كهنوتُ علمانيّ

بقلم روبير شعيب

روما، الجمعة 11 يونيو 2010 (Zenit.org).

يحض الرسول بولس أهل روما والمسيحيين بشكل عام لكي يقدموا أجسادهم "ذبيحة حية، مقدسة ومقبولة لدى الله"، معتبرًا أن هذه هي عبادتهم الروحية (راجع روم 12، 1). بالعودة إلى النص الأصلي نجد أن تعبير "عبادة روحية" لا يترجم بالتمام الأصل اليوناني الذي يتضمن معانٍ أكبر. فكلمة " ton logikon latreían" تعني أكثر بكثير من البعد الروحي، ومترجمو الكتاب المقدس في اللغات المختلفة يجدون صعوبة في نقل هذه العبارة التي تعني في الوقت عينه: عبادة عقلانية، لائقة، منطقية، روحية، جوهرية… هي بالتالي عبادة متكاملة محسوسة ومتسامية تشمل كيان الإنسان بأسره وتسمو به.

إلا أن هذه الآية تتضمن مفارقة كبيرة أشار إليها البابا بندكتس السادس عشر خلال إحدى تعاليم الأربعاء في معرض السنة البولسية. فقد لفت البابا انتباه السامعين إلى تعبير "ذبيحة حية". وقد قال الباب حينها معلقًا: "ينجم عن هذه الكلمات نوع من تناقض ظاهري: فبينما تتطلب الذبيحة عادة موت الضحية، يتحدث بولس عن الذبيحة في علاقتها مع حياة المسيحي. يأخذ تعبير "أن تقدموا اجسادكم"، نظرًا لمفهوم الذبيحة الذي يليه، معالمَ طقسية هي "التضحية، والتقدمة". وبالتالي فالحض على "تقدمة الأجساد" تشير إلى الشخص بكامله" (راجع بندكتس السادس عشر، تعليم الأربعاء 7 يناير 2009).

مفهوم الذبيحة في المسيحية يختلف عن مفهومها الاعتيادي في رموز وطقوس الأديان الأخرى، وذلك في نقطتين أساسيتين: الأولى هي أن الذبيحة هي غير دموية، وفضل المذبوح أن يبقى، نوعًا ما، حيًا بعد "الذبح"! فالذبيحة السميا هي الحمل المذبوح منذ بدء الدهور والحي إلى الأبد. المذبوح المقبول لدى الله لا يموت بل يحيا في الله ومن الله. النقطة الثانية هي أن الذبيحة هي مقدم الذبيحة بالذات. فالمسيح يدخل قدس الأقداس بدمه هو، أي بحياته هو مقدمًا ذاته، لا دم الخراف. والمسيحي، كما يدعو بولس قراءه يجب أن يقتدي بالمسيح في تقدمة ذاته ذبيحة روحية، ذبيحة كاملة متكاملة.

يشكل هذا النوع من "الذبائح" بعدًا من أبعاد العيش الكهنوتي للشعب المسيحي. يقدم المسيحي ذاته إلى المسيح، معه ومثله (راجع روم 6، 13) وتشمل هذه التقدمة تقديم المجد لله في الجسد (راجع 1 كور 6، 20). هذا الكهنوت اليومي، للأيام العادية وليس فقط للأيام الاحتفالية، هو واقع محسوس يحول معنى الذبيحة فيجعلها واقعًا حيًا معاشًا يوميًا.

يشكل الربط بين "الجسد" والعبادة الروحية المتكاملة تجاوزًا لما قد ينجم عن روحنة الذبائح والتأويل الروحي للعبادة الذي قد يُساء تفسيره فتضحي العبادة مجرد شعائر أخلاقية فارغة. العبادة الروحية في الجسد هي جمع بين البعد الروحي والبعد العملي للوجود، هو عبادة بالروح والحق، تلك العبادة التي يريدها الله (راجع يو 4، 24).

هذه العبادة بالروح والحق هي الخدمة الكهنوتية التي يدعى جميع المعمدين في المسيح إلى عيشها. فكل مسيحي هو، في المسيح حبرِ إيماننا ومكمله، كاهنٌ يقدم ذبيحة وجوده الحية لمجد الله الآب باتحاد مع تقدمة يسوع المسيح. والمسيحيون جميعًا هم "حجارة حية"، يبنون بيتًا روحيا ويكونون "جماعة كهنوتية مقدسة تقرّب ذبائح روحية يقبلها الله عن يد يسوع المسيح" (راجع 1 بط 2، 5). فكاتب رسالة بطرس الأولى يخاطب المسيحيين قائلاً: "أنتم ذرية مختارة وجماعة الملك الكهنوتية وأمة مقدسة وشعب اقتناه الله للإشادة بآيات الذي دعاكم من الظلمات إلى نوره العجيب" (1 بط 2، 9).

انطلاقًا من هذه الفكرة الكتابية، توسع المجمع الفاتيكاني الثاني في الحديث عن كهنوت العلمانيين (مميزًا إياه عن كهنوت الخدمة الذي يقوم به الأساقفة ويشارك معهم في الخدمة الكهنة). يصرح المجمع في هذا الإطار: "إن يسوع المسيح، الكاهن السامي والأزلي، إذ أراد أن تدوم شهادته وخدمته بواسطة العَلمانيين أحياهم بروحه ودفعهم دفعاً متواصلاً ليُحققوا كلَّ عمل خير وكامل. فالذين يضمُّهم ضمّاً حميماً إلى حياته ورسالته، يمنحهم أيضاً قِسماً من وظيفته الكهنوتية لممارسةِ العبادةِ الروحية لمجد الله وخلاص البشر. لهذا فالعَلمانيون، بما أنَّهم مُكرسون للمسيح ومُسِحوا بالروح القدس، قد قبلوا الدعوةَ العجيبة والوسائل كي يُثمروا ثمارَ الروحِ بوفرةٍ وإستمرار. وعليه إذا كمَّلوا في الروح كلَّ أعمالهم وصلواتهم ومشاريعهم الرسولية، وحياتهم الزوجية والعائلية، وأشغالهم اليومية والراحة الروحية والجسدية وحتى صعوبات حياتهم إذا ما إحتُملت بصبرٍ، كل هذا يغدو "قرابين روحية، مرضية لله بيسوع المسيح” (1 بط 2، 5)، هذه القرابين التي تُقدم للآب بمنتهى التقوى في الإحتفال بالإفخارستيا مع تقدمة جسدِ الربِّ. وهكذا يُكرِّسُ العَلمانيون العالمَ كلَّه، إذ يعبدون الله في كلِّ مكانٍ ويعملون في القداسة" (نور الأمم، 34).

تعليقًا على هذا النص المجمعي يوضح يوحنا بولس الثاني أنه بحسب تفكير المجمع، لا يكتفي العلمانيون بالمشاركة في خدمة المسيح الكهنوتية، وحسب، بل يتابع المسيح من خلالهم عيش كهنوته في حياتهم" (راجع يوحنا بولس الثاني، مقابلة عامة 15 ديسمبر 1993). بهذا الشكل يضحي العيش على ضوء إرادة الله قربانًا مقدسًا مرضيًا لدى الله.

من هذا المنطلق نود أن نستعرض القراءة الكهنوتية التي يقوم به الفيلسوف المسيحي موريس بلوندل لحياته، ودور "فكرة الكهنوت" في وجوده ودعوته العلمانية

(يتبع)

موهبة كهنوتية في الحياة العلمانية

مسيرة الفيلسوف الفرنسي موريس بلوندل (1860 – 1949) هي مطبوعة بإنضاج بطيء ينقله من التعظيم النظري والمثالي للسمو الموضوعي للحياة المكرسة وللدعوة الكهنوتية – اللتين كان يعتبرهما أولاً كـ "التحقيق الفريد والخلاصة الكاملة لفضيلة الرجولية" – إلى فهم شخصي وشخصاني لكرامة كل خيارات الحياة، حيث ما هو صالح بالمطلق هو واحد فقط: الله وما يريده الله لكل إنسان بمفرده. تحقيق هذه الإرادة هو الخير الأسمى لكل شخص بمفرده.

يكتب بلوندل واصفًا هذا النضوج فيقول: "لقد فهمت أن هناك أمر واحد فقط هو صالح بشكل مطلق، وهو ليس هذه أو تلك الكرامة، هذه أو تلك الصفة السامية بحد ذاتها؛ ما هو صالح بشكل مطلق بالنسبة لكل شخص هو إرادة الله ومشروعه لحياة كل شخص: أن نحقق في ذواتنا هذه الإرادة بالكمال، بغض النظر عما هو مضمونها وبغضّ النظر عن الموضوع الذي تحملنا إليه، هذا هو، بالنسبة للجميع، الخير بالذات".

في القسم الأول من مسيرته، رغم أنه يعترف بالطابع الكهنوتي الملوكي لكل خيارات الحياة، بما في ذلك خيار الزواج، بقي بلوندل مرتبكًا بشأن إمكانية عيش وتطبيق هذا الكهنوت في حالته الخاصة.

المجلد الأول من "مذكراته (Carnets Intimes) مليء بالاستبطان والتضرعات لكي يكشف له الطريقة التي يجب أن يعيش من خلالها موهبته الكهنوتية. في "المذكرة إلى المونسينيور بيي" (Mémoire à Monsieur Bieil) والتي يرسلها بعد الدفاع عن أطروحة الدكتورا الشهيرة (L’Action)، يقدم بلوندل وصفًا دقيقًا وموسعًا يسبر من خلاله غور نفسه ويعرضها على الأب بيي متمنيًا أن ينال هديًا في خياراته. يقرأ بلوندل في هذه المذكرة التأثير الذي لعبته في حياته "فكرة الكهنوت".

لا يشكك بلوندل في "التأثير الدائم، والدور الأساسي الذي لعبته فكرة الكهنوت" في حياته. كانت فكرة الكهنوت بالنسبة له مدرسة لكي يفهم أن الأمر الوحيد الضروري في حياة الإنسان هو إرادة الله؛ أن الإنسان هو كائن غير مستقل تمامًا، وأنه ليس ملكًا لذاته؛ وأنه من الضروري أن تحل مبادرة الله المطلقة مكان مبادرة الإنسان.

ولكن إلى جانب هذا الحضور الثابت والمحوّل، كانت فكرة الكهنوت في حياته تحمل طابعًا مستغربًا: فهو لم يتمكن أبدًا من أن يحدس في أي شكل محدد كان بإمكان هذه الفكرة أن تتحقق في حالته الوجودية. فما كان يسميه "المشروع التبشيري"، والذي كانت توحيه فكرة الكهنوت بالذات، كان يجد دومًا تحقيقه وتجسيده المباشر خارج الكهنوت. عمليًا، إلى جانب ما كان يصفه بـ "الفكرة الكهنوت الباطنة، الحاضرة دومًا والبعيدة في آن"، كان بلوندل يشعر بظهور مشاريع فلسفية ودفاعية عن الإيمان المسيحي، كانت أطروحته فقط أولها. ولذا، مختصر القول، كانت هذه الفكرة – فكرة الكهنوت – تشكل في آن حافزًا وعائقًا أمام تحقيق بلوندل لدعوته: ولم يكن يستطيع لا أن يتمسك بها ولا أن يهرب منها.

من خلال مقاربة إغناطية النفحة، وقف بلوندل أمام التمييز والخيار الصعب، لا بين خير وشر، بل بين خيرين، بين نعمتين، وبين "حركتين إلهيتين". مما لا شك فيه أن الالتزام السخي الذي شعر أنه مدفوع إليه هو ثمرة الجاذبية الكبيرة التي ولدتها فكرة الكهنوت في حياته. لو كانت هذه الفكرة مجرد وهم، لما كان ممكنًا أن تضحي الزخم والدافع لعيش عملي ملموس في حياته. كانت فكرة الكهنوت بالنسبة له إلهامًا حمله إلى عتبة ما يسميه "المشروع الكبير" الذي قبله بلوندل بمطواعية مجبولة بالخوف والرعدة.

يخبر موريس بلوندل في مذكراته الروحية أنه قام في ليلة مصليًا، طالبًا من الله نور كلمة، وفتح الإنجيل فوقعت عيناه على هذه الكلمات: " Duc in altum et extende retia " أي "غوصوا في العمق وألقوا الشباك للصيد" (راجع لو 5، 4). إنطلاقًا من هذه الكلمات فهم أن المشروع الذي يدعوه إليه الله هو الانكباب على درس "فلسفة الفعل".

اختيار "الفعل" كموضوع للدرس هو خيار استلهمه من الإنجيل الذي يربط بالفعل وحده "سلطان الكشف عن حب الله والحصول عليه".

أدرك بلوندل أن معيار فعالية حدسه كان القبول الذي ستلقاه أطروحته، التي لم تكن بالنسبة له مجرد "تمرين مدرسي". وقد كان حدث الدفاع عن الأطروحة تأكيدًا وتثبيتًا أن حلمه لم يكن وهمًا. فقد بين له القبول الواسع أنه يستطيع أن يرجو حقًا أنه يمكن أن يُؤخذ مفهوم الوحي فلسفيًا بعين الاعتبار، وأن الجو الإلهي المسيحي ليس مجرد بيئة وإطار داكن بل هو إطار يمكن فيه أن يقوم المرء بمقاربة وبلقاء فلسفي. لقد وضعته أطروحته أمام واقع ملموس: وهو أنه يستطيع "أن يتكلم إلى الأشخاص المهمين عما لا يهمهم". وبما أنه كان يتمتع بالاستعداد الفلسفي اللازم لكي يحمل البعد الإلهي إلى ميدان الفلسفة، أدرك أنه لا يمكنه ألا يقوم بذلك دون أن يكون قد خان واجبه الديني.

مع ذلك، يعبّر بلوندل عن جهوزية لإماتة زخمه الطبيعي للوصول إلى خيار "لامبالاة مطواعة واستسلام أكمل لله". يشعر فيلسوف أكس أن بروفنس، بكلمات أخرى، أنه مستعد لكي يضحّي بخدمته الفلسفية لصالح الكهنوت من خلال القيام بإخلاء ذات مزدوج، ولكنه يتساءل عما إذا كان هذا "التخلي الكلي" هو حقًا ما يريده الله منه.

تلقي كلمة إنجيلية أخرى نورًا حول إمكانية قراءة معكوسة لمسيرته: "أما يسوع فقال له: إذهب إلى بيتك وإلى أهل دارك وأخبرهم بما فعل لك الرب وبرحمته لك" (مر 5، 18 – 19). النص الذي يتحدث عنه بلوندل هو نص شفاء الممسوس، الذي يطلب بعد الشفاء إلى يسوع أن يبقى معه، ولكن الرب يرده إلى بيته لكي يعلن رحمة الرب بين أهله.

قام بلوندل بتقييم فرح الكهنوت، وإمكانية التواصل بشكل أعمق مع الله والنفوس، وقيّم أيضًا العمل الخفي، المستوحش والجاف الذي يقوم به في عمله الفلسفي. ووقف أمام هاتين الحالتين في تجرد مطلق ولامبالاة سليمة، وتشهد على ذلك الرسالة التي وجهها إلى المونسينيور بياي راعي سان-سوبليس. فصفحات هذه الرسالة تشهد بأن بلوندل قد وضع نصب عينيه إرادة الله مميزًا بين نوعين من عيش الكهنوت: عيش الحالة الكهنوتية، أو "حفظ موهبة كهنوتية في الحياة العلمانية".

إن جواب المونسينيور الإيجابي سيسمح لبلوندل أن يعتنق خيار البقاء خارج المعبد لكي يرشد إليه أولئك الذين هم في خارج الإيمان، حافظًا في قلبه بعرفان تقوي وبحمية متقدة، مسحة فكر الكهنوت التي فتحت له المسيرة التي لم يكن الكهنوت خاتمتها.

فكرة الكهنوت التي حركت مسيرة بلوندل ستتجسد في "كهنوت الفكر"، وسيعيشها الفيلسوف كخدمة متواضعة تتجسد في البحث، في الدفاع عن المسيحية، وفي الشهادة النبوية التي ستحمل ثمارها في تفكير الكثير من كبار الفلاسفة واللاهوتيين (من أشهرهم: هنري دو لوباك، أوغوست فالنسين، غاستون فسّار، هنري بويار، لوسيان لابرتونير، جال باليار، بول أرشامبو…)، وأيضًا ستحمل خصب ثمار روحية، منها ارتداد محمد علي مولى زاده، التركي المرتد عن الدين الإسلامي والذي سيضحي فيما بعد المونسينيور بول مولى.

بحق قيل في بلوندل: "هذا المفكر هو كاهن (مثل كلوديل في إطار الشعر) يتشح حلة الكهنوت في محفل الفلاسفة واللاهوتيين، حاملاً في قلبه سرًا: يحمل مثل القديس ترسيسيوس خبز القربان المقدس، رفيق الدرب. يُنقّل الافخارستيا من صفحة إلى صفحة مؤشرًا ضعيفًا ونيّرا، ضيفًا مجهولاً يتخفى وراء أسماء مستعارة عديدة".

ميتافيزيقا الإماتة

إن موهبة بلوندل الكهنوتية في حالته العلمانية لا تتوقف على شماسية الحقيقة الفكرية، بل تدخل أيضًا في إطار تحويل وجوده الشخصي في بعدين متكاملين: روح الإماتة والمطابقة الافخارستية.

في اعتناقه لموقف الدفاع الفلسفي عن الإيمان المسيحي، كان بلوندل يعي الجفاف والصعوبة التي كان سيواجهها. وسيرة حياته تشهد أن هذه الصعوبات كانت حقيقة. ولكن روح الإماتة عند بلوندل لا ينحصر في الإطار البطولي الأخلاقي أو التقشفي؛ بل يأخذ روح الإماتة عنده طابعًا أنطولوجيًا ويضحي بذلك شرطًا لا بد منه لاكتمال الفعل والمصير البشري.

اعتبار هذا العنصر في وجود بلوندل يلقي الضوء على فهم أهمية الإماتة والتضحية في فلسفته وفي فهمه للانفتاح على الله. إذا ما نظرنا إلى مؤلفه "ألفعل" (l’Action)، نرانا أمام ضرورة حل إيجابي لقضية الفعل، وهذا الحل يظهر في إمكانيتين إثنتين: درب الظواهر وحياة الحواس، أو درب الكائن وحياة التضحية. من خلال تحليل الشروط الكامنة في الفعل، يبين بلوندل في المقام الأول، نقص الطبيعة البشرية. إن اختبار النقص بحد ذاته هو خبرة ألم وجودية، والألم بدوره هو علامة على أن الإنسان يحتاج إلى شيء أكثر. الألم هو أيضًا علامة على أن هناك "عملية ولادة تجري في باطننا"؛ بكلمات آخرى، الألم هو أوجاع المخاض التي ترافق ولادة الفعل الكامل، فعل الله في حضن الفعل البشري لأننا، كما يصرح بلوندل بالذات: "يجب علينا جميعنا أن نولّد ذواتنا من خلال ولادة الله فينا".

من ناحية أخرى، يوضح بلوندل حاجة الإرادة إلى ما يفوق الطبيعة لكي يتمكن الفعل أن يطابق آفاق الوعي والضمير. فقط إذا ما أفسحنا المجال للآخر في ذواتنا نستطيع أن نجد ملء مصيرنا، ومطابقة دينامية إرادتنا. هذا وإن إفساح المجال للآخر يعني إفراغ الذات والتخلي عن الذات. هذا هو المعنى العميق للإماتة: "ما يولد فينا السعادة، ليس ما نملك، بل ما نتجرد عن ملكيته. فنحن لا نحوز على اللامتناهي، بل نفسح له المجال لكي يدخل فينا من خلال إفراغ الذات والإماتة".

 

المطابقة الافخارستية

يشرح بلوندل أن أفعالنا تتضمن لامتناهيًا ثابتًا، وأنه من الضروري أن ننقص لكي ينمي الله فينا، لأنه بقدر ما هناك أقل نحن، بقدر ذلك هناك أكثر هو، أكثر الله. أمينًا إلى هذه النظرة يصرح بلوندل أنه جاهز لكي يتحمل "الاستشهاد الفكري"، جهوزية تتجلى في استعداديته للتخلي عن برنامجه الفلسفي-الدفاعي لكي يعيش إرادة الله.

هذه الجهوزية ترجمها بلوندل في قناعته بأن ليس عمله هو الذي يولد ارتداد الآخرين إلى المسيح بل قبوله لعمل الله فيه. فقط من خلال إخلاء الذات، يستطيع الإنسان أن يقبل في ذاته تنازل الله وأن يُشرك به الآخرين؛ وفقط عندما يُفسح المجال لله لكي يؤله الإنسان، يستطيع الإنسان أن يؤنسن ما هو إلهي. يقول بلوندل في هذا الصدد: "نعم، للإنسان دور كبير: يترتب عليه أن يؤنسن ما هو إلهي، كما أن الله ألّه ما هو إنساني. فلنعش في المسيح لكي يعيش المسيح في الإنسان، في الفيلسوف". بعد أن تثبت من دعوته الفلسفية، عاش بلوندل دعوته بزخم كهنوتي في الإخلاص الصعب والتجرد الجاف.

الإماتة والألم هما وسيلة لا غاية. الغاية من إفراغ الذات هي قبول فعل الله المطلق. هذا المفهوم الذي يعبر عنه بلوندل في لغة فلسفية في أطروحة "الفعل"، يظهر في تعابير مسيحية وافخارستية واضحة في مذكراته، حيث نرى تمحورًا افخارستيًا في الحديث عن الفعل الكامل. الافخارستيا هي الكلمة الإلهية التي تنزل في عمق نفوسنا وتضحي "خميرة ترفع كياننا في عمل تخمير غير منظور". عندما نقبل الافخارستيا يتم "تحول مادتنا اللحمية في عمل تحول إلهي بطيء".

يلخص بلوندل أفكاره في مذكراته قائلاً: "أود أن أُبيّن أن الطريقة المثلى للكيان هي الفعل، والطريقة المثلى للفعل هي الألم والحب، وأن الطريقة المثلى للحب هي الاتحاد بالمسيح". وإذ يدرك فراغ المقاصد البشرية الصرفة، يحوّل بلوندل نواياه إلى صلاة: "إلهي، ليتني أكون خبزًا طيبًا تتلون عليه كلمات التقديس".