4- إمتحان العقل
تأمل في قراءات الأربعاء 30 ابريل 2014 الموافق 5 بشنس 1730
الأب/بولس جرس
نص الإنجيل
بولس في أثينا
“وبَينَما بولُسُ يَنتَظِرُهُما في أثينا احتَدَّتْ روحُهُ فيهِ، إذ رأَى المدينةَ مَملؤَةً أصنامًا. فكانَ يُكلِّمُ في المَجمَعِ اليَهودَ المُتَعَبِّدينَ، والذينَ يُصادِفونَهُ في السّوقِ كُلَّ يومٍ. فقابَلهُ قَوْمٌ مِنَ الفَلاسِفَةِ الأبيكوريِّينَ والرِّواقيِّينَ، وقالَ بَعضٌ:”تُرَى ماذا يُريدُ هذا المِهذارُ أنْ يقولَ؟”. وبَعضٌ:”إنَّهُ يَظهَرُ مُناديًا بآلِهَةٍ غَريبَةٍ”. لأنَّهُ كانَ يُبَشِّرُهُمْ بيَسوعَ والقيامَةِ. فأخَذوهُ وذَهَبوا بهِ إلَى أريوسَ باغوسَ، قائلينَ:”هل يُمكِنُنا أنْ نَعرِفَ ما هو هذا التَّعليمُ الجديدُ الذي تتكلَّمُ بهِ. لأنَّكَ تأتي إلَى مَسامِعِنا بأُمورٍ غَريبَةٍ، فنُريدُ أنْ نَعلَمَ ما عَسَى أنْ تكونَ هذِهِ”. أمّا الأثينِويّونَ أجمَعونَ والغُرَباءُ المُستَوْطِنونَ، فلا يتفَرَّغونَ لشَيءٍ آخَرَ، إلا لأنْ يتكلَّموا أو يَسمَعوا شَيئًا حَديثًا.
فوَقَفَ بولُسُ في وسطِ أريوسَ باغوسَ وقالَ:”أيُّها الرِّجالُ الأثينِويّونَ! أراكُمْ مِنْ كُلِّ وجهٍ كأنَّكُمْ مُتَدَيِّنونَ كثيرًا، لأنَّني بَينَما كُنتُ أجتازُ وأنظُرُ إلَى مَعبوداتِكُمْ، وجَدتُ أيضًا مَذبَحًا مَكتوبًا علَيهِ:”لإلَهٍ مَجهولٍ”. فالذي تتَّقونَهُ وأنتُمْ تجهَلونَهُ، هذا أنا أُنادي لكُمْ بهِ. الإلَهُ الذي خَلَقَ العالَمَ وكُلَّ ما فيهِ، هذا، إذ هو رَبُّ السماءِ والأرضِ، لا يَسكُنُ في هَياكِلَ مَصنوعَةٍ بالأيادي، ولا يُخدَمُ بأيادي الناسِ كأنَّهُ مُحتاجٌ إلَى شَيءٍ، إذ هو يُعطي الجميعَ حياةً ونَفسًا وكُلَّ شَيءٍ. وصَنَعَ مِنْ دَمٍ واحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ الناسِ يَسكُنونَ علَى كُلِّ وجهِ الأرضِ، وحَتَمَ بالأوقاتِ المُعَيَّنَةِ وبحُدودِ مَسكَنِهِمْ، لكَيْ يَطلُبوا اللهَ لَعَلَّهُمْ يتلَمَّسونَهُ فيَجِدوهُ، مع أنَّهُ عن كُلِّ واحِدٍ مِنّا ليس بَعيدًا. لأنَّنا بهِ نَحيا ونَتَحَرَّكُ ونوجَدُ، كما قالَ بَعضُ شُعَرائكُمْ أيضًا: لأنَّنا أيضًا ذُرِّيَّتُهُ. فإذ نَحنُ ذُرِّيَّةُ اللهِ، لا يَنبَغي أنْ نَظُنَّ أنَّ اللاَّهوت شَبيهٌ بذَهَبٍ أو فِضَّةٍ أو حَجَرِ نَقشِ صِناعَةِ واختِراعِ إنسانٍ. فاللهُ الآنَ يأمُرُ جميعَ الناسِ في كُلِّ مَكانٍ أنْ يتوبوا، مُتَغاضيًا عن أزمِنَةِ الجَهلِ. لأنَّهُ أقامَ يومًا هو فيهِ مُزمِعٌ أنْ يَدينَ المَسكونَةَ بالعَدلِ، برَجُلٍ قد عَيَّنَهُ، مُقَدِّمًا للجميعِ إيمانًا إذ أقامَهُ مِنَ الأمواتِ”.ولَمّا سمِعوا بالقيامَةِ مِنَ الأمواتِ كانَ البَعضُ يَستَهزِئونَ، والبَعضُ يقولونَ:”سنَسمَعُ مِنكَ غدا عن هذا أيضًا!”. وهكذا خرجَ بولُسُ مِنْ وسطِهِمْ. ( أعمال 17 :16-34).
نص التأمل
عاش البشر منذ وجودهم على الأرض في حالة بحث وتفتيش
كان لدى الإنسان على مر العصور وفي مختلف البلاد والحضارات
نوع من الإحساس المبهم أو الشك بأن هناك ثمة قوة أعظم منه
مما دفعه إلى البحث والتعمق والتأمل في خلق السماوات والأرض
فآمن دوما بوجود ما هو أكبر- اسمى –أعلى- ابقى من وجوده وكيانه…
لا غرو إذن ان عرفت جميع الحضارات أنواع مختلفة من الآلهة
من الأصنام والأوثان إلى المعبودات السماوية والأجرام وحتى الأشخاص والملوك…
لكن الدافع الجوهري والإحتياج الأساسي كان دوما
” الحاجة إلى إله والإيمان به موجودا حاضرا وفاعلا في حياة البشر”
وخير تعبير عن هذا البحث والشوق والتوق هي جملة القديس أغوسطينوس الخالدة
” خلقتنا يا الله وقلوبنا مضطربة في داخلنا إلى أن تستريح فيك”.
ومع تعدد الآلهة بتعدد الحضارات وتطورها، تطورت فكرة اللاهوت ذاته وارتقت
وذادت مع الوقت والتحضر ترفعا وتجردا عن المادة والصنم
لكن برغم كل ما يوحد بين الأديان ومختلف المعتقدات من تشابه
يظل موضوع الإيمان المسيحي مختلفاً عن إي إيمان آخر
لأنه يتجسد في الإيمان بالقيامة من الأموات
لذا يقول بولس في الرسالة الأولى إلى اهل كورنثوس 15 : 15
“فإنْ لم تكُنْ قيامَةُ أمواتٍ فلا يكونُ المَسيحُ قد قامَ! وإنْ لم يَكُنِ المَسيحُ قد قامَ، فباطِلَةٌ كِرازَتُنا وباطِلٌ أيضًا إيمانُكُمْ، ونوجَدُ نَحنُ أيضًا شُهودَ زورٍ للهِ، لأنَّنا شَهِدنا مِنْ جِهَةِ اللهِ أنَّهُ أقامَ المَسيحَ وهو لم يُقِمهُ…”
جوهر الإيمان المسيحي إذن هو ” الإيمان بالمسيح القائم من الأموات”
هذا ما يفصل بين المسيحي وغير المسيحي
فقد يتعرف الكثيرون على شخص يسوع ويقدرونه
وقد بعضهم يقبلونه بالفعل نبيا ورسولا
ويرى فيه الجميع مثالا للطهر والنبل والقداسة وسمو التعليم
ويتخذ منه البعض تجسيدا للتواضع والحب والبذل والصفاء والنقاء…
لكن كل هذا لا يكفي ولا نستطيع أن ندعو أيً من هؤلاء مسيحيا…
ولعل الإمتحان العسير الذي مر به القديس بولس في أثينا
حيث حاول عن طريق المنطق والفلسفة والعقل
إثبات وجود الله وميلاد وتجسد إبنه
وكان ذلك مسايرا لما يمكن ان يصل إليه العقل البشري وحده بمجهوده الشخصي
لكن عندما وصل إلى نقطة ” قيامة الأموات” تباينت ردود الأفعال
فمنهم من سخر –ومنهم من اجل الموضوع إلى الغد- ومنهم من تركه ومضى
وقبل الموضوع فقط إثنان أو اكثر…
وبرغم براعة بولس الفكرية وحضوره الذهني العالي وتعمقه العقلي الواضح المعالم
وبرغم جمال حديثه وقوة إلقاءه ومنطقية إقناعه واستخدامه لكل المهارات العقلية
في الإعداد لقضيته وتقديمها وتدعيمها واسنداها والدفاع عنها
إلا أن الفشل كان حليفة لدرجة جعلته يقسم
ألا يلجأ إلى الأسلوب العقلي في البشارة والإقناع ثانية ابدا،
وهكذا أعلنت المسيحية من الوهلة الأولى
فشل العقل في اختبار الإيمان.