المزمور الرابع والعشرون

المزمور الرابع والعشرون

همسات الروح

تأمل في سفر المزامير

افتحوا الأبواب

ليدخل الرب إلى هيكل قدسه

الأب/ بولس جرس

المزمور الرابع والعشرون

افتحوا الأبواب ليدخل الرب إلى هيكل قدسه

أولاً: تقديم المزمور:

يُعتبر المزمور الرابع والعشرون مزمور الحجّاج يُنشدونه لحظة الوصول إلى أورشليم في عيد المظال، وهم يطوفون حول الهيكل حاملين تابوت العهد، رمز حضور الرب وسط شعبه، حيث يسير الشعب أمام التابوت وهم يُردّدون تلك الكلمات المؤثّرة داعيين الجميع لفتح الطرق والقلوب أمام الرب محتفين بحضوره، بينما يهتف المرتلون بصوت عظيم “ارفعي أيتها الأبواب رؤوسكّ، ليدخل ملك المجد”.

هكذا يمضي الموكب صعودًا إلى جبل الرب حتى يصل إلى الهيكل فيدخل الشعب، وهو ينشد حمدًا للرب القدير خالق الأرض ومؤسّسها، أمّا شعبه المختار فيأتي إليه أفواجًا يقف بين يديه طالباً رحمته وبركته ملتمسًا عونه وحمايته.

يلي ذلك دخول تابوت العهد إلى الهيكل، حيث يبدأ حوارٌ ثان: ارفعن أيتها الأبواب رؤوسكن لأن الداخل فيك كبير جدًا (1 ملوك 8: 27)، يجيب مَن في الداخل: مَن هذا ملك المجد؟ فيرد الشعب: هو الربّ الجبار…، يدخل إلى هيكله وجبل قدسه الذي خلقه منذ الأزل، (مزمور 48: 1)، وها هو يصعد إليه ظافرًا (مزمور 68: 19). وأخيرًا يستقر التابوت بموضعه داخل قدس الأقداس.

تتجمّع جماهير الشعب الحجيج بعدها أمام أبواب الهيكل حيث عرش ربّ الجنود (أشعياء 6) ملك شعبه (خروج 15: 18؛ عدد 23: 21)، قائده ورفيقه في حروبه (خروج 13: 21؛ 15: 3)، مَن ظهر بمجده في سيناء (خروج 24: 6) وتجلّى داخل خيمة الاجتماع، نموذج الهيكل الأول (خروج 40: 34؛ عدد 14: 10). حيث ترتبط كلمة “مجد الله” و”إله الجنود” بتابوت الله الذي كان يُحمل إلى الحرب (2صموئيل 11: 11؛ 15: 24) ليكون حاضرًا مع شعبه فيشجّعه على القتال وينصره على الأعداء. فالتابوت يمثّل الحضرة الإلهية الشخصيّة المباشرة ل “يهوه” المخلِّص، ملك المجد.

يعتقد بعض المفسِّرين أن هذا المزمور الملوكي أُنشد عند إصعاد تابوت العهد من بيت عوبيد آدوم إلى جبل صهيون (2صموئيل 6: 12-17)، بينما كان الموكب يجتاز من مناطق الملك في الوادي صاعدًا إلى مدينة الله المقدّسة على قمم الجبال العالية. وكما يذكر المؤرِّخ اليهودي يوسيفوس أن سبعة جوقات من المرتّلين والموسيقيّين كانوا يتقدّمون التابوت في مثل هذه المناسبة.

يرى آخرون أن داود نظم هذه التسبحة لتُرنم في مناسبة تكريس الهيكل الذي عرف بالروح أن سليمان ابنه سوف يقوم ببنائه عوضًا عنه. بينما يظن آخرون أن داود لم يضع هذا المزمور، إنما هو أصلاً أنشودة نصر يترنّم بها الغالبون عند عودتهم من المعارك منتصرين كما كان الرومان يفعلون، حيث يُفترض صعودهم إلى الهيكل في العاصمة وهناك يمجّدون تابوت العهد واهب النصر. ختامًا لا يهمنا مَن كتب المزمور فالروح القدس هو مصدره الأول ومحرّك قلب كاتبه ومنشديه وهو الملهم والمحرّك لقلب كل مَن يصلّيه على مدى الدهور. – مزمور طقسي: كما سبق القول أن المزمور هو مزمور يردّده الحجّاج عند بلوغ الهيكل حاملين تابوت العهد ضمن طقوس عيد المظال ، ويُنشدونه أثاء التطواف. ُيحتمل أن يكون ترتيب طقس الترنّم أثناء الدخول إلى هيكل هكذا: يتقدّم الشعب الموكب ليفتح الطريق أمام الرب ويحتفي به بينما يترنّم الزائرون أو كورس الموكب المقطع الأول (عدد 1، 2)، تسبحة في طريق، حيث يحتفلون بعظمة الله الخالق.حتى الوصول إلى أبواب الهيكل (3-6)، وأخيرًا يشير إلى صعود الرب واستقراره في مسكنه (7-10) فيدور الحوار المذكور بين الكهنة بالداخل والكورس من الخارج.

  • مزمور مسياني: يحوي هذا المزمور نبوءة خاصة عن الرب يسوع، فالصعود بالتابوت إلى بيت الله، رمزٌ لصعود السيد المسيح إلى السماء. وكلماته تشير إلى دخول الرب يسوع رئيس الكهنة الأعظم إلى بلاط أورشليم السمائية ومجد ملكوت أبيه، ويقدّمه المرنّم كملك محارب، يدخل إلى السماء ظافرًا منتصرًا؛ لهذا يُدعى “ملك المجد”، “رب الصباؤوت” و “رب الجنود”. وبحسب التقليد حُسب هذا المزمور منذ البدء نبوءة عن القيامة والصعود في العهد الجديد، فكان يُنشد في عيدَيْ القيامة والصعود. وحاليًا في الكنيسة القبطية يُرنم في طقوس عيد القيامة عندما يدخل الكاهن والشمامسة في حوار مأخوذ نصًا، إعلانًا عن مجد المسيح القائم، وانتصاره على الموت، وقدرته على رفعنا معه إلى مجده.
  • علاقته بالمزمورين السابقين: هناك نوع من التكامل بين المزامير الثلاثة (22، 23، 24). فالأول يعلن عن المسيا باعتباره المخلِّص المتألمّ. والثاني-الثالث والعشرون-يتحدّث عن الراعي الصالح الذي يدخل بالرعية إلى الفردوس للتمتُّع بمياه الراحة، من خلال عمله الخلاصي، فتسكن معه كل الأيام. أمّا المزمور الرابع والعشرون فيتحدّث عن ملك المجد الذي لا يقف عند السكن في وسط شعبه على الأرض، وإنما يقودهم منتصرًا ليدخل بهم في موكب مقدّس نحو أبواب السماء المفتوحة، ويُصعدهم إلى أمجاده السماوية لينعموا بأحضان الآب الأبدية. بمعنى آخر فالمزمور الثاني والعشرون هو تسبحة الجلجثة، والثالث والعشرون هو تسبحة الكنيسة المفتداة براعيها الصالح، أمّا هذا المزمور فهو تسبحة السماء المفتوحة.
  • علاقته بالمزمور الخامس عشر: أخيرًا لابد للقارئ أن يلاحظ أيضًا التشابه الكبير بين هذا المزمور والمزمور الخامس عشر وإن اختلفت العبارات؛ فبينما يركّز الأخير على الطهارة الفردية طهارة القلب والسلوك؛ يركّز هذا المزمور لا على الفرد بل الشعب إنه مزمور الحب المجيد، بالحب خلق الله كل شيء لأجل الإنسان، وبه يقدّسه لينضم إلى موكبه فيصعد معه إلى السماء ليحيا مع الله الخالق القدوس.

ثانيًا: نص المزمور وتقسيمه

يتكوّن المزمور من عشر آيات وينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: اتكال على الرب خالق الكل (1-2)

1 . مزمور لداود للرب الأرض وملؤها، الدنيا والمقيمين بها.

2. على البحار أسّسها وعلى المياه ثبّت أركانها.

القسم الثاني: الله الكلى القداسة (3-6)

3 . مَن يصعد إلى جبل الرب ويقف في مقامه المقدّس؟

4 . هو النقي اليدين الطاهر القلب، الذي لا يميل إلى السوء ولا يحلف يمينًا كاذبة.

5. ينال بركة من عند الرب، وعدلاً من الله مخلّصه.

6. هكذا يكون مَن يطلب الرب، مَن يلتمس وجهك يا إله يعقوب.

القسم الثالث: الله الكلى النصرة (7-10)

7. ارفعي رؤوسك أيتها الأبواب، وارتفعي أيتها المداخل الأبدية. فيدخل ملك المجد.

8.مَن هذا ملك المجد؟ هو الرب العزيز الجبار الرب الجبار في القتال.

9. ارفعي رؤوسك أيتها الأبواب، وارتفعي أيتها المداخل الأبدية. فيدخل ملك المجد.

10.مَن هذا ملك المجد؟ الرب القدير هو ملك المجد.

ثالثًا: تفسير المزمور

القسم الأول: اتكال على الرب خالق الكل (1-2)

1.   للرب الأرض وما عليها، الدنيا والمقيمين بها

نداء تمجيد، فالرب سيد حياة داود وشعبه، هو رب الأرض وسيد الدنيا وشعوبها، وفي هذا التمجيد إعلان وكشف ونبوءة عن سيادة الله واتساع عبادته في كل أرجاء الأرض حيث سينادي أبناءه البشر المقيمون في أرجاء المسكونة وليس فقط شعبه من أبناء يعقوب.

2.على البحار أسّسها وعلى المياه ثبّت أركانها

البحار عالم يموج بالحياة والكائنات، وان كان البحر في الكتاب المقدس يمثل عالم الموت، فسلطان الرب ليس قاصرًا على الأرض وحدها بل يمتد إلى سماء السماوات ويشمل البحار والأنهار التي أسّسها وخلقها ووضع لها حدًا كما في سفر التكوين وهو قادر على صنع العظائم حيث قام بتثبيت أركان الأرض كلّها بما تحمل من حياة وكائنات على المياه !!

القسم الثاني: الله الكلى القداسة            (3-6)

3 . مَن يصعد إلى جبل الرب ويقف في مقامه المقدّس؟

ينتهي الشعب من صعود جبل الرب ويبدأ في الدخول إلى هيكله المهيب وهو ينشد نشيد الحمد، للذي خلق الأرض وأسّسها على المياه، على أربعة عواميد فلا تتزعزع لأن قدرة الرب تثبّتها. يبدأ الحوار بين الحجّاج والكهنة بسؤال صريح: مَن يحقّ له الصعود إلى جبل الرب والدخول إلى الهيكل؟ فيجيب الكهنة: النقيّ الكفين، والطاهر القلب، والمستقيم الشفتين. ليس فقط من تحلَّى بطهارة طقسيّة، بل مَن كان كلام فيه، وأعمال يديه، ورغبات قلبه بحسب وصيّة الرب. مثلُ هؤلاء يكونون ضيوف الرب، ويصعدون (أشع 2: 3) إلى جبل الرب (أشع 30: 29)، ويقفون في مكانه المقدّس (مز 132: 5)، ليحصلوا على بركاته وبرّه. مثلُ هؤلاء يأتون ملتمسين وجه إله يعقوب (مز 27: 8)، أي حماية الرب، هم شعبه الذي اختاره.

جبل الرب هو جبل صهيون، ومقامه المقدّس هو هيكل أورشليم المبني على هذا الجبل، والمقصود هنا أن الصعود إلى هذا العلو المقدّس والوقوف أمام الله وفي حضرته، والدخول إلى الهيكل يتطلّب نوعية خاصة من البشر، حيث لا يستطيع أي إنسان أن يقوم بهذا العمل الخطير إذ يجب أن تتوفر فيه شروط محدّدة قبل الوقوف بين يدي الرب:

4 . هو النقي اليدين الطاهر القلب، الذي لا يميل إلى السوء ولا يحلف يمينًا كاذبة

الأمر هكذا جاد وخطير يتطلّب العديد من الشروط  والاستعدادات الخاصة أهمها:

  • أولاً: نقاوة اليدين

تعبير يتردّد كثيرًا في المزامير مرادفي التطهير والطهارة والخلو من الآثم والخطيئة فاليدان تلمسان الأشياء ونتداول الكثير من الأمور، وهما نافذتنا إلى العالم المحسوس، فهما مَن يلمسان ويرتّبان وهما أيضًا مَن يضربا ويحملا السيف ويقتلا ويسفكا الدماء ويسرقان… وقد جرت العادة عند اليهود أن يغسلوا أيديهم قبل الصلاة وقبل الطعام علامة الطهارة والنقاء وتساءل الفريسيون مع تلاميذ يسوع كيف تأكلون بأيدي نجسة …

  • ثانيًا: طهارة القلب

طهارة الجسم الخارجية ممكن الوصول إليها والحصول عليها بالاغتسال والوضوء وهي تتطلّب مجهودًا خاصًا… لكن طهارة القلب  هي الأمر الأكثر عمقًا ويمس داخل الإنسان، والقلب في المزامير هو الكيان الداخلي للإنسان، فهو مركز الأحاسيس والمشاعر ، منه ينطلق الحب والبغض والحقد والغضب والرأفة والرحمة والتحنُّن والترفُّق وطول الأناة لذلك يفتّش الله عن قلب الإنسان “يا ابني أعطني قلبك ولتتبع عيناك طرقي”( ام 21: 26) والقلب الطاهر هو رغبة الله من الإنسان وسبب حبه له ورفضه لسليمان الزائغ بسبب نساءه ” وَلَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ كَامِلاً مَعَ الرَّبِّ إِلهِهِ كَقَلْبِ دَاوُدَ أَبِيهِ. “( 1 مل 11 :4) لذلك أحبّ الرب داود  وفضّله واختاره ومسحه ملكًا.

  • ثالثًا: عدم الميل إلى الشر

شرط ثالث واجب توافره في مَن يريد الاقتراب من الله فبعد الطهارة الخارجية والداخلية يحتاج إلى نوع ثالث من الطهارة طهارة النية، طهارة القصد، طهارة الميول والأهواء؛ فمن البشر مَن يميل إلى تحقيق شهواته وإشباع كل ما بداخله من رغبات ونزعات على حساب الآخرين وعلى حساب القيم والمبادئ والشرائع، فهدفه الوصول إلى مرماه مهما كانت الوسيلة ومهما تعالت صرخات الضحايا وارتفع عددهم. ومنهم مَن لا يميل إلى السوء بل يختار طريق الخير والقرب من الله ولو كلّفه ذلك التضحية بالكثير من الملذات والأرباح فهو زاهد بها جميعًا يعتبر خيره الوحيد في الالتصاق بالله والاقتراب منه والعمل بشريعته والسير في طريقه والله من جهته يشترط للاقتراب منه أن يكون ميل قلب الإنسان نحوه وليس نحو الشر.

  •   رابعًا: ولا يحلف يمينًا كاذبة

يتضمن هذا الشرط شرطان داخليان

الأول هوالصدق: في الكلام والعمل وتطابق الأمور الداخلية مع ما ينضح في الخارج … وهذا عكس الكذب. والثاني أن الصدق في اليمين: أي أن يكون اليمين المقسم به يمينًا صادقًا، وإن تمكّن فحسن ألاّ يحلف على الإطلاق.

  • خامسًا: عدم القسم

     في الوصية الثالثة يوصي الرب شعبه، لا تحلف باسم الله فهذه مخالفة جسيمة والأكثر جرمًا هو القسم كذبًا أو بالباطل… بمعنى تحاشى الوعود الكاذبة وتنفيذ ما أُقسم به أمام الرب أو القريب. هذا الشرط يطلب الرب صدقًا داخليًا وخارجيًا واجتماعيًا. ويطلب من أحباءه الذين يتكلّفون مشقة الصعود إلى جبله المقدّس والوقوف أمام هيكله المهيب، طهارة خارجية وداخلية وابتعاد عن كل ما يسوء أو يسيء إلى العلاقة به ويكلّل كل هذا بالصدق الباطني والاجتماعي… مما يعني أن الوقوف بين يدي الله يحتاج عملية تغيير كياني شامل.

5. ينال بركة من عند الرب، وعدلاً من الله مخلصه

  • سادسًا: ينال بركة من الرب

       ينال بركة من عند الرب، وعدلاً من الله مخلصه، فحين يصلّي مثل هذا الإنسان ذو فيه المواصفات التي وصّفها الرب لأبنائه، لا يكتفي الرب باستجابة صلاته وتلبية طلباته… بل ينال فوق ذلك بركة الله التي تعني كل شيء بالنسبة للمؤمن، فالبركة هي أساس السعادة في حياة المتقين للرب… وهي أعظم عطاياه لأحبائه؛ ويذكر الكتاب في حياة إبراهيم أبو الآباء أن الرب حين رأى أنه لم يبخل بابنه عنه،  أقسم بذاته ليعلن رضاه عنه “بالبركة أباركك” وكانت بركة الرب في العمل أو الحصاد أو الرعية شرطًا أساسيًا بسببه تقدم البواكير والعشور وتوفى النذور. والبركة تعني الازدهار والنجاح والفرح والسلام والانتصار كما بارك ملكي صادق إبراهيم حين قدّم له العشر وقدّم عنه ذبيحة خبز وخمر.

  •  سابعًا: وعدلاً من الله مخلصه

سيقيم الله العدل لأحبائه الذين يتقونه ويعملون مشيئته ولن يترك يد الظلم لتطولهم وتمس حقوقهم، فهو يطالب بحقوق الضعفاء واليتامى والأرامل والبائسين وهو ملجأ البائسين وناصر الصديقين ولن يسمح للأشرار أن يجوروا على نصيب الأبرار… فالله قادر أن يرد لهم كافة حقوقهم ويخلّصهم من جميع شدائدهم وينجّيهم من كل ما يقابلون.

6. هكذا يكون مَن يطلب الرب، مَن يلتمس وجهك يا إله يعقوب

  • ثامنًا: هكذا يكون مَن يطلب الرب، مَن يلتمس وجهك يا إله يعقوب

هكذا يكون مباركًا ومرضي عنه ومحمود وتحت حماية الرب فهو لا يخاف شرًا لأنه لا يعتمد على ذراع بشر بل على قوة حضور الله في حياته ولاسيّما إله يعقوب أبو الأسباط الذي أيّده الرب في أصعب الظروف وقاده من نصر إلى نصر. وهذه الإشارة إلى إله يعقوب تعني كثيرًا لكل بني “إسرائيل” الذي هو الاسم الذي وضعه الرب ليعقوب “لا يكون اسمك بل إسرائيل” (تكوين 32 :24) ومَن يلتمس أي يطلب العون من إله يعقوب هذا، يعرف أن مَن اجتاز به كل سني حياته الحافلة بالمشقّة والصراع … سوف يعينه هو أيضًا على اجتياز جميع صعوبات حياته.

القسم الثالث: الله الكلى النصرة (7-10)

يأتي دور دخول تابوت العهد، فيبدأ حوارٌ آخر: ارفعن أيتها الأبواب رؤوسكن، لأن الداخل فيك كبير جدًا (1 ملوك 8: 27). فيجيب الذين في الداخل: مَن هذا ملك المجد؟ فيقول الشعب: هو الربّ الجبار… ويُعاد الحوار مرة ثانية: ربّ الجنود هو ملك المجد، وهو يحضر إلى هيكله وإلى جبل قدسه. هذا الجبل خلقه الرب منذ الأزل (مزمور 48: 1)، وها هو يصعد إليه ظافرًا (مزمور 68: 19). وهكذا تظهر العلاقة بين خلق الأرض وبناء الهيكل (78: 68-69): بنى الله بيته المقدّس كما بنى بيته في العلى، وثبّته كالأرض إلى الأبد. في هذا المزمور نفهم أن بناء أساسات الهيكل في التاريخ، هو امتداد لتكوين المسكونة، حيث يسكن الله، وما الهيكل سوى صورة مصغّرة عن المسكونة.

7 . ارفعي رؤوسك أيتها الأبواب، وارتفعي أيتها المداخل الأبدية فيدخل ملك المجد

أورشليم المبنية على جبل صهيون محاطة بأسوار حصينة تمنع دخول الأعداء والغرباء وفي هذه الأسوار أبواب يذكرها الكتاب المقدّس بعهديه… وحين تكون أورشليم في موسم حج وأعياد وأفراح يُقبل إليها العديد من الشخصيات البارزة كانت تفتح هذه الأبواب بالتهليل والأفراح لاستقبال الوافد العظيم كما حدث في موكب الرب يسوع يوم أحد السعف حيث فتحت أبواب المدينة وارتجت المدينة كلها واستقبله أهلها بأغصان الزيتون والسعف والخوص وفرشوا ثيابهم ليعبر عليها موكبه (متى 21، يوحنا 12 الخ) …

8. مَن هذا ملك المجد؟ هو الرب العزيز الجبار الرب الجبار في القتال

يتساءل المرنم بالروح، نعرف الملك، نعرف العديد من الملوك، نعرف المجد، تذوقنا العديد من أنواعه وعشنا مجد الرب مرارًا كثيرة، ملك هو الله ومجيد هو وحده، إنهما صفتان من صفاته فكيف تجتمعان في شخص واحد آخر غيره؟ مَن يكون! مَن هذا ولماذا يطرق أبواب مدينتنا؟

  •  هو الرب العزيز الجبار

يزيدنا النبي المرنم حيرة بدلاً من أن يجيب على تساؤلاتنا وتساؤل الأبواب الدهرية وجميع الشعوب. حيث يضيف صفتين جديدتين إلى صفات ذلك الملك الواقف على أبواب مدينة الله يطرق أبوابها الدهرية، إنه عزيز وهو من أسماء الله الحسنى، العزيز الجبار، وهذا قاصر على الله وحده صاحب القوة والعزّة والجبروت.

  • الرب الجبار في القتال

لا تفسير لهذه الآية على مستوى الأحداث التاريخية… إنها نشيد فرح وتهليل، إنها رجاء شعب وأمنية نبي، إنها رجاء الدنيا والبشرية كلها، أن يدخل رب المجد إلى حياة البشر وينير ظلماتها.

 يتجلّى جبروت الله في قدرته على الانتصار على جميع أعدائه، فعندما صرخ الملاك ميخائيل ومعنى اسمه “مَن مثل الله” في الشيطان وصعقه جبرائيل “الله الجبروت” ودحره إلى الجحيم، فالله وحده الجبار صاحب جبروت، فكيف ومتى يدخل أبواب أورشليم

9 . ارفعي رؤوسك أيتها الأبواب، وارتفعي أيتها المداخل الأبدية فيدخل ملك المجد

نستطيع اعتبارها كالآية الذهبية لهذا المزمور حيث يكرّر الشعب وراء النبي هذا النشيد الجميل، نشيد الفرح والرجاء، نشيد السماوات المفتوحة وتحقيق الملكوت، ومازلنا إلى اليوم نرددها ونحيا مفاعيلها فدخول الرب إلى مدينته يعني إحلال ملكوت الله على الأرض، وهذه صلاة كل مؤمن “ليأت ملكوتك“.

10 . مَن هذا ملك المجد؟ الرب القدير هو ملك المجد

يردّ الكاهن المنشد على سؤال شعبه ببشارة الفرح: أن الرب، رب القوات بنفسه هو الذي سيملك عليهم وينير مدينته، ما عليهم سوى أن يفتحوا أبواب قلوبهم، وبذا يبرز حوار روحي بين قائد المجموعة وحارس الباب:

يتساءل قائد المجموعة عن السَّمات اللازمة فيمن يريد أن يصعد إلى بيت الرب، ويجيب حارس الباب على السؤال مقدّمًا السمات الروحية التي تليق بمن يرغب في التمتُّع ببركة الشركة مع الله في بيته المقدّس. ويمجّد القائد مَن يتمتع ببركات الرب ونعمة الخلاص. وترد الجوقة بتسبيح قبل الدخول إلى الهيكل أنهم جاءوا كموكب ملوكي معلنين الله ملكًا لهم، وأن تركيزهم ينصب على الله وحده، وهم يمجدونه بحياتهم وسلوكهم الخفي والظاهر… إنهم يطلبون فتح الأبواب الدهرية، لا من أجلهم إذ هم موكبه وإنما من أجل ملك المجد، رب القوات هذا هو ملك المجد.

رابعًا: تطبيق المزمور

كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور؟

يمكن أن ينطبق المزمور على مراحل حياة الرب:

فلعل الآيات الأخيرة التي تتردّد بين الشعب والكهنة، لا تنطبق على أحد في تاريخ الخلاص: لا ملاك، ولا رئيس ملائكة ولا نبيًا بل على المسيح وحده: ليس الآب الذي لا يرى ولا الروح الذي لا ينظر بل الابن المنظور عمانوئيل “الكلمة” المتجسّد الذي رأيناه وسمعناه ولمسته أيدينا، الذي عاش بيننا وجاء إلى خاصته فلم يقبلوه، وبدلاً من أن يفتحوا الأبواب لقبول ملكهم صاحوا “ليس لنا ملك غير قيصر” وصلبوا يسوع الناصري ملك اليهود، ولو عرفوا أنهم حين رفعوه على صليب العار، رفعه الله للمجد وحطم بصموده أبواب الجحيم الأبدية وكسر شوكة الموت، فصار هو بالحق والحقيقة ملك المجد، الرب القدير، الذي له تجثو كل ركبة في السماء وفوق الأرض وما تحت الأرض. يمكن تطبيق كل ما يقوله هذا المزمور عن الله على يسوع المسيح:

  • فليسوع المسيح المسكونة وما فيها، المخلوقات المنظورة والغير المنظورة: لأنه به كوّن كلّ شيء (كول 1: 15). وهو ملك المجد (1 كور 2: 8)، وملك الملوك وربّ الأرباب (رؤ 19: 16). جاء مرّة أولى بالجسد، وسيأتي ثانية بمجد عظيم ليدخل العالم، وسيكون العالم سعيدًا باستقباله.
  • صعود المسيح: يُعتبر سفر المزامير الموضع الكتابي الرئيسي الذي يحدّثنا عن الصعود، حيث يعبّر الصعود عن السرّ الفصحى في نظرة مسيانية. فهو عيد دخول المسيح الملك إلى مجده كما تنشده طقوس المزامير الملكية بوضوح، بالأخص في ثلاثة مزامير (24، 68، 110). ونقرأ في يوستينوس: “انظروا كيف وجب أن يصعد إلى السماء حسب النبوءات. قيل: ارتفعن يا أبواب السماء لتنفتح وليدخل ملك المجد”. “تزاحم الملائكة فيما بينهم لتتم كلمة الكتاب: افتحوا أبوابكم أيها الرؤساء”. والرؤساء هم الملائكة حرّاس السماء حيث يُدخِل كلمةُ الله بصعوده، كل أبناء البشريّةَ التي اتّحد بها.”ويفسّر ايريناوس المزمور في هذا المعنى: “إنه رُفع إلى السماء، فكما نزل الكلمة ولم تره الخلائق ولم تعرفه في نزوله، كذلك جُعل خفيًا في تجسّده ورُفع إلى السماء. فحين رآه الملائكة الأدنون صرخوا للذين هم أعلى منهم: افتحوا أبوابكم. ارتفعن أيتها الأبواب، لأن ملك المجد يدخل. وإذ قال ملائكة العلاء منذهلين: مَن هو هذا؟ من جديد هتف الذين رأوه: هو الربّ القويّ القدير، هو ملك المجد”.
  • كذلك تنطبق آيات المزمور على شخصه فهو وحده:
*
  • النقي اليدين: فطالما يداه امتدتا للشفاء الروحي والبدني ولطالما ارتفعا للصلاة والتسبيح الليل كله.
*
  • الطاهر القلب: وهو وحده طاهر القلب الذي غفر للخطاة وحتى لصالبيه وهو بعد مثخنًا بالجراح، مثقوب اليدين والقدمين معلقًا على الصليب، يرى ويسمع سخرية ظالميه.
*
  •  الذي لم يصنع الشر: وهو خلاف جميع الرسل والأنبياء قبله وبعده لا يستطيع أعداءه أن يمسكوا عليه خطيئة بل على العكس جال يصنع خيرًا ويشفي كل سقيم.
*
  • الذي لم يحلف أبدًا: بل القائل قيل لكم لا تحلف، أمّا أنا فأقول لكم “ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا وما زاد عن ذلك فمن الشيطان.

لذلك فهو الوحيد الذي يحق له أن يصعد إلى المدينة المقدّسة ويقف أمام الرب، وأن يصعد إلى أعلى مرتبة في “السماوات” جالسًا عن يمين عرش العظمة،  آخذًا أعظم كرامة. وصائرًا ديّانًا للعالم، ومخلصًا للكل.

  • إرفعي أيتها الأبواب…: إنه نشيد القيامة، نشيد الصعود، نشيد المجد، نشيد المحبة، تقرأ هذه الآيات في قراءات أحد الشعانين وأيضًا في طقوس ليلة عيد القيامة في الكنيسة القبطية، وهي نبوءة عن المسيح الذي دخل أبواب المدينة الدهرية فارتفعت مغاليقها التي طالما استعصت على قوة الأعداء، لكنها ترفع اليوم لتستقبل رب هذه المدينة، ملك المجد، نبوءة عن قيامة المسيح من بين الأموات حيث كسر شوكة الموت ونزل إلى الجحيم وخلّص نفوس الأبرار الراقدين في الظلمة وظلال الموت.
  • وما ارتفاع أبواب أورشليم مدينة الله أمام ملك المجد سوى رمز لهبوط أبواب الجحيم مدينة الشيطان وانهيارها أمام مجد قيامته فما أروع هذه الآيات العذبة لقد حطم رب المجد بقيامته المداخل الأبدية المغلقة وفتح الطريق أمام البشر ليدخلوا معه في موكبه المنتصر إلى حضرة الله، إلى أورشليم السمائية …
  • كذلك يحمل الحوار الرائع كشفًا عن شوق المتحدين مع المسيح الغالب نحو الصعود خلال الأبواب الدهرية، ودهشة السماء عينها أمام عمل رب المجد الخلاصي الذي وهب البشرية أمورًا لا يُنطق بها!
*
  • فمن ذا الذي ُرفع على الصليب ورفعنا معه إلى الآب؟ إنه الرب يسوع.
*
  • وأمام مَن تدحرجت صخرة القبر؟ أمام قوة قيامته.
*
  • ومَن قهر الموت وقام منتصرًا كاسرًا شوكته؟ إنه الرب يسوع.
*
  • ولمن انفتحت الأبواب الدهرية فنزل إلى الجحيم وسبى سبيًا؟ إنه الرب يسوع.
*
  • ومن ارتفع إلى السماء وأخذته سحابة عن العيون؟ إنه الرب يسوع.
*
  • ومَن سما في المجد وجلس عن يمين عرش العظمة في السماء؟ إنه الرب يسوع.
*
  • ولمن انفتحت أبواب أورشليم فدخل وديعًا متواضعًا؟ للرب يسوع.
*
  • ولمن أُعطيت مفاتيح أورشليم السمائية يفتح فلا يغلق أحد ويغلق فلا يفتح أحد؟ للرب يسوع.
  • يسوع المسيح هو وحده ارتفع وتمجّد، هو وحده الألف والياء، هو وحده البداية والنهاية، معه وحده المفاتيح يفتح فلا يغلق أحد ويغلق فلا يفتح أحد. ولم يفعل ذلك بحثًا عن مجد أو فخار ولا سعيًا لمكانة أو سلطان فهو وحده الكلي المجد والقوة والسلطان كما ترنّم له كنيستنا القبطية طوال أيام البصخة بل اجتاز كل هذه الآلام ليمهّد لنا الطريق ويفتح لنا تلك الأبواب الدهرية التي طالما ظلّت مغلقة في طريق وحدتنا مع الله، تلك التي تشتاق إليها نفوسنا كما يشتاق الأيل إلى مجاري المياه.

كيف نعيش نحن المسيحيين هذا المزمور؟

إنه مزمور فرح نعيشه نحن المسيحيون كل يوم لاسيّما في أيام الفرح ونترنّم به في أوقات السعادة ونستخدمه في طقوس الأعياد الكبرى .

  • نعترف في كل أوان:  وكل الصلاة للرب العظيم خالق السماء والأرض، ما يُرى وما لا يُرى، ونمجّده في كل الخلائق بل إن فرنسيس الأسيزي جعل كل الخليقة تسبح له وتباركه: تباركت يا سيدي من أجل أختنا المياه …الخ.
  • نستخدمه في الطقوس الكنسية ونتعلّم منه في حياتنا أسلوب الاقتراب إلى الله ونعرف كم هو عظيم الوقوع في يدي الرب.
  • فلنطهّر أنفسنا: هكذا يفعل المؤمن قبل دخول الكنيسة حيث يذهب نظيفًا طاهرًا من أدناس وأقذار العالم، مرتديًا أفضل ثيابه معترفًا بخطاياه.
  •  هكذا يفعل الكاهن في بداية القداس إذ يغسل يديه: انضح علىّ بزوفاك فأطهر، اغسلني فأبيض أكثر من الثلج، أغسل يدي بالنقاوة وأطوف بمذبحك يا رب لأخبر بصوت تسبيحك أيها الرب إله القوات.
  • البُعد عن الشر: يعيش المسيحي في العالم سائرًا في نور الرب ومخافته… يكره الشر والخطيئة لأنهما يفصلانه عن حب الرب الإله ويفعل الخير ويسعى للسلام ويبتعد عن كل سوء لأن السير في طريق الأشرار يسيء إلى محبته لأبيه الذي أحبّه وخلّصه.
  • ولا يحلف: طبعًا تجاوز مرحلة القسم “لا تحلف باسم الرب إلهك باطلاً” وعبر إلى “لا تحلفوا صادقون كنتم أم كاذبون” لا تحلف بالسماء لأنها عرش الله ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه ولا برأسك لأنك لا تقدر أن …” (متى 5) وصار عفيف اللسان “كلمة شريرة لا تخرج من أفواههم وبصبركم تقتنون نفوسكم” (متى 5) حرص أن يكون كلامه “نعم نعم ولا لا” لأنه يعرف أن ما زاد عن ذلك هو من الشيطان.
  •  ولا يكذب: حيث يحرص المسيحي أن يعيش في نور الله فإنه لا يكذب على الإطلاق ولا يستخدم اليمين لإثبات أكاذيبه.
  •  الطاهر القلب: وهو عنصر جوهري في الحياة المسيحية، حيث يعرف كل مسيحي أن طهارة اليدين والجسم كله والمظهر الخارجي يمكن أن تخدع البشر لكنها لا تخدع الله أبدًا، لذلك فهو حريص على أن يطهّر قلبه من كل دنس سواء بالقول أو الفعل أو الفكر أو الإهمال وهو يعرف أن سيده فاحص القلوب والكلى “مَن نظر امرأة واشتهاها فقد زنى بها” وهكذا بالعماد المقدّس وبممارسة سر المصالحة والاعتراف بخطاياه يسعى الإنسان المسيحي باستمرار للحفاظ على نفسه طاهرًا.
  • ينال بركة: ثمرة البر والعفاف والطهارة والصدق بركه في اتجاهين:
*
  • إنها جميعًا ترضي الرب وتحقق شريعته في الحياة فيبارك المؤمنين به.
*
  • إنها جميعًا تحقّق في حياة الإنسان كل طموحاته الشخصية وتفيض ببركتها وخيراتها على بيته ومَن حوله، فيصير بركة لجميع من يقترب منه ويعيش الفرح والسلام والاطمئنان …
*
  • هذه البركة يقدّمها الرب لأبنائه وقد أوصى بها كنيسته وتلاميذه، ومنحها لكل مَن يتقونه ويحفظون طرقه في قلوبهم…
  • كذا ترتفع الأبواب الدهرية: في وجه المسيحي مرحّبة مهللّة إذا أتم كل ما سبق من برّ ونال كل ما يستحق من بركات، لا يهبط إلى الهاوية بل يصعد إلى السماء… ويفتح الرب الفادي بنفسه أمامه الأبواب الدهرية، ويسمع ذلك الصوت العذب تعال إلىّ يا مَن نلت “البركة” من أبي، رث الملكوت المُعَد لك منذ إنشاء العالم لأني كنت جوعانًا، عطشانًا، عريانًا، غريبًا، سجينًا… فيدخل معه إلى المجد أورشليم السمائية التي تفتح أبوابها الدهرية ليدخل ويحيا فيها المؤمنون بالرب الإله إلى الأبد، حيث لا عطش ولا جوع ولا تنهُّد ولا دموع…
  • حين يدخل ملك المجد إلى مقدسة: فذلك رمز لصعودنا نحن فيه كأعضاء في جسده. فقد نزل الملك إلى عالمنا وخلّصنا بالصليب، وهو يقدِّس حياتنا واهبًا إيّانا استحقاق الدخول إلى موضع قدسه، وبصعوده رفعنا إلى سمواته، وفتح أبواب السماء للبشر.
  • §        وهو حاضر في كنيسته يساعدها في الجهاد: كنيسته ترافقه كما في يوم الشعانين، فتهتف بحياته، وتدخل وراءه إلى الهيكل لتملك معه كما ملك هو، لا بسلاح البطش والقوّة، بل بسلاح صليبه وموته. 

خامسًا: المزمور في فكر الآباء

يقول القديس أغسطينوس عن هذا المزمور: “المزمور بحسب الترجمة السبعينية “لأول أيام الأسبوع”، أي ينشد في اليوم الأول بعد السبت، وهذا ما كان يحدث بالفعل. مزمور لداود نفسه يتناول تمجيد ربنا وقيامته التي تمّت باكرًا في أول أيام الأسبوع، ولذلك عُرِف بيوم الرب. وتتحدّث الآيتان 1، 2 عن قدرة الرب في خلق المسكونة بكونه الخالق والملك والديان. ويُعتبر الخلق في العهد القديم هو أساس سيادة الله على المسكونة كلها أي سيادة جامعية (مز 24؛ 74: 16؛ 89: 11 الخ؛ 95: 4 الخ؛ 1 صم 4: 8). يُطالب الله -الذي به كان كل شيء-بحقه في الخليقة كلها، لا ليسيطر عليها، وإنما ليضم الكل إليه ويجدّد خلقتهم فيملك بالحب على كل المسكونة. لقد جاء يوم تتويجه بالصليب، ليأخذ الأمم ميراثًا له، وأقاصي الأرض ملكًا (مز 2). عند إصعاد داود تابوت العهد بموكب مجيد وتسابيح وأفراح ارتفع فكره بروح النبوة ليرى كنيسة العهد الجديد التي تضم مؤمنين من كل الأمم ومن كل الشعوب والألسنة، يرى العالم الجديد أو الأرض الجديدة التي تسكن الرب نفسه فيها، فترنَّم قائلاً: “للـرب الأرض وملؤها”. ومن هنا نرى كأن المرنم يقدم لنا صورة دقيقة عن الكنيسة:

أولا: الكنيسة هي سكني الله وسط شعبه

“للرب الأرض وملؤها”، الكنيسة الكائنة هنا على الأرض إنما هي كنيسة الرب، برها وقداستها من عند الرب. يعترف المؤمنون أنه حتى الأرض ذاتها التي يمشون عليها هي أرض ربهم ومخلصهم وليست أرضهم. للرب حق السيادة والملوكية عليها؛ حقًا، فقد دُعي إبليس إله هذا العالم، لكن كمغتصب، بمساندة الأشرار أبنائه. أمّا بالنسبة للمؤمنين فليست له حق حتى على الأرض التي يمشون عليها، لأن الله يقدس حياتهم كلها حتى ملابسهم بل وظلّهم، فكانت الأمراض تُشفي بخرق ولفائف القديس بولس والشياطين يخرجون بعبور ظل القديس بطرس على الساقطين تحت سلطانهم. أولاد الله يدركون أنهم إن كانوا يأكلون أو يشربون أو أيًا كانوا يفعلون، فإنهم يجب أن يضعوا كل شيء لمجد الله، لأنه يملك على الجميع (1 كو 10: 25-31). الأرض أيضًا هي رمز لجسدنا الذي خُلق منها، فهي ملك الله، الذي يقدّس أرضنا (جسدنا) بكل حواسه وعواطفه وطاقاته كأمور صالحة من عنده. يقول الكتاب: “للرب الأرض وملؤها”، بذلك يعلّمنا أن كل الأمور الصالحة هي من عند الله يقدّمها للبشر بقوته الإلهية وقدراته ويقوم بتوزيعها لمساندة الإنسان.

وفي هذا يقول القديس أكليمندس الاسكندري: “سماء السموت للرب، وأمّا الأرض فأعطاها لبني البشر” (مز 115: 16). وهبنا الأرض لكي نملك كملوك ووكلاء الله، لكن إذ فقدنا سلطاننا وكرامتنا نزل هو لكي يملك على الأرض كلها، حتى يصلح من شأنها فيه، واهبًا إيانا نعمة الملوكية (رؤ 1: 6). بالخطيئة صرنا أرضًا، فجاء ربنا ليملك علينا ويسكن فينا كعالم خاص به، فتحوّلنا من أرض إلى سماء! إذ يملك السيد المسيح على القلوب لا يقبل قط أن يشاركه ملك آخر في مملكته. إنه يسألنا أن نقدم له ملء حياتنا بكونها ملكًا خاصًا به، إذ يشتاق من جانبه أن يهبنا حياته”.

ثانيًا: أعضاء الكنيسة من كل أمة في المسكونة

لم يكن ممكنًا لليهود أن يقبلوا أبواب الكنيسة المفتوحة أمام الأمم، لذا غضبوا عندما قال الرب لهم: “إن أرامل كثيرة كنَّ في إسرائيل في أيام إيليا حين أُغلقت السماء مدة ثلاث سنين وستة أشهر…، ولم يُرسل إيليا إلى واحدة منها، إلاّ إلى امرأة أرملة، إلى صرفه صيدا. وبرص كثيرون كانوا في إسرائيل في رمان إليشع النبي، ولم يطهر واحدُ منهم إلا نعمان السرياني” (لو 4: 25-26). كما غضبوا على القديس بولس عندما أعلن أمامهم أن الرب قد أرسله إلى الأمم، وأنه في المسيح يسوع ليس يهودي أو أممي (رو 3: 29). كل البشر مِلك الله، لأنه “للرب الأرض وملؤها، المسكونة وكل الساكنين فيها”. لهذا يقول الرسول بولس في رسالته إلى أهل رومية: “لأنه ليس سلطان إلاّ من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله حتى أن مَن يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله والمقاومين سيأخذون لأنفسهم دينونة” (رو 13: 1-7).

وفي هذا يقول القديس إيريناؤس: “المسيح ليس محصورًا في موضع واحد بعينه” ويضيف القديس جيروم: ” لا يُحاكم مؤمن حسب مكان إقامته إن كان هنا أو هناك بل حسب استحقاقات إيمانه”.

ثالثًا: الكنيسة مقدّسة

الكنيسة مقدّسة ويلتزم أعضاؤها بالطهارة لا يفكرون في الباطل بل في السماويات، ويحبون بعضهم بعضًا. بدون قداسة لا يعاين أحد الرب؛ وحيث لا توجد نقاوة لا توجد كنيسة‍! الخروف ليست جداءً، حتى وإن اختلطت بالجداء. فعند الله الخط الفاصل بين القدّيسين والأشرار، ومتسع اتساع الأرض عينها.

يلزم التعبير عن قداسة الكنيسة بالأعمال بجانب المشاعر الداخلية والارادة. لذا يقول المرتل: “الطاهر اليدين (الأعمال)، التقي بقلبه”. إنها تمس علاقتنا بالله وبإخوتنا كما بأنفسنا: “الذي لم يأخذ نفسه باطلاً، ولم يحلف لقريبة بغش”. “الطاهر اليدين”: في لغة الكتاب المقدّس يُحسب طاهر اليدين من لم يدنسهما بالدماء أو بالعنف أو الرشوة أو الربح القبيح أو صنع الشر بأية صورة نحو الله أو الإنسان. الأيادي هي وسيلة لتحقيق الأعمال، لكن الذي يحرّكها ويحكمها هو القلب، لذا وجب أن يكون نقيًا. طهارة اليدين لا تعني مجرّد التطهيرات الظاهرة؛ لئلا نغسل خارج الكأس والصفحة بينما يبقى الداخل دنسًا. لا تعني الاغتسال بالماء كما فعل بيلاطس البنطي أثناء محاكمة السيد المسيح. طهارة اليدين تؤكّد مفهومنا للإيمان الحيّ، الإيمان العامل بالمحبة (غل 5: 6). “الذي لم يأخذ نفسه باطلاً”: يليق بمن يود الصعود إلى بيت الرب أو التمتع بالشركة مع الله القدوس ألاّ يأخذ نفسه باطلاً، أي لا ينشغل بملذات العالم الباطلة، إنما تنسحب نفسه إلى السماويات، إلى الأفراح الأبدية. “ولم يحلف لقريبه بغش” علامة الحياة المقدّسة في المسيح الحق، أن تكون كلمة المؤمن صادقة وأقوى من أي قسم. ينطق بالحق لأنه متحد بالمسيح الحق، وقد صار ابنًا للحق. الآن ما هو ثمر هذه الحياة في المؤمنين الذين يسلكون في حياة مقدسة؟ يصعدون إلى جبل الرب ويثبتون في موضع قدسه، يبدأون بالروح ولا يكملون بالجسد بل يلتهبون بالروح وينمون. إنهم “ينالون بركة من الرب”، فهم لا يصعدون لكي يقدّموا ويعطوا بل لينالوا؛ لكنهم في الكنيسة ينالون السيد المسيح نفسه برّهم وفرحهم وشبع نفوسهم ومجدهم الأبدي. ينالون رحمة من الله مخلّصهم، فيختبرون الرحمة خلال عمل الله الخلاصي… يتمتّعون بالله كمخلّص لهم، ليس فقط يغفر لهم خطاياهم إنما يقبلونه هو شخصيًا مجدًا لهم!

رابعًا: الكنيسة مؤسّسة على مياه المعمودية

  يقول المرتل: “لأنه على البحار أسّسها، وعلى الأنهار ثبّتها”. في بداية الخليقة كان روح الله يرف على وجه المياه ليخلق ويُبدِع من أجل محبوبه الإنسان، ليتمتّع بالأرض وكل إمكانيّاتها. وفي العهد الجديد يؤسّس الرب كنيسته كخليقة جديدة تقوم على بحار المعمودية التي ضمّت الأرض الجديدة من كل العالم.

  خامسًا: كنيسة سماوية منتصرة

الرب خالق المسكونة يقدّم حياته من أجل خلاص العالم كله، كقول الرسول يوحنا: “هو كفّارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضًا” (1 يو 2: 2)، فيضم إلى جسده أعضاء من كل الأمم والشعوب خلال الإيمان به ونوال البنوة في مياه المعمودية. في هذا يقول القديس أغسطينوس “الآن إذ يعلن المرتل عن الله الكلي القداسة إنما يكشف عن التزام الكنيسة وكل عضو فيها أن يحيا في الحياة المقدّسة اللائقة بعريس النفس القدوس”. ترفع الكنيسة بكونها الجسد المقدّس للقدوس، جميع أولادها عند بلوغ ذلك المكان المقدّس المؤسّس على البحار والمُثبّت على الأنهار. الحياة الكنسية هي حالة “صعود” مستمرة، لا تعرف التوقُّف ولا الانحدار. مع كل يوم ينعم المؤمن بخبرة شركة مع المسيح الجبل القدوس، حيث نرتفع بالروح القدوس فيه وننعم بالمجد.

لم نصل بعد إلى القمة لكننا نترجّى في يقين أن نبقي دائمًا صاعدين. فالتمتُّع بالحياة الكنسية الإنجيلية هو نعمة إلهية لا فضل لنا فيها، والثبات فيها والنمو الدائم هما من عمل روح الله الساكن فيها، فنعمة الله الغنية تؤهّلنا للوجود في الحضرة الإلهيّة. وروح الله القدوس يحملنا إلى مياه المعمودية لننال البنوّة ويقدّس أعضاءنا بالمسحة المقدّسة، ويهبنا دموع التوبة غسلاً دائمًا لخطايانا وتطهيرًا لأعماقنا؛ وهو بعينه خلال سرّ الإفخارستيا يهبنا الثبات في المسيح بتناولنا جسده ودمه المبذولين عنّا. يهبنا روح الله الثمر الروحي الذي يفرّح النفس بالله ويفتح القلب بالحب ليتسع لكل البشرية، ويقدّس الإنسان بكليّته. يقول القديس أغسطينوس: “إنهم يطلبون وجه هذا الإله الذي أعطى حق البكورية للإبن الأصغر (يعقوب) (تك 25: 23). بمعنى أننا نطلب وجه الله الذي هو ربنا يسوع المسيح، إذ ونحن صغار جعلنا كنيسة أبكار، لنا حق الميراث الأبدي”.

خاتمة المزمور

يتطلّع المؤمن في هذا المزمور إلى الله خالق المسكونة بكل ما فيها، ويرنو بعيني قلبه إلى موكب ملك المجد الصاعد إلى مقدسه السماوي، فتذوب نفسه حبًا ويلتهب قلبه بنار علوية، مشتاقًا أن ينضم إلى هذا الموكب الفريد لكي يعبر مع مخلصه والجمهور الغفير من إخوته المؤمنين من خلال أبواب السماء المفتوحة إلى حضن الآب.

وما هذا الحوار الرائع الذي يدور في هذا المزمور سوى وسيلة ليكشف الله من خلالها  للبشرية جمعاء أنه لا يستطيع أحد أن يعبر تلك الأبواب الدهرية، وأن يدخل إلى الأقداس السماوية، إلاّ الرب القوي الجبار، رب الجنود والقوات، ملك المجد؛ «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي” ( يو14: 6). فله وحده تُفتح الأبواب الدهرية للمدينة السماوية، أبواب هيكل لم تصنعه أيٍد بشر. إنه يهوه المخلِّص، القدير، رب الأرباب وملك الملوك (رؤ 1: 8؛ 19: 16)، رئيس الخلاص الذي لا يُقهر.

إنه مزمور الحب المجيد، بالحب خلق الله كل شيء لأجل الإنسان، وبالحب نفسه يهب مؤمنيه الشريعة والتقديس لينضموا إلى موكبه القدوس، وبالحب أيضًا يصعد بالإنسان إلى السماء المفتوحة بغلبة الصليب! بمعنى آخر، فيه يرى المسيحي متعته وتهليل نفسه في الله الخالق واهب الغلبة.

في هذا المزمور يرى المؤمن الله كخالق الكون وكل ما فيه ويتطلّع إلى موكبه الملكي المجيد الصاعد إلى مقرّه السماوي؛ فتذوب نفسه حبًا ويلتهب قلبه شوقًا للانضمام إلى هذا الموكب الفريد ليعبُر خلال أبواب السماء المفتوحة إلى حضن الآب.

خلال تأمُّلنا إيّاه ندرك أن بناء الهيكل حيث يسكن الله في التاريخ، ما هو إلاّ امتداد لخلق الله للعالم، فما الهيكل سوى صورة مصغّرة عن المسكونة كما يجب أن تكون، وما شعب الله سوى صورة لما يجب أن تكون عليه كل الشعوب. هكذا تظهر العلاقة بين خلق الأرض وبناء الهيكل (مز 78: 68-69). لقد بنى الرب بيته المقدّس كما سبق وخلق الأرض، صورة لبيته في العلى، وما أورشليم الأرضيّة سوى صورة لأورشليم السماويّة. يتذكّر الداخل إلى الهيكل ليعرف أن الله الذي بنى الكون هو ذاته الحاضر في هيكله، وأن على المؤمنين أن يقدّسوا حياتهم في الهيكل كما في الكون، لأنَّ الله حاضر في الهيكل كما في الكون.وهذا ما ينطبق على حياتنا المسية في أوج وأعمق معانيه.

صلاة بحسب روح المزمور

الرابع والعشرون

كن في قلبي وأسكنني في قلبك

إلهي،

يا مَن فتح أبواب السماء أمامي،

افتح قلبي لتدخل وتملك،

أيُّها القدُّوس وحدك،

قدِّسني بروحك، كي أون أهلاً  للسكنى في جبلك المقدّس،

أيُّها الصاعد إلى سمواتك، 

ارفع قلبي إلى عرش نعمتك  واقبلني في موكب نصرك،

فأعبر معك وبك الأبواب الدهرية!

 يا رب الصباؤوت، يا ملك المجد،

رطب أحجار قلبي الصخرية

واهدم حصون نفسي الوهمية

 اسكب بهاءك على روحي،

وكن في قلبي وأسكنني في قلبك

صيرني شمعة تنير الطريق إليك

وملحًا يصلّح فساد العالم

اجعلني بابًا مفتوحًا

يدخل من خلاله الآخرون إليك،

حتى نسير معا ونصل سويًا

معك وبك وفيك وإليك ونحوك

 للدخول إلى أورشليم السماوية

حيث أنت قائد الموك

قاهر الموت واهب الحياة

الجالس عن يمين عرش أبيك،

آمـــــين

فهرس المزمور الرابع والعشرين

افتحوا الأبواب ليدخل الرب إلى هيكله

أولاً: تقديم المزمور

ثانيًا: نص المزمور وتقسيمه

ثالثًا: تفسير المزمور

القسم الأول: اتكال كامل (1-2)

القسم الثاني: الله الكلي القداسة (3-6)  

القسم الثالث: الله الكلي النصر (7-10)

رابعًا: تطبيق المزمور

كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور

كيف نعيش نحن المسيحيين هذا المزمور

خامسًا: المزمور في فكر الآباء:

 خاتمة المزمور

صلاة بحسب روح المزمور

فهرس المزمور الرابع والعشرين