عِيسو بين البركة والبكريّة 2

للاب هاني باخوم كيرولس

 

عِيسو بكر اِسحق، باعَ حق بكريّته لأخيه يعقوب، كما رأينا في المقالة السابقة "عِيسو واحتياج الآن"، بسبب احتياجه اللحظي، ولاقتناعه ان في النهاية كل شيء يتساوى ويزول مع الموت. نعم عِيسو يعتقد ان الموت هو النهاية! فما الفائدة أن أكون البكر أو الأخير؟ المهم أن لا أتألم، ان آكل  وأُشبع احتياجاتي الآن.

بعد ذلك، يذهب عِيسو ليتبارك من اِسحق ابيه قبل ان يموتَ. لكن يعقوب اخاه كان قد سبقه واخذ تلك البركة، اخذها بالحيلة. لكننا لا ننسى بالفعل، انه سبق واشترى البكرية من عِيسو. فيصرخ عِيسو منهاراً ويقول: "يعقوب، أخذ بكريّتي وألآن اخذَ أيضا بركتي" (تك 27: 36).

يا لصدمة عِيسو! عِيسو لم يدرك حتى الآن ماذا فعل. لا يدرك معنى انه باع بكريّته. لا يدرك معنى انه فضل ان يُشبع نفسه ورغباته على الحفاظ على البكريّة. فيذهب ليأخذ البركة من أبيه وكأن شيئاً لم يحدث. لكن بالفعل، هناك امرا كبيرا قد حدث.

عِيسو يبيع بكريّته ولا يدرك انه باع كيانه كابن. البكر ليس صفة نصف بها شخصاً ما! انه كيان؛ وجود؛ معنًى للحياة ورسالة. شيء مرتبط بالشخص نفسه. فهو ليس ابن ثم بكر. لا. هو الابن البكر. كما ان كيان الابن الاصغر في العائلة هو ابن اصغر، اراد ذلك ام لم يرد. عِيسو ببيعه لبكريّته يبيع ايضاً بنوته، يبقى في البيت، ولكن ليس كاِبن، بل كعبد. لأنه كان الاِبن الأكبر وباع كيانه، فما له الآن الا ان يكون عبداً لمن هو ابن. اسحق يعلن له ذلك قائلاً:" أخاك تَخدُم" (تك 27: 40). لا عقاباً له كونه باع البكرية، بل هذه هي حالته الجديدة لأنه بالفعل فعل ذلك. وهذا ما لم يفهمه عِيسو. عِيسو فصل البكرية اي كيانه كاِبن بكر عن الخيرات والبركات النابعة من ذلك. يريد الخيرات، يريد ان يستفيد من كونه ابن، انما لا يهمه ان يكون ابن. ما يهمه هو ان يحصل على شيء من ابيه، ولكن لا يهمه ان يكون ابناً لهذا الأب.

عِيسو لم يُقَيّم ويُقدر البكرية. لم يعرف انه اذا تخلى عنها، تخلى عن كيانه ولن تفيده بعد ذلك اية بركة او خيرات لأنه هو نفسه لم يعد كائناً. عِيسو رمز للإنسان الذي لا يعرف معنى انه خُلق على صورة والله ومثاله. صورة للإنسان الذي لا يعرف معنى انه دعي بالعماد ليكون ابن لله. فيتخلى عن كل هذا من اجل ان يتجنب الالم او الصعاب او الصليب. فيترك كيانه ويبيع نفسه لآخر من اجل متعة ما او عاطفة او بالاحرى هرباً من الم ما. وبعد ذلك يرجع باحثاً عن الخيرات الآتية من الله. وان حصل على كل البركات والخيرات الممكنة كي يحيا فبم تفيده؟ فعلاً ماذا يفيد الانسان اذا ربح العالم كله وخسر نفسه؟ المهم ان يعود اولاً ويكون ابناً. لأن في كيانه كابن تكمن كل الخيرات والبركات.

عِيسو هو كلمة جادة لكل انسان باع كيانه كأبن لله لانه لم يدرك ما يعنيه ان يكون ابن لله. والآن في وقت الصعوبة، وقت الاحتياج،عندما تجبرنا احداث الحياة ان نلجأ لمن هو اقوى منا، عندما نرى اننا لا نستطيع ان نحيا بذوتنا ونحتاج لآخر. بعد ان يجد الانسان في اوقات كثيرة خيبة الأمل من الأشخاص او الأشياء التي من اجلها باع بكريته، يركض لهذا الاله السحري ليأخذ منه بركة كي يلملم ما فعله بنفسه ويداريه ويمحوه. لكن اسحق يقول لعِيسو: لا! لم تعد عندي بركة لك، ماذا افعل لك يا بني؟ ايبدو هذا قاسياً؟! على العكس! قمة الرحمة. هكذا عِيسو يستطيع ان يفهم ان ما يحتاج اليه الآن ليس ببساطة بركة او خيراً ما. يحتاج ان يسترجع كيانه كاِبن بكر. عدم حصوله على البركة هي دعوة له كي يرجع ويتبارك بدرجة لا مثيل لها وليس بعقاب.

لكن عِيسو لم يفهم ذلك. فيقرر ان يقتل اخاه فهكذا لن يكون عبداً لأحد. لا يفهم ان الانسان يستطيع ان يكون عبداً وان كان وحيداً في هذه الدنيا، فعبوديتنا لا ترتبط بمن حولنا لكن باننا لم نعد ابناء.

عِيسو يبيع البكرية ويفقد بذلك البركة، لأن البركة هي ان يكون ابناً. عِيسو يأكل لكي لا يموت من الجوع فيجد نفسه حي بلا وجود.

يأكل، نعم يأكل! لكن هناك ابنٌ آخر له طعامُُُُُ آخر……الى المرة القادمة….

أيام مباركة…