون بوسكو عانى كثيراً وتحمّل صعوبات جمّة على مثال الرسل لتحقيق الرسالة الموكولة إليه.
بعد بضع سنوات أسس جمعية رهبانية مكرّسة تكريساً كاملاً للعمل في سبيل الشباب وسمّاها الجمعية السالسية نسبة إلى شفيعها القديس فرنسيس دي سالس، أسقف جنيف المشهور بالحنان والوداعة.

ولكن أين هو سر نجاح هذا العمل الرسولي وتأسيس هذه الرهبنة؟

قبل كل شيء وأساس كل شيء كان اتّكال دون بوسكو على نعمة الرب والثقة التامّة بحضوره الفعّال في كل خطوة كان يخطوها، والإصغاء لإلهامات الروح القدس بشكل مستمر، والحضور المميّز لمريم ام المعونة التي كما قال دون بوسكو وهو على فراش الموت: ” هي فعلت كل شيء”. وفعلاً لا نستطيع أن نتصوّر سالزياني لا يكرّم مريم امنا ولا يطلب شفاعتها لخلاص نفسه ونفوس الشبيبة الموكلة إليه.

يسوع أحبّ الإنسان وأعطاه ثقته واختاره رسولاً. دون بوسكو تعلّم من معلّمه الإلهي كيف يحبّ الشبيبة ويمنحهم ثقته. هذه الشبيبة التي بذل يسوع نفسه من أجلها. لذلك دون بوسكو عندما فكّر وبايحاء من الروح القدس، بكيفية استمرار هذا العمل الرسولي مع الشبيبة، لم يفكّر بدعوة كهنة من الابرشية أو رهبان من رهبنات اخرى أو طلب مساعدة بعض المصلحين الاجتماعيين. بل كانوا شبّانه أوّل من فكّر فيهم، وخاصة اللذين كانو أكثر انخراطاً معه في الخدمة والصلاة. هؤلاء اللذين عاشوا معه الافراح والآلام واختبروا معاناة دون بوسكو وتضحياته الكثيرة من أجلهم ومن أجل سعادتهم في هذه الدنيا وفي الأبدية.

نعم ولمَ لا؟ فالشبيبة جديرة بالثقة، وهي على استعداد لعمل الخير، ولها القدرة والإمكانية لمتابعة المسيرة بكل حماس. ولا نستطيع أن ننسى أنَّ هؤلاء الشبان كانوا أوّل مَن شعرَ بمحبة الله لهم من خلال شخص دون بوسكو. ذاك الكاهن الذي قبلهم في بيته، شاركهم بكل ما كان لديه، ولم يكتفي بمحبّتهم فقط بل كان يظهر لهم هذه المحبة من خلال اهتمامه الكبير بهم كآب حنون، يخاف عليهم من الخطيئة، ويؤمّن لهم كل الظروف الملائمة للعيش بحالة النعمة. ولا ننسى سلاحه الفعّال الذي سمّاه الاسلوب الوقائي، يعتمد فيه على الدين والعقل والمودّة، وقد أثبت هذا الاسلوب نجاحا ملحوظاً في حقل التربية و التبشير.هذا الكاهن لم يكن يحلم بالخيال بل كان إنسانا واقعياً وعملياً، لذلك كان يتابع أولاده في أماكن عملهم، يدافع عن حقوقهم، يهتم بتعليمهم، يفتح لهم أماكن صغيرة لكي يتعلّموا مهنة ما تفيدهم في المستقبل. المهم ألّا يقفوا مكتوفي الأيدي أمام ظروف الحياة الصعبة، بل أن يتسلّحوا بالإيمان وأن يلبسوا درع الرجاء. كان كل همّه وهدفه أن يرى شبّانه الفقراء سعداء.

الآن أتى دورهم لينقلوا هذه الرسالة، رسالة الحب إلى إخوتهم المحتاجين. هكذا دون بوسكو قرّر أن يجمع هؤلاء الشبان ويخبرهم بما كان يجول في خاطره. مساء يوم الخميس 8/12/1859 وبعد الانتهاء من الاحتفالات بعيد الحبل بلا دنس، دون بوسكو يدعو شبّانه إلى الاجتماع المهم الذي سيعقده في اليوم التالي. كان عدد اللذين لبّوا الدعوة 20 شاب، اجتمعوا مع دون بوسكو الذي أخبرهم بالمبادرة لتأسيس جمعية رهبانية تهتم بالشبيبة الفقيرة والمهمّشة وقال لهم: أحبّائي المصلّى في نمو مستمر والأولاد في ازدياد كبير. كثيراً منكم ترعرعوا هنا في هذا البيت (مصلّى فالدوكّو)، وبدؤوا منذ فترة طويلة بالقيام بأعمال محبة تجاه القريب. والآن حان الوقت لنخطو خطوة جديدة إلى الأمام، لذلك بعد صلاة طويلة واستشارة الكثير وعلى رأسهم البابا الذي شجّعني، أفكّر في تأسيس جمعية رهبانية تؤمّن الاستمرارية لهذا العمل الذي بدأنا فيه بنعمة الرب. أحبّائي، اعلموا أنّ مَن يكرّس نفسه للرب يسعى لخلاص نفسه ونفوس إخوته، لذلك أطلب مساعدتكم ومشاركتكم واتّكل عليكم في هذه الجمعية. أعطيكم أسبوع للصلاة والتفكير. وفعلاً يوم الأحد 18/ 12/ 1859 في غرفة (مكتب) دون بوسكو المتواضعة كان اللقاء، كان عدد الشبّان 18 أغلبهم في سن الشباب. هؤلاء لبّوا الدعوة وفي ذلك اليوم أبصرت الرهبنة السالزيانية النور، بالاتّكال على الرب والثقة الكبيرة بالشبيبة اللذين هم عماد الرهبنة وبالتالي عماد الكنيسة. من بين هؤلاء الشبّان نذكر، الشاب ميشيل روا 22 عاماً الذي سيصير في المستقبل أوّل خليفة لدون بوسكو، يوحنا كالييرو 21 عاماً الذي سيصير أوّل اسقف وكردينال سالزياني. وهكذا ابتدأ المشوار وأخذت قصة الحبّ هذه تنمو وتنتشر حتى بلغت 133 دولة منتشرة في قارّات العالم الخمس.

مبروك للعائلة السالزيانية رهباناً وراهبات، سالزيان معاونين ومربين، منشطين وشبيبة، مبروك هذا الاحتفال الذي يذكّرنا بعمل الله في حياة مؤسسنا وفي حياة الرهبنة. مبروك للكنيسة جمعاء، لأن كل رهبنة وكل قديس هو برهان حيّ على حضور الرب وهو غنى وفخر لكل مسيحي. الرب يسوع حاضر في ما بيننا، وكما أنّه كان في ذلك اليوم مع دون بوسكو والشبيبة فهاهو اليوم يكمل حضوره من خلال شهادة السالزيان في كل أنحاء العالم. ذلك الحلم صار حقيقة وتلك البذرة التي صارت شجرة كبيرة يحتمي في ظلّها ملايين من الشبّان في العالم، ذلك كلّه بنعمة الرب وبعمل الروح القدس.

ندعوكم للمشاركة والصلاة معنا يوم الجمعة 18/12/2009 حيث يحتفل الرئيس العام للرهبنة السالزيانية، الأب باسكوال تشافيز بالذبيحة الإلهية في فالدوكّو- تورينو. وخلال تلك الذبيحة سيجدّد كل الرهبان السالزيان نذورهم الرهبانية ووعد حبّهم وتكريسهم لله الآب على مثال الرب يسوع ويجدّدوا الأمانة للأب المؤسّس ولروحانيته.

الشماس سيمون زكريان – روما