تحديات أمام الكاهن

المقدمة : العالم في تطور وتغير سريع

          انتهت الحرب العالمية الثانية سنة 1945 ميلادية سقط ستون مليوناً من البشر ضحايا لها ، دمرت بلدان ، أصيب الإنسان بخيبة أمل أمام الكارثة الإنسانية ، أحاط الشك بقدرة الأديان على تغيير طبيعة الإنسان ، بدا انحسار الحس الروحي أو "علم الميتاقيزيقا" وتساءل ما جدوى ذلك كله ، طوت صفحات تاريخ قديم صاغته قيم أخلاقية ودينية ، أتجه العالم إلى التوغل في العلم والاقتصاد ، بدأت ملامح حضارة جديدة ، تبني العالم من جديد على أسس علمية ، سرى طيف العولمة حول العالم ، وبدت العلمانية طوق النجاة للأمم الغارقة في التراث الماضي ، وتعالت أصوات المدافعين عن حقوق الشخص البشري ، وبخاصة عن حريته وحقه في الاستمتاع بالحياة ، نهضت حضارة تختلف عن سائر الحضارات القديمة وإن كانت جذورها ممتدة في تلك الحضارات ، تجاسر الإنسان في غزو الفضاء ، حتى وطأة قدماه سطح القمر والمريخ ، ولا زال طموحه مندفعاً بلا قيود ، وعبث الإنسان بجسده بعلم الهندسية الوراثية دون خشية أو رقيب ، وأشتد زحام سوق الاستهلاك وأصبح لكل سيء ثمن ، وبات هدف الحياة المتعة والامتلاك والسلطة ، وغاب الوعي الإنساني بالمعنى الإلهي لوجود هذا الإنسان وغاية خلقه ، وسقطت مثل وأخلاق وانتصبت قيم بديلة وبدا العالم كأنه ماضٍ إلى عالم خالٍ من النبض الروحي .

          وذات يوم ( 11 سبتمبر 2001 ) استيقظت الدنيا على كارثة هزت هذه الحضارة الهشة ، واضطربت أقوى دولة في العالم ، وتنبه البشر كافة إلى أن الدين لازال يلعب دوراً خطيراً في حاضر ومستقبل البشرية ، التي شعرت بحاجتها الشديدة والملحة إلى إعادة النظر في مسيرتها ، وإذا صراع ديني خطير ، وحملت الكنيسة من جديد مشعل نور الإنجيل ، فقد بات الأمر جد خطير ، فالإيمان لا يحتمل التردد والخوف ، فإما أن يكون الإنسان مؤمناً صادقاً ، فالعقيدة التي لا تعاش تموت وتندثر ، وإما أن يعيش مجموعة من الغرائز والرغبات تنتهي عند باب القبر ، ووقف الكاهن المسيحي أمام ضميره : نكون أو لا نكون .

* * * * *

أولاً : تحديات أمام الكاهن الإنسان

1 –      الإحساس بالعزلة

          خلال قرون طويلة وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية على وجه التقريب ، ظل رجل الدين ، وبخاصة الكاهن يحظى بالإجلال والتكريم من المجتمع البشري ، له زيه الخاص ومكانته المتميزة ، له رهبته ونفوذ على الضمائر والوجدان ، لكن تلك الأمور بدت تختفي ، لم يعد العالم يحترم المظهر الخارجي ، فقد وعى أن الإنسان جوهر من الأخلاق والسلوك والممارسة لا مجرد ملابس وعلامات خارجية ، يحترم الكاهن الصادق في إيمانه وأعماله ، حتى في العالم الثالث لم يعد يثير احترام الأجيال الصاعدة الثوبُ والرمز ، بل يثيرها الصدق والأمانة والعمل ، وبدا كثيرون من رجال الدين والكهنة يشعرون بالعزلة النفسية عن مجتمعهم ، ثقافتهم لا تؤهلهم للمشاركة في قضايا المجتمع ، تنشئتهم لا تسمح لهم باختراق هموم هذا المجتمع ، ثقافتهم الكنسية المحدودة في علوم اللاهوت والطقوس تبدو بعيدة كل البعد عن علوم عصر الفضاء المفتوح والفضاء والوراثة والزواج والاختلاط بما يتعارض مع ثقافتهم ، وانتشر تيار الحوار المسكوني والديني ، والتقى خصوم الأمس ، أصحاب الأديان والمذاهب وجهاً لوجه ، وشعر الكثيرون بالغربة والعزلة ، هبت رياح التغيير على عقل وفكر العالم ، لم يكن الكاهن على استعداد للمواجهة ، لم تسعفه ثقافته على استيعاب هذا الانقلاب الجذري في فكر العالم من حوله ، فانطوى على ذاته ، يتمسك بالطقوس آخر معاقله ، يخشى اختراق عقل العالم ، فشعر بالوحدة النفسية ، يقرأ قليلاً أو قد لا يقرأ ، تشده وسائل الإعلام التي برعت في تقديم عالم جديد ، وضعف نفوذه عند الناس ، يعيش في حيرة العزلة والفردية إن لم يكن في الإحباط والقلق .

* * * * *

2 –      تحد المجتمع الاستهلاكي وحضارة المتعة

          العزلة النفسية والثقافية تؤدي إلى الخوف من الحاضر والمستقبل والخوف يدفع إلى البحث عن معين أو سند ، أنه الثراء وامتلاك المال من جهة ، والاستعباد لحضارة المتعة والمجتمع الاستهلاكي ، لقد خلق الإنسان ووهب الحياة دعوة إلهية ، وله الحرية أن يملأ هذه الحياة ، بالتصوف والزهد ، أو بالعلم والمعرفة ، أو بالمال والمتعة ، لابد أن يعطي لحياته معنى وأن يضع لها غاية ، وإذا فرغ الكاهن من حياة روحية رسولية لها معنى وغاية ، فقد هويته وسبب كهنوته ، عاش في ازدواجية مدمرة ، ممزقاً في أعماقه ، فقد المعنى والغاية لوجوده ، وهذا هو التحدي المعاصر للكاهن ، إن العالم يئن ويضج بالشكوى من شدة الفساد وطغيان سلطان المتعة والرغبة في الثراء ، وفي غمرة هذا الزحام في مختلف أنحاء الأرض ، يجد الكاهن نفسه في تجربة شديدة الوطأة هل يدخل سباق الثراء والمتعة أم يحمل رسالة لهذا الذي تشكو منه المجتمعات أي الفساد والظلم والأنانية ، هل ينضم إلى صفوف الرسل المجاهدين الذين يرفضون عالماً يتعبد للمتعة العابرة ولحضارة الموت كما دعاها البابا يوحنا بولس الثاني ، أم يظل شاهداً على روعة الإيمان وبهاء النقاء ورجاء الفضيلة .

* * * * *

3 –      تحد ضد التبتل والحياة المكرسة

          قد يظن البعض أن الانفلات الأخلاقي ، والإباحية والتردي في أمور المتعة الجنسية أمر جديد في عصرنا أو أنها وصمة عار لحضارة العصر ، تعالوا نتوغل في التاريخ ، نجد أن تجارة الرقيق وسوق الجواري ، لم يمنع الأمر رسمياً إلا في القرن التاسع عشر ، وحتى يومنا هذا هناك دول لا تزال تمارس تجارة الرقيق وشراء العبيد ، وإن اختلفت الوسائل ، في الحضارة الرومانية بلغ الانفلات الأخلاقي ذروته وأهينت المرأة وكان للرجل الحق التخلص من بناته دون عقاب ، في الحضارة المسيحية لم تستطع الكنيسة منع تجارة الرقيق ، وكان الملوك والأغنياء لا يعبأون بالمبادئ المسيحية كثيراً ، في الحضارة العربية وجد المغول عند استيلائهم على بغداد أربعة آلاف جارية في قصر أخر الخلفاء العباسيين ، وفي الحضارة المعاصرة أبيحت تجارة الجنس في مختلف دول العالم ، أما الجديد في عصرنا فهو الإعلام الذي أتاح للبشر أن يشاهدوا الانفلات الأخلاقي بصورة بشعة دمرت معنى الزواج ، والأسرة ، والتضحية من أجل الأطفال ، فهذا المناخ العالمي الذي تنتشر فيه روائح الفساد الأخلاقي والتحرر في العلاقة بين الرجل وبين المرأة ، كيف يفهم معنى التبتل والتكرس للرسالة مدى الحياة ؟ وهذا تحدي لحياة الكاهن ، ليس جديداً في مسيرة المسيحية لكنه أصبح أكثر جراءة وتبجح ، يخترق حياتنا وسلامنا وعائلاتنا يصور للعالم أن حياة التبتل نوع من الجنون بل نوع من الشذوذ وأحياناً نسمع أن التبتل والتكرس للرسالة أمر يضاد طبيعة الإنسان ، تضخمت الرزيلة ، وأتسع نطاق التسيب لكن ذلك لم يستطع أن يخفي جمال حياة التبتل ، وشهادة قديسين وقديسات ، ومكرسين ومكرسات في أنحاء العالم أن التحدي قائم وعلى أشده ، لأن الفراغ الروحي وضعف التنشئة الإيمانية ، وكثرة الضغوط النفسية والاقتصادية وتراكم الهموم قد يدفع الإنسان إلا أن يلقي بنفسه في بحار المتعة العابرة .

          إن الكاهن أمام ذلك كله ، عليه أن يحدد كيف يملأ حياته وعقله ووجدانه وأيامه بما يصونه من الانزلاق في حضارة المتعة .

* * * * *

ثانياً : تحديات أمام الكاهن رسول المسيح

1 –      الازدواجية في الحياة

          تشدني للتأمل عبارة بولس الرسول : "بولس أسير يسوع المسيح" ( أفسس 3 : 1 ) دخل بولس الأسر ، قيد نفسه بقيود المسيح ، تنازل عن إرادته وحريته ليحقق إرادة المسيح ، أخلى ذاته من ذاته ، ليمتلأ بالمسيح … أروع ما في عبارة بولس أنه لا يعيش ازدواجية ، فهو قد استغنى بالمسيح عن العالم واستغنى العالم عن بولس الضابط ، الحاخام ، الفريسي ، ما أحوج كاهن العصر أن يتأمل هذه الصورة البلاغية اللاهوتية العميقة ، فالازدواجية من سمات حضارة عصرنا بمعنى أننا وبخاصة في عالمنا الثالث لا تملك شجاعة التعبير عن ذاتنا بحريتنا والظروف المعيشية لا تسمح لنا باختيار حياتنا أو تبديلها ، وقد تضيع حياة الإنسان بلا ثمرة إن عاش في ازدواجية غالية ، يتظاهر بالفقر وهو يمتلك الأرصدة في البنوك أو العكس ، يتظاهر بالعفة وهو غارق في وحل الرزيلة ، يتظاهر بالعلم والمعرفة وقد غاب عنه العلم الحقيقي ، يتظاهر بالتقوى والورع وهو لا يعتقد فيها ، قل لي بربك ما نوع هذه الحياة المزدوجة ، أنها انتحار صامت بطيء.

          بولس قد أعلنها بصراحة "أنا أسير المسيح" والفرق شاسع بين الضعف والخطأ وبين الاستكانة والاستسلام لحياة ممزقة ، ولن يستطيع إنسان مهما أوتي من موهبة أو قوة أن يعيش طويلاً ممثلاً ، أو مزدوج الشخصية ، وعلم النفس يقول : إن لم تكن تقياً ورعاً صالحاً وأنت تجلس وحدك في الحجرة فلست مؤمناً على الإطلاق .

* * * * *

2 –      تحدي في أن يصبح الكاهن واعظاً شارحاً للكلمة دون أن يلتقي بها ويحياها

          هناك فرق شاسع بين حفظ وترديد كلمة الله ، أو آيات الكتاب المقدس وبين الدخول في عمقها والالتقاء بها شخصياً والتأمل في معانيها ، لقد تكلم الشيطان مع المسيح بآيات من الكتاب ، وسقط وعاظ قديرون مشهورون في خطيئة الكبرياء وتركوا الكهنوت .

          إن العلاقة بين الكاهن وبين كلمات الكتاب المقدسة ليس علاقته بأي علم آخر ، أنها ليست نصوصاً للحفظ ، بل هي كلمات حياة نور ، واعتقد أن هناك تأثراً شديداً يلعب دوره في علاقتنا بالكتاب المقدس ، هو تأثرنا بالثقافة العربية ، أنها ثقافة الشعر والخطابة وحفظ النص وترديده ، والكتاب المقدس ليس نصاً للحفظ بل هو تيار روحي يحرك طاقة الروح ويصون الفكر ويمدنا بفكر المسيح وتوجهاته .

* * * * *

3 –      ضعف الثقافة اللاهوتية والعقيدة

          فرق شاسع بين الثقافة من جهة وبين الشهادة العلمية من جهة أخرى ، الشهادة علامة ودليل على أن الإنسان عبر مرحلة ثقافية معينة ، لكنها لا تؤكد كيف عبرها أو ما قدر ما أستوعبه ، أما الثقافة فهي نهر لا يتجمد ، ليس لها شواطئ تنتهي عندها ، أنها طاقة فكرية نكتسبها بالقراءة والمعاناة والتفكير والتحليل مدى الحياة ، عباس العقاد الأديب المعروف لم يحصل إلا على شهادة الابتدائية ، وسعد زغلول حصل على ليسانس الحقوق في عمر الأربعين …

          وعلوم اللاهوت والعقيدة ليست مجرد نظريات تقرأ أو مادة علمية ، بل هي تيار يغذي الإيمان ويقوي طاقة الصلاة والتأمل ، ويفيد كل الذين يقدمون الفكر المسيحي ويستمعون إليه ، ليس الكهنوت شهادة علمية أو مرحلة تنتهي بالسيامة ، إنما هو تيار فكري ينبغي أن يغمر الحياة ، ومنهج للسلوك والأخلاق ، إن تخصص الكهنوت هو "كلمة بولس أسير المسيح" بمعنى أن الكهنوت هو "الحياة مع المسيح" مع فكره ، وأخلاقه ، وهذا الأمر يحتاج إلى ثقافة ذاتية متصلة لا تنقطع دون أن نهمل ثقافة العالم المعاصر .

          لك أن تسمع العظات في الكنائس وشلالات الأحاديث في الفضائيات أخشى أن تكون فارغة من العمق اللاهوتي ومن الشهادة للإيمان المسيحي ، فهي في غالبيتها استعراض لمهارة المتحدث ، لا تصل إلى العقل والقلب ..

          الإعداد للكلمة من جهة ، واللقاء معها شخصياً من جهة أخرى .

* * * * *

الختام : أخيراً كيف نواجه هذه التحديات ؟

          أوجزها في نقاط تحتاج إلى تفصيل في مقال آخر

1 –     الارتباط الدائم والطاعة المقدسة للسلطة الكنسية

2 –     الالتزام بالقداس اليومي مهما تراكمت المسؤوليات

3 –     الارتباط بالكهنة الأخوة ارتباطاً حراً نقياً صريحاً

4 –     التثقيف الذاتي الدائم ، دون ملل لنكون أبناء عصرنا وثقافته ، وقراءة وثائق الكنيسة

5 –     وضع نظام يومي التزم به منذ الصباح حتى لا أترك حياتي ريشة في مهب المسؤوليات والهموم

6 –     الاحتفاظ بساعة يومياً أقله أجلس فيها إلى نفسي ، لمراجعة سلوكي وعلاقاتي

7 –     البعد التام عن مواطن التجربة ، فلا مخالطة للشر ، ولا مجاملة للرزيلة ، ولا تنازل عن القيم وذلك بروح التواضع

8 –     لحظات الصلاة ليست ترفاً في الحياة المسيحية ، بل هي مصدر أساسي للاستقرار النفسي والنمو الروحي

9 –     إكرام العذراء مريم ، أم النور ، الشفيعة القوية ، فالتحديات كثيرة وقوية وعلينا التضامن مع أخوتنا الكهنة لنساند بعضنا البعض متحدين مع السلطة الكنسية .

 

بقلم د. الأنبا يوحنا قلته

إعداد ناجي كامل-مراسل الموقع بالقاهرة