عظة البابا عشية عيد القديسين بطرس وبولس

"الكنيسة قوة تجدد عظيمة في العالم"

حاضرة الفاتيكان، الثلاثاء 29 يونيو 2010 (Zenit.org)

 ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها بندكتس السادس عشر خلال الاحتفال بصلاة الغروب الأولى في بازيليك القديس بولس خارج الأسوار بمناسبة عيد القديسين بطرس وبولس.

***

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء!

مع الاحتفال بصلاة الغروب الأولى، نستهل عيد القديسين بطرس وبولس. ويشرفنا القيام بذلك في البازيليك البابوية المكرسة لرسول الأمم، من خلال التأمل في الصلاة قرب ضريحه. لذلك، أرغب في تركيز تأملي الموجز على آفاق الدعوة التبشيرية الكنسية. وفي هذا التوجه، تصب الترنيمة الثالثة من المزمور الذي تلوناه والقراءة البيبلية. إن الترنيمتين الأولتين مكرستان للقديس بطرس. أما الثالثة المخصصة للقديس بولس فتقول: "أنت رسول الله أيها الرسول بولس القديس: لقد أعلنت الحقيقة في العالم أجمع".

وفي القراءة الموجزة المأخوذة من الجزء الأول من الرسالة إلى أهل روما، يعرف بولس عن نفسه كـ "الرسول المدعو والمفرز لإنجيل الله" (رو 1، 1). بولس بشخصه وخدمته وكل وجوده وعمله الجاد من أجل ملكوت الله، مكرس بالكامل لخدمة الإنجيل. في هذه النصوص، تلاحظ حركة لا يعتبر الإنسان محركها بل الله، نفس الروح القدس الذي يرشد الرسول على دروب العالم ليحمل البشرى السارة للجميع: وعود الأنبياء تتحقق في يسوع، المسيح، ابن الله الذي مات من أجل خطايانا وقام من بين الأموات لتبريرنا. شاول لم يعد موجوداً وبولس بقي حياً، بل المسيح هو الذي يحيا فيه (غل 2، 20) ويرغب في لم شمل جميع البشر. إن كان عيد شفيعي روما القديسين يثير التوتر المزدوج بين الوحدة والشمولية الذي تتصف به هذه الكنيسة، فإن السياق الذي نجد فيه أنفسنا في هذا المساء يدعونا إلى تأييد الثانية سامحين لأنفسنا إن جاز التعبير بالانجذاب نحو القديس بولس ودعوته الاستثنائية.

عندما انتخب خادم الله جوفاني باتيستا مونتيني خليفة لبطرس في أوج الاحتفال بالمجمع الفاتيكاني الثاني، اختار أن يحمل اسم رسول الأمم. في برنامج عمله في المجمع، دعا بولس السادس سنة 1974 إلى انعقاد جمعية سينودس الأساقفة حول مسألة التبشير في العالم المعاصر، وبعد مرور سنة تقريباً، أصدر الإرشاد الرسولي "التبشير في العالم المعاصر" (Evangelii Nuntiandi) الذي يبدأ بهذه الكلمات: "ما من شك في أن الالتزام بإعلان الإنجيل لشعوب زماننا الذين يحركهم الرجاء وإنما يقمعهم الخوف والأسى في الوقت عينه، هو خدمة تُقدم للجماعة المسيحية وللبشرية جمعاء" (رقم 1). كم هي مذهلة آنية هذه الكلمات! فيها، تبرز نزعة بولس السادس التبشيرية، ومن خلال صوته، التوق المجمعي العظيم لتبشير العالم المعاصر، التوق الذي بلغ ذروته في المرسوم "إلى الأمم" (Ad Gentes)، وإنما الذي يتخلل كل وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني، والذي أنعش في السابق فكر وعمل آباء المجمع الذين اجتمعوا ليمثلوا، بطريقة لم يسبق لها مثيل، الانتشار الواسع الذي حققته الكنيسة.

إن الكلمات لأعجز من أن توضح كيف نمى الموقر يوحنا بولس الثاني خلال حبريته الطويلة هذا المخطط التبشيري الذي يستجيب لطبيعة الكنيسة التي يجب أن تردد دوماً مع القديس بولس: "فما دمت أبشر بالإنجيل، فليس في ذلك فخر لي، لأنه واجب مفروض علي – فالويل لي إن كنت لا أبشر!" (1 كور 9، 16). لقد مثل البابا يوحنا بولس الثاني طبيعة الكنيسة التبشيرية "في حياته" من خلال الرحلات الرسولية وتشديد تعليمه على إلحاحية "تبشير جديد"، "جديد" ليس في المحتوى، وإنما في الاندفاع الداخلي المنفتح على نعمة الروح القدس الذي يشكل قوة الشريعة الإنجيلية الجديدة ويجدد الكنيسة دوماً؛ "جديد" في البحث عن أساليب تتوافق مع قوة الروح القدس، وتتلاءم مع الأزمنة والظروف؛ "جديد" لأنه ضروري أيضاً في البلدان التي سبق أن أُعلن الإنجيل فيها. الجميع يعلم أن سلفي أعطى دفعاً استثنائياً لرسالة الكنيسة، – أعيد وأكرر – ليس فقط من خلال المسافات التي قطعها، وإنما بخاصة من خلال الروح التبشيرية الحقيقية التي شجعته والتي تركها لنا إرثاً في فجر الألفية الثالثة.

من خلال هذا الإرث، استطعت أن أؤكد في بداية خدمتي البطرسية أن الكنيسة شابة ومنفتحة على المستقبل. وهذا ما أكرره اليوم قرب ضريح القديس بولس: الكنيسة هي قوة تجدد عظيمة في العالم، ليس بسبب قواها، وإنما بسبب قوة الإنجيل الذي ينفخ فيه الروح القدس، روح الله الخالق وفادي العالم. إن تحديات الزمن الحاضر تفوق بالتأكيد القدرات البشرية؛ هي التحديات التاريخية والاجتماعية، ولأسباب أعظم، إنها التحديات الروحية. أحياناً، يبدو لنا نحن رعاة الكنيسة أننا نعيد عيش تجربة الرسل، عندما تبع آلاف المحتاجين يسوع، فسأل: ماذا نستطيع أن نقدم لكل هذه الجموع؟ فاكتشفوا عجزهم عندئذ. لكن يسوع أظهر لهم في الواقع أن لا شيء مستحيل مع الإيمان بالله، وأن بعض الأرغفة والأسماك المباركة والمتقاسمة تشبع الجميع. لكن الجوع لم يكن – وليس – جوعاً للغذاء المادي: هناك جوع أعمق لا أحد يسده إلا الله وحده.

كذلك، يرغب الإنسان في الألفية الثالثة بحياة حقيقية وتامة. إنه بحاجة إلى الحقيقة والحرية العميقة والمحبة المجانية. وفي صحارى العالم المعلمن، تظمأ نفس الإنسان إلى الله، إلى الله الحي. لذلك، كتب يوحنا بولس الثاني: "ما تزال رسالة المسيح الفادي التي أوكلت إلى الكنيسة بعيدة عن التحقق"، وأضاف: "إن النظر إلى البشرية جمعاء يظهر أن رسالة مماثلة ما تزال في أوائلها، وأننا بحاجة إلى الالتزام بخدمتها بكل قوانا" (رسالة الفادي، Redemptoris Missio، 1). هناك في العالم مناطق ما تزال تنتظر تبشيراً أولياً؛ وهناك مناطق أخرى تم تبشيرها لكنها بحاجة إلى عمل أعمق؛ ومناطق تجذر فيها الإنجيل منذ عهد طويل وأسس تقليداً مسيحياً حقيقياً، لكن عملية العلمنة سببت فيها – بديناميكيات معقدة – خلال القرون الأخيرة أزمة خطيرة لمعنى الإيمان المسيحي والانتماء للكنيسة.

لذلك، قررت تأسيس هيئة جديدة على شكل مجلس حبري. وتقضي مهمتها بتعزيز تبشير متجدد في البلدان التي شهدت أول إعلان للإيمان، والتي تقوم فيها كنائس قديمة التأسيس، وإنما تشهد حالياً علمنة اجتماعية تدريجية ونوعاً من "غياب معنى الله"، مما يشكل تحدياً لإيجاد السبل الملائمة لإعادة اقتراح حقيقة إنجيل المسيح الخالدة.

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، إن الكنيسة الجامعة تواجه تحدي التبشير الجديد، مما يتطلب منا أن نستمر بالتزام بالسعي وراء الوحدة التامة بين المسيحيين. في هذا الصدد، ومن رموز الرجاء البليغة، تبرز عادة الزيارات المتبادلة بين كنيسة روما وكنيسة القسطنطينية بمناسبة أعياد شفعائهما القديسين.

لذلك، نرحب اليوم بفرح وامتنان متجددين بالوفد الذي أرسله البطريرك برتلماوس الأول الذي أوجه له أطيب التحيات. إنني أسأل أن تنال شفاعة القديسين بطرس وبولس للكنيسة جمعاء الإيمان الغيور والشجاعة الرسولية لتعلن للعالم الحقيقة التي نحتاج إليها جميعاً، الحقيقة أي الله، بداية ونهاية الكون والتاريخ، الآب الرحيم والأمين، رجاء الحياة الأبدية. آمين.

نقلته إلى العربية غرة معيط (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2010