سينودس الشرق الأوسط.. حوار ومصالحة وقبول للآخر

إميل أمين*- جريدة الشرق الأوسط  
تكتسب الزيارة التي قام بها بابا الفاتيكان بندكتوس السادس عشر إلى قبرص الأسبوع المنصرم قيمة تاريخية، ذلك إنه عطفا على أنها الزيارة الأولى لهذا البلد ذي الطابع الأرثوذكسي المعتقد، فإنه كانت الموقع والموضع الذي سلم فيه بابا الفاتيكان رؤساء الكنائس العربية المشرقية الكاثوليكية الخطوط العريضة لسينودس الأساقفة الخاص بالشرق الأوسط حول مستقبل المسيحيين الشرقيين، والمقرر أن ينعقد في الخريف المقبل في حاضرة الفاتيكان في روما، في الفترة من العاشر إلى الرابع والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، وذلك حسب إعلان البابا بندكتوس نفسه في الثامن عشر من يناير (كانون الثاني) الفائت، وقد أصبغ على السينودس عنوان «الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط: شراكة وشهادة». ولا يغيب عن فهم القارئ المحقق والمدقق أن الكنائس الكاثوليكية الشرقية في مصر وفلسطين والأردن وسورية ولبنان وبعض دول الخليج العربي، إنما هي في شراكة روحية مع الفاتيكان وتخضع لبابا الفاتيكان.

والشاهد أن العنوان يحملنا على طرح عدد من الأسئلة، وقد علمتنا الفلسفة أنه في كثير من الأحايين يكون طرح الأسئلة متقدما في المنفعة على تقديم الإجابات، والبداية: ماذا تعني كلمة سينودس؟ وما علاقة الأمر بمسيحيي الشرق الأوسط؟ ثم ما هي أهم ركيزة ظاهرة حتى الآن في أعمال السينودس القادم؟

تعود الأصول اللسانية لكلمة SYNOD إلى اللغتين اليونانية واللاتينية، وهي المرادف لاجتماع رسمي يضم الأساقفة والبطاركة، ويتم في حضور البابا رأس الكنيسة للبحث في قضايا تهم المسيحيين، سواء أكانت إيمانية أو أخلاقية، ويمكن تخصيص سينودس بعينه لقضية قائمة بذاتها، كما في حال مناقشة أوضاع المسيحيين العرب الآنية من أجل تجديد الأفكار وفق مطالب العصر aggiornamento.

والسينودس بهذا التعريف يختلف عن المجمع المسكوني، الذي تتداعى إليه كل رجالات الكنيسة حول العالم لمناقشة جميع شؤونهم الدينية والدنيوية، ويتم انعقاده على فترات زمنية متباعدة، وقد كان آخر مجمع من هذا النوع هو «المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني» الذي عقد في روما في خريف عام 1962، واختتم أعماله في شتاء عام 1965، وقبله المجمع المسكوني الفاتيكاني الأول، وقد انعقد في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي (1869 – 1870).

في عظته نهار السبت الماضي في كنيسة الصليب المقدس في نيقوسيا، تناول البابا بندكتوس إشكالية الآلام في العالم، وكيف أنه يمكن أن يضحي الألم مصدرا للأمل، وقد أشار بالتصريح لا التلميح إلى مسيحيي منطقة الشرق الأوسط الذين «يتألمون» على حد تعبيره، بسبب التوترات العرقية والدينية، وحيثما تقرر عائلات كثيرة الرحيل عن أرض الأجداد.

جوهر السينودس القادم إذن هو البحث في المعضلات التي تواجه السيرة والمسيرة، بل السيرورة لهؤلاء العرب المسيحيين، الذين هم من جذور الأرض بالطبيعة، وبالانتماء العقائدي جسور مع الغرب الذي يطلق عليه مسيحي بالمعنى المجازي وليس الحصري.

والشاهد أن علامات استفهام كثيرة باتت ترتفع في الأفق لجهة هذا الحضور الذي بات تناقصه يشكل ظاهرة مقلقة، لا سيما في الأراضي المقدسة (فلسطين)، حيث مهد السيد المسيح ومنشأ البشارة المسيحية المشرقية أصلا، من جراء سياسات التهويد الإسرائيلية، وفي عدد من الدول العربية، بسبب تنامي الأصوليات الإسلامية الرافضة لهذا الحضور، كما في العراق، ناهيك عن أسباب أخرى، مثل الحروب الأهلية، والصدامات العرقية، والمشاكل الاقتصادية.

فعلى سبيل المثال كان عدد المسيحيين في الناصرة وبيت لحم عام 1922 يبلغ أكثر من 35 ألفا، في حين اليوم لا يتجاوز الرقم أكثر من سبعة آلاف، أي 2 في المائة من ذلك الحضور.

الأمر ذاته ينسحب على مسيحيي لبنان، وقد شكل عددهم نحو 55 في المائة من مجمل السكان عام 1932، وتدنى الحضور اليوم إلى 32 في المائة، أما الطامة الكبرى التي كان الغزو الأميركي البريطاني السبب الرئيسي فيها، فأصابت مسيحيي العراق الذين وصل عددهم بعد سبعة أعوام من القتل والتنكيل إلى عشرة آلاف نسمة، وكانوا قبل عام 2003 قد بلغوا مليونا وربع مليون، والانحسار ذاته ينسحب على مسيحيي سورية، فمن 33 في المائة أوائل القرن العشرين إلى 9 في المائة الآن.. هل الإشكالية الديموغرافية هي التي تقلق الفاتيكان في ما خص المسيحيين العرب؟

يؤكد البابا بندكتوس في عظته في نيقوسيا على أن «حضور المسيحيين العرب يشكل تعبيرا بالغا لإنجيل السلام، والتزام الكنيسة في الحوار والمصالحة وقبول الآخر».

والثابت أنه إذا لم يكن تاريخ الحضور المسيحي العربي بمطلقيته تاريخا ذهبيا؛ فإن المنعطف الزماني الذي نعيش فيه يطرح تساؤلا جوهريا استخدمه القائمون على شؤون التحضير للسينودس، وفي مقدمتهم المونسنيور نيكولا إيتيروفيتش منظم أعمال اللقاء (هل من مستقبل لمسيحيي الشرق الأوسط؟) الرد البليغ قدمه المسيحيون العرب في الشهرين الماضيين عبر قراءات تحضيرية أولية سبقت السينودس فقالوا: «إننا ننتمي إلى الشرق الأوسط ونتضامن معه، ونحن عنصر أساسي فيه، وكمواطنين نشارك في جميع المسؤوليات من أجل بناء حاضره وتقويم غده».

وهناك أيضا اعتراف بأن العلاقة مع إخواننا المسلمين يجب أن تنطلق من مبدأين: «فمن جهة بصفتنا مواطنين في بلد واحد ووطن واحد، نشترك في اللغة نفسها والثقافة نفسها، كما في أفراح وأحزان بلادنا نفسها، ومن ناحية أخرى نحن شهود لإيماننا في مجتمعاتنا».

تنطلق إذن فكرة السينودس من دعم المشاركة الوطنية للمسيحيين العرب في طريق الارتقاء ببلادهم لا الاسترقاء بها، والإضافة إليها دون الاختزال منها.. تقول بعض مقتطفات السينودس القادم بلسان حال المسيحيين العرب.. «علينا أن نعمل بروح المحبة والإخلاص من أجل تثبيت المساواة الكاملة بين المواطنين على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية وذلك طبقا لمعظم دساتير بلداننا».

وربما لم يحن الوقت بعد للحديث بالتفصيل، فنحن إزاء علامات تتجلى في الأفق لهذا الحدث المهم للغاية، لا سيما في أوقات يختزل فيها أعداء الإسلام تاريخ العيش المشترك الإسلامي المسيحي في مصادمات بعينها، أو قصور بذاته لجهة حقوق المواطنة للمسيحيين العرب، الأمر الذي يتطلب ولا شك يقظة كاملة حتى لا تضحى قضية حضور أو غياب المسيحيين العرب خنجرا حقيقيا في خاصرة «التسامح الإسلامي التاريخي الشرق أوسطي».

وتتبقى الإشارة في عجالة إلى جزئية مهمة للغاية، وهي تركيز السينودس القادم على الحضور المسيحي في الأراضي الفلسطينية، وهو أمر تستتبعه أحاديث كثيرة عن العلاقات الفاتيكانية الإسرائيلية التي يلفها من الافتراق ما هو أكثر مما يجمعها من الاتفاق، منذ زمان وزمانين، وحتى ما قبل عام 1904 عندما رفض البابا بيوس العاشر طلب تيودور هيرتزل إقامة دولة لليهود في فلسطين، وصولا إلى إدانة الفاتيكان للعنف الإسرائيلي ضد «أسطول الحرية» المتوجه إلى غزة، ومرورا بما ذهب إليه الكاردينال ريناتو مارتينو رئيس المجلس البابوي للعدالة والسلام منذ نحو عامين من تشبيه قطاع غزة بأنه معسكر اعتقال كبير، وأن ما يجري في الأرض المقدسة هو محرقة حقيقية للفلسطينيين.

هذه الاتهامات على حقيقتها شكلت كثيرا توترات بين إسرائيل والفاتيكان، وأخيرا أشار رئيس مجمع الكنائس الشرقية والكاردينال المتنفذ في حاضرة الفاتيكان «ليوناردو ساندري» إلى أنه «على الكنيسة الجامعة (الكاثوليكية) أن تبقى إلى جانب المسيحيين في الشرق الأوسط لتنمية الرجاء لديهم»، وقد وصفهم بأنهم أول من «غرس الرجاء فينا من أرض خلاصنا».

تدرك حاضرة الفاتيكان، كما يدرك عقلاء العالمين العربي والإسلامي، أن غياب المسيحيين العرب أمر لن يؤدي إلا إلى انتقاص معين الحضارة العربية التي شارك في بنائها وبالتالي نهضتها نصارى ويهود بجانب المسلمين، ويأتي هذا السينودس ليقرع أجراس معضلة قائمة وقادمة، تستحق طرحها عربيا على مائدة الحوار، وتجاهلها يتيح فرصا للاتهامات بالعنصرية التي ستبقى في حق العالم العربي والإسلامي كالخطيئة الرابضة خلف الباب، تشتهي أن تسود، وستجد ولا شك من يجيد اللعب على حبائلها بشكل أبوكريفي لا يخدم الحق، الذي هو أحق بأن يتبع.

*كاتب مصري