زكريا: النبي والملك والكاهن

احسبني معهم

                                                                         إعداد

الأب/ يوحنا زكريا نصرالله

زكريا

        اسم عبري معناه "يهوه يذكر" أو "الرب يذكر" وهو اسم كثير الورود في الكتاب المقدس حيث يطلق علي نحو اثنين وثلاثين شخصاً، فهو اسم:

(1) أحد رؤساء سبط رأوبين في الوقت الذي غزا فيه تغلث فلاسر إسرائيل (1 أخ 5: 5- 7).

(2)  زكريا بن مشلميا من بني قهات بن لاوي، وكان بواباً للباب الشمالي من خيمة الاجتماع في أيام داود الملك (1 أخ 9: 21، 26: 2, 14).

(3)  زكريا بن يعوئيل أول إسرائيلي سكن في جبعون (1 أخ 9: 35- 37)، ويسمي أيضاً "زاكر" (1 أخ 8: 31).

(4) أحد المغنين بالرباب الثواني من اللاويين الذين عينهم داود الملك للغناء احتفالاً بإحضار تابوت العهد إلي مكانه الذي أعده له في أورشليم (1 أخ 15: 3, 14, 18, 20) وأصبح خادماً أمام تابوت الرب "لأجل التذكير والشكر وتسبيح الرب إله إسرائيل" (1أخ 16: 4, 5).

(5)  أحد الكهنة الذين كانوا ينفخون بالأبواق امام تابوت الله عند إحضاره من بيت عوبيد أدوم (1 أخ 15: 24).

(6)   زكريا بن يشيا من بني قهات وأحد اللاويين في أيام داود الملك
(1 أخ 24: 25). ويظن البعض أنه هو نفسه الذي سبق ذكره في (4).

(7)   زكريا الابن الرابع لحوسه من نسل مراري بن لاوي، وكان أحد البوابين في عهد داود الملك (1 أخ 26: 11).

(8)   زكريا الذي كان ابنه "يدو" رئيساً لنصف سبط منسي في جلعاد في زمن داود الملك (1 أخ 27: 21).

(9)   أحد رؤساء يهوذا الذين أرسل إليهم يهوشافاط الملك- في السنة الثالثة لملكه- أن يعلمّوا في مدن يهوذا ومعهم بعض اللاويين، "فعلّموا في يهوذا ومعهم سفر شريعة الرب وجالوا في جميع مدن يهوذا وعلَّموا الشعب" (2 اخ 17: 7- 9).

(10) أحد اللاويين من بني آساف، حل علي ابنه يخرئيل روح الرب في وسط الجماعة في عهد الملك يهوشافاط، لكي يشجعهم باسم الرب  في مواجهة الموآبيين الذين أتوا عليهم بجيش عرمرم، قائلاً لهم: "لا تخافوا ولا ترتاعوا بسبب هذا الجمهور الكثير، لأن الحرب ليست لكم بل لله" (2 أخ 20: 14, 15).

(11)  أحد أبناء يهوشافاط الملك، وقد قتله أخوه يهورام عندما خلف أباه علي العرش (2 أخ 21: 2-4).

(12) زكريا بن يهوياداع الكاهن في عهد يوآش ملك يهوذا (2 أخ 22: 1-12، 24: 15، 16)، فهو ابن يهوسعة أخت أخزيا الملك، وعليه كان زكريا ابن عمه الملك يوآش. وحدث بعد موت يهوياداع، أن ارتد الشعب عن الرب، حتي "لبس روح الرب زكريا بن يهوياداع الكاهن فوقف فوق الشعب وقال لهم: "هكذا يقول الله: لماذا تتعدون وصايا الرب فلا تفلحون. لأنكم تركتم الرب قد ترككم. ففتنوا عليه ورجموه بحجارة بأمر الملك في دار بيت الرب. ولم يذكر يوآش الملك المعروف الذي عمله يهوياداع أبوه معه، بل قتل ابنه. وعند موته قال: الرب ينظر ويطالب" (2 أخ 24: 20-22). والأرجح أن زكريا بن يهوياداع هو الذي قصده الرب يسوع بقوله للكتبة والفريسيين: " لكي يأتي عليكم كل دم زكي سفك علي الأرض، من دم هابيل الصديق إلي دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح" (مت 23: 35،انظر أيضاً لو 11: 51). فالرب يسوع يذكر أول شهيد للبر ذكر في أول أسفار الكتاب المقدس (تك 4: 8)، وآخر شهيد ذكر في آخر أسفار الكتاب المقدس في التوراة العبرية، وهو سفر أخبار الأيام الثاني. والأرجح أن زكريا كان حفيداً ليهوياداع الذي مات عن مائة وثلاثين عاماً (2 أخ 24: 15)، وان أبا زكريا كان اسمه برخيا بن يهوياداع.

(13) زكريا الفاهم بمناظر الله الذي كان مشيراً صالحاً للملك عزيا، فكان الملك ناجحاً في أيام زكريا هذا (2 أخ 26: 56).

(14) زكريا بن يربعام ملك إسرائيل، الذي خلف أباه (2 مل 14: 29)، وسنكتب عنه بالتفصيل.

(15) زكريا جد الملك حزقيا لأمة "أبي" (2 مل 18: 2) أو "أبية" (2 أخ 29: 1).

(16)  أحد اللاويين من بني آساف ممن عاونوا الملك حزقيا في تطهير بيت الرب (2 أخ 29: 13-15).

(17) زكريا بن برخيا أحد الشاهدين الأمينين اللذين أشهدهما إشعياء النبي- بأمر الرب علي النبوة بمولد أبنه "مهير شلال حاش بز" وذلك من قبل أن يُحبل به (إش 8: 1-4). وقد يكون زكريا هذا هو نفسه المذكور عالية في (16).

(18) أحد القهاتيين من بني لاوي ممن أشرفوا علي الرجال الذين قاموا بترميم الهيكل في أيام يوشيا الملك (2 أخ 34: 12).

(19) أحد رؤساء بيت الله في عهد يوشيا، الذي قدم لهم الرؤساء التبرعات لعمل الفصح (2 أخ 35: 8).

(20) زكريا من بني فرعوش من بني شكنيا، وقد رجع ومعه من الذكور مئة وخمسون من عشيرته من بابل مع عزرا الكاهن في عهد الملك أرتحشستا (عز 8: 3).

(21) زكريا بن باباي وقد رجع ومعه ثمانية وعشرون من الذكور من عشيرته من بابل مع عزرا في عهد ارتحشستا الملك (عز 8: 11).

(22)  أحد الرؤساء الذين أرسلهم عزرا إلي إدو الرأس في المكان المسمي كسفيا لإقناع إدو وإخوته النثينيم ليأتوا بخدام لبيت الله (عز 8: 16). وقد يكون أحد المذكورين في (20) أو (21) بعالية.

(23)    زكريا من بني عيلام الذين تزوجوا بنساء أجنبيات في زمن عزرا وأعطوا أيديهم إخراج نسائهم مقربين كبش غنم لأجل إثمهم (عز 10: 26).

(24) أحد الكهنة الذين وقفوا علي المنبر عن يسار عزرا الكاهن وهو يقرأ سفر شريعة الرب (نح 8: 4). وقد يكون هو المذكور في (22) بعالية.

(25) زكريا بن أمريا من بني فارص بن يهوذا، الذي سكن حفيده عثايا في أورشليم مع الرؤساء بعد العودة من السبي (نح 11: 4).

(26)    زكريا بن الشيلوني، من أسلاف معسيا بن باروخ من بني فارص أيضاً، من الرؤساء الذين سكنوا في أورشليم بعد العودة من السبي (نح 11: 5).

(27) زكريا بن فشحور بن ملكيا من أسلاف عدايا بن يرروحام من الرؤساء في أيام نحميا (نح 11: 12).

(28)    زكريا الذي كان يمثل عائلة عدو من الكهنة في أيام يوياقيم رئيس الكهنة (نح 12: 16). والأرجح أنه هو زكريا بن برخيا النبي .

(29) زكريا بن يوناثان من بني آساف الذي كان يقود أخوته من المغنين عند تدشين أسوار أورشليم في زمن نحميا (نح 12: 35, 36).

(30)  أحد الكهنة الذين كانوا يضربون بالأبواق عند تدشين أسوار أورشليم (نح 12: 41).

(31)    زكريا النبي بن برخيا بن عدو، وسنتحدث عنه بالتفصيل فيما يلي.

(32)    زكريا أبي يوحنا المعمدان، وسنتحدث عنه بالتفصيل فيما يلي.

 

سفر زكريا

هو السفر الحادي عشر بين مجموعة الأسفار التي تسمى (بالأنبياء الصغار),   والرأي السائد هو أن هذا السفر كتب في العصر الفارسي أثناء حكم داريوس الأول أو حوالي عام 520 ق.م. وقد ظن بعض الباحثين أن الإصحاحات من 9-14 كتبت قبل السبي وظن آخرون أنها كتبت في القرن الثاني ق.م. ولكن قد أيدت دراسة المخطوطات ودراسة النصوص، وحدة السفر وأنه كتب بقلم زكريا. وقد أشار إليه يشوع بن سيراخ إشارة ضمنية عندما ذكر سفر الأثني عشر وكان هذا حوالي 200 ق.م.
وينقسم السفر إلى أربعة أقسام:
أولاً: مقدمة السفر، سلسلة من ثمان رؤى ص 1: 1-6: 8.
ثانياً: أعمال رمزية تشمل تتويج رئيس الكهنة ص 6: 9-15.
ثالثاً: وفد من بيت أيل يسأل عن الصوم وجواب النبي ص 7 و 8.
رابعاً: سلسلة من النبوات تنبئ بهلاك أعداء الله ومجيء المسيا، ومجيء ملكوت الله ص 9-14 وفي هذا القسم نبوات عن المسيح وهي:
(1) دخول الانتصاري إلى أورشليم (9: 9 قارنه مع مت 21: 5).
(2) تسليمه بثلاثين من الفضة (11: 12 قارنه مع مت 27: 9 و 10).
(3) ثقب يديه (12: 10 و 13: 6 قارنه مع يو 19: 37).
(4) الراعي المتألم (13: 7 قارنه مع مت 26: 31).
(5) حكم المسيح يسود على الجميع (9: 10).

أولاً: أسلوبه واهميته:

      لأن النبي استخدم الأسلوب الرئوي، أطلق البعض علي هذا السفر اسم "رؤيا" العهد القديم. وتتميز إعلاناته النبوية بالبلاغة والإيجاز حتي ليسمي "موجز الأنبياء". ويتنوع أسلوبه من رؤي نبوية إلي صور رمزية إلي إعلانات مباشرة.

      ولقد عبَّر الكثيرون من العلماء- قديماً وحديثاً- عن صعوبة تفسير هذا السفر بسبب ما يحوطه من غموض. فذكر المفسرون اليهود أنهم لا يستطيعون سبر غور الرؤي والنبوات التي يشملها هذا السفر. وهو في لحمته وسداه يعتبر سفراً مسيانياً.

      ورغم أنه ليس من السهل تفسير كل ما جاء بالسفر، إلا أن هذا لا يقلل من أهميته. فيقولون عنه إنه "خلاصة أو موجز الأنبياء" فما يحويه من نبوات عن المسيا اكثر مما يتناسب مع حجمه، فلا يفوقه في كثرة النبوات عن المسيا ووضوحها سوي سفر إشعياء.

      ويتناول زكريا في نبواته المجيء الأول للمسيا وكذلك مجيئة الثاني. فيتكلم عن مجيئة وديعاً متواضعاً، وعن خدمته كراعٍ لشعبه، ورفضهم له، وضرب الله الآب "لرجل رفقته"، أي المعادل له ، وما ترتب علي ذلك من تبدد الغنم. ثم عن عودته في مجد إلي شعبه الراجع إليه،  وتحقيقه للسلام بين الأمم، وغير ذلك من النبوات عن الأزمنة الخيرة.

ثانياً: محتويات السفر:

      تنقسم نبوات زكريا إلي قسمين، الأول منها يشمل الأصحاحات الثمانية الأولي، والثاني يشمل باقي السفر أي الإصحاحات الستة الأخيرة. وكل قسم منهما يبدأ من زمنه ويمتد إلي المستقبل البعيد. (1) تتضمن الأصحاحات الثمانية الأولي، ثلاث رسائل متميزة أعلنها النبي في ثلاث أوقات مختلفة.

(1)   1: 1-6، كلمة الرب إلي زكريا في الشهر الثامن من السنة الثانية لداريوس الملك (أي 520 ق.م). أي أنها سبقت النبوات التي تلتها بثلاث شهور. وهي عبارة عن مقدمة عامة للسفر تحتوي علي دعوة من أقوي الدعوات في العهد القديم للتوبة والرجوع إلي الله.

(2)   1: 7-6: 15، وهي سلسلة من ثماني رؤي ليلية تنتهي بمنظر تتويج، وقد رآها زكريا في اليوم الرابع والعشرين من  الشهر الحادي عشر من السنة الثانية لداريوس الملك، أي بعد شهرين تماماً من وضع حجر الأساس لبناء هيكل الرب (حجي 2: 18, زك 1: 7). وكان الهدف من هذه الرؤي تشجيع الشعب لبناء بيت الله. وهي ثماني رؤي، نتعلم منها الدروس الآتية:-

(أ) رؤية الأفراس المختلفة الألوان (1: 7-17) ونعرف منها عناية الله بشعبه ورعايته لهم، فيقول لهم الرب مشجعاً: "قد رجعت إلي أورشليم بالمراحم فبيتي يُبني فيها يقول رب الجنود" (1: 16).

(ب) رؤية القرون الأربع والصنَّاع الأربعة (1: 18-21) ومنها نتعلم أن أعداء شعبه سيدمرون، بل سيدَّمرون أنفسهم في الواقع، فلا تعود توجد أي مقاومة لبناء بيت الله.

(جـ) رؤية الرجل الذي بيده حبل قياس (الأصحاح الثاني)، وهي نبوه عن أن الرب سيجعل اورشليم تُسكن كالأعراء من كثره  الناس والبهائم، وأنه سيحميها من كل أعدائها، حالما يبني بيت الرب، وستمتد المدينة وتتسع حتي تصبح مدينة كبيرة بلا أسوار لأن الرب سيكون "سيكون نار من حولها".

(د) رؤية يشوع الكاهن العظيم في ثياب قذرة حاملاً خطاياه وخطايا الشعب (الإصحاح الثالث)، ولكن تنزع عنه الثياب القذرة ويُلبس ثياباً مزخرفة وعمامة طاهرة، ويصبح رمزاً للمسيا الغصن الآتي.

(هـ) رؤية المنارة الذهبية والزيتونتين (الإصحاح الرابع)، ونتعلم منها أن المنظور يجب أن يخلي مكانه للروحي، وأنه من خلال "ابني الزيت" (4: 14)، زربابل الرجل العلماني، ويشوع الكاهن، سيظل نور بيت الله يضيء بلمعان باهر دائم، لأنه "لا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود" (عد6)، أي أن الرب هو الذي سيمنحهم القوة والشجاعة والمهارة لبناء بيت الله.

(و) رؤية الدرج الطائر (5: 1-4)، وتعني أنه عندما يُبني بيت الله وتنفذ شريعة الله ، تتطهر الأرض من الشرور.

(ز) رؤية الإيفة (5: 5-11) وهي صورة مجسمة للشر، وستحمل إلي أرض شنعار، أي أن الشر سيزال فعلاً من البلاد حالما يبني الهيكل.

(ح) رؤية المركبات الأربع (6: 1-8). وتعني أن عناية الله ستحل فوق بيت المقدس، وأن شعبه- وقد تطهروا من خطاياهم- سيسكنون آمنين فيه.

ويعقب هذه الرؤي الثماني، منظر تتويج يهوشع الكاهن العظيم رمزاً للمسيا الكاهن الملك الذي اسمه "الغصن" (6: 9-15).

(3)   وفي الإصحاحين السابع والثامن نجد جواب زكريا علي مبعوثي بيت إيل، فيما يتعلق بالصيام، وكان ذلك في اليوم الرابع من الشهر التاسع من السنة الرابعة لداريوس الملك (أي في 518 ق.م.)، فقد اعتاد اليهود أن يصوموا في ذكري الأيام البارزة في تاريخ مدينتهم المقدسة: أ- الشهر الرابع الذي استولي فيه نبوخذنصر علي أورشليم (إرميا 52: 6)، ب- الشهر الخامس الذي أحرق فيه الهيكل (إرميا 52: 12,13). جـ- الشهر السابع الذي قتل فيه جدليا (إرميا 41: 2). د- الشهر العاشر الذي بدأ فيه حصار أورشليم (2 مل 25: 1).

      وهناك أربعة أقسام لجواب النبي، تبدأ جميعها بعبارة: "ثم صار إلي كلام الرب" (أو ما يشببها- انظر 7: 4, 8، 8: 1, 18)، ومنها نتعلم:

أ- أن الصيام لا قيمة له إلا بالنسبة لهم، فالله يريد الطاعة (7: 4-7).

 ب- أن يتعظوا بما حدث مع آبائهم، فقد أهملوا العدل والرحمة، فأوقع الله بهم قصاصه (7: 8- 14). جـ- أن الرب ينتظر أن يرجع إلي أورشليم لينقذ شعبه بالحق والقداسة، وبدلاً من اللعنة ستكون البركة، وعوضاً عن الشر سيكون الخير (8: 1-17).

د- ستتحول أيام صيامهم إلي اعياد طيبة وستأتي أمم كثيرة في ذلك اليوم ليطلبوا رب الجنود في أورشليم (8: 18- 23).

(2) الإصحاحات 9-14:  ولا يوجد في العهد القديم جزء يحوي من الإعلانات المتعلقة بالأخرويات مثلما نجد في هذه الإصحاحات الستة الأخيرة من نبوه زكريا، حيث نري فيها:

أ-   قضاء الله علي أعداء شعبه في ضوء مجيء رئيس السلام (9: 1- 17).

ب-  خلي الرعاة الأشرار المكان للمسيا الراعي الحقيقي الذي سيجمع شعبه من كل مكان تشتتوا إليه (10: 1-12).

جـ- الراعي الصالح يخزي الرعاة الأشرار، ولكن يرفضه القطيع الذي سيعاني تحت يد راعٍ شرير (11: 1- 17).

د- ستنظر أورشليم في ضيقتها إلي من طعنه شعبها، وتتوب توبة صادقة بحزن عميق (12: 1-14).

هـ- تنقطع النبوة اليهودية، عندما يُضرب الراعي الصالح، ويُفتح الينبوع الذي يطهِّر من الخطية والنجاسة (13: 1-9).

و- وأخيراً يكشف النبي- في صورة رائعة- الستار عن مجئ المسيا ثانية إلي جبل الزيتون، إلي شعبه المحاصر، ويقضي تماماً علي العدو، ويطهِّر الأرض لتكون لائقة بقداسة الله (14: 1-21).

فالسفر يبدأ بدعوة للتوبة والقداسة، ويختم بتحقيق هذه القداسة في ملك المسيا، ملك البر والسلام.

ثالثاً: الكاتب ووحدة السفر:

      لا خلاف في أن زكريا النبي هو كاتب الثمانية الإصحاحات الأولي، ذلك في الفترة التي يتحدث عنها الإصحاحان الخامس والسادس من سفر عزرا، رغم أن البعض حاولوا أن يميزوا بين زكريا صاحب النبوات وزكريا صاحب الرؤى.

      ولكن المشكلة تدور حول الإصحاحات الستة الأخيرة، فيري كثيرون أن هذه الإصحاحات ليست من كتابة زكريا، ولا تشكل وحدة فيما بينها. والحجج التي يقدمونها تتلخص في الآتي:

(1)     اختلاف اللهجة بين الإصحاحات الثمانية الأولي والإصحاحات الستة الأخيرة، فالإصحاحات الأولى تمتلئ بالرجاء والوعود، بينما الأخيرة تتحدث عن رعاة أشرار، وتنذر بهجوم العداء، كما إنه ليس بها أي إشارة إلي إعادة بناء الهيكل.

(2)     توجد إشارة في 9: 13 إلي اليونان كالقوة البارزة أمام زكريا وليست فارس.

(3)     الحط من قدر النبوة في الإصحاح الثالث عشر، والصور الرؤية في الإصحاح الرابع عشر مما يدل علي كتابتهما في تاريخ متأخر.

والحجتان الأوليتان تفترضان أنه لو أن زكريا هو الذي كتب هذه الإصحاحات، فلابد أنه كتبها نحو الوقت الذي كتب فيه الإصحاحات الأولي. ولكن لا سبيل أمامنا لمعرفة المدة التي تنبأ فيها زكريا، ولكن هناك أدلة علي أنه كان صغيراً عندما بدأ يتنبأ (انظر زك 2: 4) في 520 ق.م. وقد ظل إرميا يتنبأ طيلة أربعين عاماً. ولو أن زكريا تنبأ بهذه الإصحاحات في شيخوخته، لكان معني ذلك أنه تنبأ بها في وقت معاصر لملاخي وعزرا ونحميا، عندما بدأت شعلة الحماسة الأولي تخبو ويحل محلها التقاعس والفتور والضعف والخوف من هجمات الأعداء.

      أما الإشارة اليونان (ياوان- 9: 13)، فلا غرابة فيها، فإذا لم يكن المعترض يؤمن بالنبوة الإلهية وهي واضحة في السفر في التنبؤ عن الملك والراعي في نفس هذه الإصحاحات، فإن اليونان (أو ياوان) قد ذكرت أيضاً بالاسم في حزقيال (27: 13, 19)، وكذلك في إشعياء (66: 19) باعتبارها أحد المواضع التي سيذهب إليها رسل الرب لإعلان مجده.

      والعجب الذي يستلفت النظر- في هذه الحجج- ان أولئك المعترضين يجعلون "إشعياء الثالث" (إش 56-66) معاصراً لزكريا الذي كتب الإصحاحات الثمانية الأولي. ومن المحتمل جداً أن زكريا رأي المركبات ذاهبة إلي الغرب (6: 6)، كما أنه رأي مسبقاً الأسري يعودون من المشرق ومن أرض مغرب الشمس (8: 7)، بل إن يوئيل يشير إلي الفينيقيين قد باعوا "بني يهوذا وبني أورشليم لبني الياوانيين" (يؤ 3: 6)، فمنذ نحو 520 ق.م. بدأ اليونانيون في أسيا الصغري يثيرون المتاعب لداريوس، وقاموا بثورة كبيرة في 500 ق.م. وفي 499 ق.م. أحرق الأثينيون الحصن الفارسي في ساردس. وفي 499، 480 ق.م. انهزم الفرس في حملتهم علي بلاد اليونان هزيمة منكرة في موقعة"ماراثون" الشهيرة، ومعركة سلاميس البحرية. ومن وجهة نظر بشرية محضة كان يمكن لزكريا أن يري في قوة اليونان المتصاعدة خطراً يهدد الشواطئ الغربية للإمبراطورية الفارسية، ولابد أنهم أغاروا كثيراً علي شواطئ فلسطين. كما يجب أن نلاحظ أن "ياوان" كانت واحدة من قوي كثيرة ذكرها النبي في الإصحاح التاسع.

      أما القول بأن هناك حط من قدرة النبوة في الإصحاح الثالث عشر، فهو تطرف بل أنحرف في التفسير، فالكاتب لا يحط من قدرة النبوة، حيث أنه هو نفسه كان نبياً، والفكرة الأساسية هي الراعي المطعون الذي سيفتح موته الينبوع للتطهير من الخطية والنجاسة، كذروة كل النبوات، وهكذا تنتهي النبوات، وهكذا ستنتهي النبوات الحقيقة، وكل نبوة تصدر بعد ذلك لابد أنها نبوة كاذبة.

      أما الحجة المتعلقة بالصورة الرؤوية الخيالية في الإصحاح الرابع عشر، فلا تقوم عيل أساس ثابت، بل هي مجرد رأي ذاتي، فالنبوات المتعلقة بالأخرويات عديدة في نبوات العهد القديم، ولم تكن قاصرة علي فترة ما بين العهدين، كما يزعمون.

      ومن الوجهة الإيجابية هناك وجوه ارتباط قوية بين الإصحاحات الأولي والإصحاحات الأخيرة. فمثلاً: الحاجة إلي التوبة والتطهر (1: 4، 3: 3, 4, 9،5: 1-11، 7: 5 -9، 9: 7، 12: 10، 13: 1, 9)، وأورشليم هي الرأس (1: 16, 17، 2: 11, 12: 6، 14: 9, 10)، ورجوع الأمة (2: 6, 10، 8: 7, 8، 9: 12، 10: 6-12)، وإخضاع أعداء إسرائيل (1: 21، 12: 14)، وتجديدهم (2: 11، 8: 20-23 ،9: 7، 14: 16-19).

      كما يوجد تشابه في الأسلوب، مثل استخدامه عدد "2" بكثرة (4: 3، 5: 9، 6: 1، 11: 7،13: 8)، واستخدامه صيغة المنادي (2: 7, 10، 3: 2, 8،4: 7، 9: 9, 13، 11: 1,2، 13: 7)، وعبارة "ذاهب وآئب" (7: 14، 9: 8) وهي عبارة لا ترد في أي مكان آخر في العهد القديم.

      وقد يكون من العسير إثبات وحدة الكتاب إيجابياً، ولكن ليس معني هذا إنكارها، وأمامنا كل ما ذكرناه من وجوه التشابه. 

1- زكريا النبى

" هوذا ملكك يأتى إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب

على حمار وعلى جحش ابن أتان " "  زك  9  :  9   "

مقدمة

زكريا هو الحادى عشر بين الأنبياء الصغار الإثنى عشر ، وكان معاصراً للنبى حجى ، ويسميهما البعض « التوأمين بين الأنبياء » ، وقد عاد الإسرائيليون  من السبى البابلى ، وقد عاد زكريا ، وهو شاب ، مع العائدين فى أول مرة ، وكان كاهناً ونبياً ، وقد كافح لبناء الهيكل الثانى فى أورشليم ، وكان عليه أن يعمل على بناء هذا الهيكل ، وفى الوقت نفسه يعد الشعب لحياة أفضل وأكمل ، وإذا كان حجى – واسمه يفيد الحجج أو الذهاب إلى العيد ، أو يمكن أن ندعوه فى اللغة الشائعة «عياد» الذى يعيد بعد السبى الطويل ، ويعود إلى حياة الفرح والبهجة – فإن زكريا يمتد إلى أكثر من ذلك ، إذ معناه « الرب يذكر » وقد كشف برؤاه الثمانى المجيدة ، ونبواته الرائعة ، كيف أن الرب سيذكر شعبه ويضمن سلامهم إلى آخر الأيام ، … وهو من أكثر الناس لذلك حديثاً ونبوة عن يسوع المسيح ومجيئه فى الجسد ، ووداعته ، وصلبه ، حتى تنتهى الرؤى والنبوات إلى آخر الأيام ، ومن المعتقد أنه فى رؤاه وحديثه عن المسيح ، لا يباريه فى هذا الشأن من الأنبياء سوى إشعياء ، وأنه فى عرف الكثيرين يأتى تالياً لإشعياء فى هذا المجال !! .. ومن المعتقد أنه بدأ نبوته وهو شاب فى عام 520 ق.م. ، وها نحن نراه فيما يلى :

 

زكريا ورؤاه الثمانى المجيدة

وهى ثمانى رؤى متتالية مجيدة ، يقول البعض إن النبى رآها متلاحقة فى ليلة من الليالى ، وقد نهض الناس لبناء الهيكل وربما كان ذلك فى تمام 520 ق.م. … ومن نعم اللّه على الإنسان أنه يعطيه الرؤيا ، … وهى بركات روح اللّه التى تحدث عنها يوئيل النبى ، عندما ينسكب روح اللّه على كل بشر ، فيتنبأ بنوننا وبناتنا ، ويرى شبابنا رؤى، ويحلم شيوخنا أحلاماً ، والحياة فى الواقع ، لا يمكن أن تكون صحيحة أو مجيدة بدون هذه الرؤى والأحلام ، ومن ثم فإن الروائيين والكتاب والشعراء ، وهم يتخيلون عالماً أفضل وأعظم وأمجد ، تمتد رؤاهم عبر الواقع التعس المحزن الأليم ، … وقد قال أحد الكتاب : « إن الرجل الذى يستطيع أن يتكلم إلى القلوب المهزوزة والنفوس التعسة  ، لابد أن يكون ذلك الإنسان الذى يعرف قلبه ونفسه ، ومقدار ما عانى من اضطرابات مماثله لما يعانيه الناس الآخرون فى الحياة ، .. الإنسان الذى خاض معركته ، وجابه الظلام ، ووصل إلى النور الذى أعطاه اللّه إياه فى مواجهة الآلام ،… هذا الإنسان الذى منحة اللّه  لمسة الحنان والرفق تجاه الشكوك والتعثرات والتخبطات التى تحيط بالناس حوله » … ولابد لنا أن نرى النبى بهذا المعنى ، إذ أنه ليس الإنسان الذى يتلقى الوحى آلياً ، أو الذى لا يدرك معنى الشكوك التى يكافحها ، أو التجارب التى يندد بها ، أو اليأس ، أو البؤس الذى يريد أن يخلص الناس منه ، … إنه الإنسان الخاضع لنفس الآلام التى يقع تحتها الآخرون ، وقد جرب بتجاربهم ، ولكنه بروح اللّه تعلم الانتصار والغلبة على المصاعب والمشاكل والمتاعب التى واجهها ، وهو من نبع الإختبار ، وبسلام الإيمان ، يمكن أن يحارب فى معارك الرب ، ويقود الناس إلى النصر فيها » … وبهذا المعنى كان زكريا النبى ، وهو يكشف رؤى اللّه للناس !!

فإذا تصور الناس فى زحام الحياة ومتاعب الأيام ، أن اللّه قد ترك الأرض والقوى فيها يأكل الضعيف ، والمستبد يهلك الوادع ، وأن الأمور تسير فى كل شئ وفق الأهواء أو النزوات ، وبدا كما لو أنه ليس هناك إله يحكم الناس ، أو عناية تتمشى فى حياتهم ، فإن ملاك اللّه يظهر لزكريا ليرى شجر « الآس » ، وهو ذلك النوع من الشجر القصير الصغير ، الظليل الجميل الدائم الاخضرار ، العطرى الرائحة ، وهو الاسم العبرى الذى أطلق على أستير الملكة ، وربما أطلقه مردخاى عليهم إشارة إلى جمالها الفائق الفتان ، وقد علته مسحة من الكابة والوحشة والتعاسة التى أورثها إياها الفقر واليتم والسبى ، … وأورشليم كانت بهذا المعنى شجرة آس ، وهى تعود من السبى والمنفى والألم ، ولكنها ما تزال ممتلئة بالتعاسة والوحشة والبؤس ، … وربما خطر على بال الناس فيها أن اللّه قد ترك الأرض ، … ولكنه يؤكد أنه يرسل خيله لتجول فى الأرض كلها ، وهو لا ينسى أحداً ، ولا يهمل أحداً  ،  ولا يتغاضى عن أحد.

ومهما اختلف لون الخيل الحمر والشقر والشهب ، ومهما كانت ترمز إلى ألوان العناية فى تعدد مظاهرها ، … إلا أن المعنى المقصود هو أن اللّه لا يغفل عن شئ أو يهمل شيئاً فى الأرض !!  .. وإذا كانت عناية اللّه تمتد إلى كل الأرض ، فإنها تهتم على وجه الخصوص بشجرة الآس ، التى ترمز  إلى أورشليم ، أو إلى كنيسة اللّه العلى ، … التى تحيط بها المتاعب أو الضيقات ولكنها ليست متروكة على الإطلاق من اللّه .

فإذا تحولنا إلى الرؤيا الثانية ، فإننا نبصر هناك أربعة قرون ، هى رمز للشر الذى سيطر فترة من الزمان ، وبدد يهوذا وإسرائيل وأورشليم ، وهذه القرون الأربعة ، فى تصور الشراح ، هى ممالك بابل ، ومادى وفارس ، واليونان ، وروما ، الممالك الأربع العالية التى بددت أورشليم ، والتى خرج فى إثرها الصناع الأربعة وهم قوى اللّه العظيمة الأدبية ، ورآها بعضهم البر ، والعدالة ، والضمير ، والعناية ، وهى التى ستتغلب آخر الأمر ، وتقضى على كل المفاسد والاثام والشرور ، وتؤكد أن اللّه لا يمكن أن يتخلى عن شعبه وأبنائه ، وستسقط كل القوى الطاغية تحت أقدامهم ، ..

فإذا جئنا إلى الرؤيا الثالثة ، فنحن أمام غلام يحاول أن يقيس أورشليم ، ليرى كم طولها وكم عرضها ، وقد بدت أمامه صغيرة ضعيفة مخربة ، ولكن الملاك يمنعه ، لأنه لا يمكن أن تقاس أورشليم التى ستتسع لكل المؤمنين فى الأرض ، وهى ليست أورشليم القديمة ، التى تعرضت للغزو والفتح والتدمير ، بل أورشليم السماوية ، كنيسة اللّه التى ستغزو وتمد أطنابها فى الأرض كلها .

فإذا كان هناك خوف من آثام الماضى ، وهل يمكن أن تتكرر ، فنحن إزاء الرؤيا الرابعة ، والتى يظهر فيها يهوشع الكاهن العظيم ، وهو يمثل شعب اللّه ، لابساً ثيابه القذرة ، وإذا بالنعمة الإلهية تخلع عنه ثيابه ، وإثمه ، وتلبسه ثياباً مزخرفة ، وتضع على رأسه العمامة الطاهرة ، عندما يأتى عبد الرب « الغض » المسيح الذى بنعمته وروحـــه يزيل إثم الأرض وشرها بدم صليبه !! ..

فإذا ظهرت االصعوبات القاسية كالجبال الرواسى فى طريق بيت اللّه وعمله وخدمته، فنحن نرى فى الرؤيا الخامسة منظر المنارة التى كلها ذهب ، وكوزها على رأسها وسبعة سرج عليها ، وسبع أنابيب للسرج التى على رأسها وعندها زيتونتان … إحداهما عن يمين الكوز والأخرى عن يساره ، .. ونحن هنا إزاء بيت اللّه الذى يشع منه النور ليملأ الأرض كلها ، وإزاء النعمة التى تجعله دائماً مضيئاً ومنيراً ، فإذا كانت هناك صعوبات هائلة ، فى طريقه ، فإن الجبل يضحى سهلا لا بقدرة الإنسان ، أو قوته ، أو جهده البشرى ، بل بقوة وعمل روح اللّه  .

فإذا قيل : ولكن المدينة ما تزال ممتلئة بالأشرار والمجرمين واللصوص والأثمة والخطاة ، فنحن هنا إزاء الدرج  الطويل العريض الذى رآه فى الرؤيا السادسة والذى يحمل اللعنة والملعونين ، لإبادة أسمائهم من الأرض ..

فإذا قيل أيضاً : ولكن إلى متى يكون هذا ، ومتى سيبقى الشر بعيداً عن النهوض مرة أخرى ؟؟ … فنحن نأتى إلى الرؤيا السابعة فى إيفة الشر التي تجلس فيها امرأة ، وقد أغلق على فمها بثقل من الرصاص ، وحملت على أجنحة لتدفن في أرض شنعار ، حيث لا تقوم لها قائمة بعد ..

وحتى يبدو هذا مؤكداً فنحن آخر الأمر أمام الرؤيا الثامنة ، التى تتحدث عن مركبات اللّه المنتصرة التى تخرج  إلى كل مكان فى الأرض ، .. ومن الواضح أن الخيل التى تقود المركبات مختلفة الألوان ، فالحمر فى  عرف الشراح تشير إلى الدم والمعارك التى يستخدمها اللّه كواحدة من سبل العناية وإتمام مشيئته ، والدهم – وهى أقرب إلى السواد – تشير إلى الحزن والمجاعة ، والشهيب الأقرب إلى البياض ، تتحدث من البهجة والمسرة ، والمنمرة الشقر ، هى مزاج الآمال والآلام والراحة والمتاعب ، … وقيل إن الحمر تتجه إلى الشمال إلى بابل ، وتتبعها الدهم إلى مادى وفارس ، والشهب نحو اليونان !!  والنمرة نحو روما ، ..

فإذا أخذت الرؤى جميعها معاً ، فإنها تبدو أمامنا فى صورة الصراع الظاهر فى سفر الرؤيا بين الخير والشر ، وأن الشر مهما يفعل فسيسقط مهما بدت قوته ، ومظهره، وسلطانه ، وعمله !!  … وأن الحق والخير والجمال والنور ، مقرر لها الغلبة من أول الأمر ومن ابتداء المعركة !! .. أما زكريا نفسه ، يبدو أمامنا فى صورة الرجل الذى يلمع وجهه بالرجاء ، فى قلب الظلمة الداكنة !!

 

زكريا والجواب على أسئلة الشعب

عندما دمرت أورشليم وأخذ الشعب إلى السبى ، وتحول الهيكل ركاماً وأنقاضاً وتراباً ، فقد الشعب طقوسه وفرائضه ، غير أنه فى السبى – وقد سيطر عليه الحزن ، واستبد به الألم – رأى أن يأخذ نفسه بألوان من الصوم ،  لم تكن عنده أصلا ، وعاش السبعين عاماً وهو يصوم وينوح فى الشهر الخامس والسابع ، … وبعد أن انتهى السبى، كان لابد أن يسأل نفسه هذا السؤال : ترى هل يستمر فى الصوم ، أو يغيره ، أو يقلع عنه ؟؟  ، .. وقد كان من المشجع على الاستمرار ، أنه رغم العودة إلى أورشليم فإن الخراب الذى يسود البلاد ، والحياة التى يعيشها الناس فى ضعف وفقر وجدب ، وماتزال قائمة باقية ، فهل يستمر فى الصوم إلى أن تنتهى وتتلاشى ؟ وقد أجاب اللّه على لسان زكريا ، مقرراً أن الأصل عند اللّه ليس الطقس أو الصوم ، بل حياة البر والطاعة ، وأنهم لو عاشوا هذه الحياة ، لما جاء السبى ، ولما كانت هناك حاجة إلى التزيد فى الطقوس والأصوام ، … وأن السر كل السر فى الضياع هو أن الناس لم تسمع لكلمة اللّه ولا لشريعته وإرشاده ، فكانت النتيجة مجئ غضب اللّه العظيم ، والعقاب المروع ، والنبى يكشف كيف أن الناس لم يسمعوا الشريعة ، إذ أصموا آذانهم وثقلوها ، وذلك سواء بالانتباه إلى أصوات أخرى تأتيهم من خداع العالم والخطية والشر ، أو أنهم تمردوا على الكلمة فامتنعوا عن سمعها ، بعد الإنصات أو عدم الذهاب إلى بيت اللّه ، ولم يقبلوا الخدمة ، فأداروا ظهورهم وأعطوا كتفاً  معاندة ، وكانت النتيجة أن ضاع السلام وولى ، وجاء الخراب والتدمير والتشريد والنفى ، …

والسلام لا يمكن أن يأتى بالفرائض والطقوس ، … ومع أن زكريا كان يشجــــع على بناء هيكل اللّه ، ولكنه مع ذلك لم يحاول أن يربط السلام بمجرد المساهمة فى بناء البيت أو تزيينه . إن السلام  يرتبط بشئ فى الداخل فى سريرة الإنسان وأعماقه ، ومن ثم فليس يكفى أن يصوم الصوم الطقسى فى شهور معينة من السنة ، بل المهم أن يحب الحق ويصنع الإحسان والرحمة ، ويمد يده للمساعدة ، ولمعونة الأرملة واليتيم والغريب والفقير ، إن مساعدة الضعيف والعاجز ثمرة من ثمرات الحياة الدينية المتعمقة مع اللّه ، وهنا نجد النبى يحض على الدين العملى ، وليس النظرى فحسب ، وإذ قد لا يفهم  الإنسان العقائد اللاهوتية العميقة ، وقد يصعب عليه إدراك المباحثات الدينية البعيدة !! … لكنه يستطيع أن يحيا الحياة الدينية بممارستها !!

إذ يحدث هذا ، يقودنا النبى إلى العصر الذهبى المجيد الذى يتمتع فيه الناس بالحياة المبتهجة  السعيدة ، فنرى المدينة وقد امتلأت بصبيانها وبناتها ، بشيوخها وشيخاتها ، وهم يجلسون فى الراحة والأمن والسلام ، دون ضيق أو إزعاج ، فإذا بدت الصورة جزئياً فى العودة من السبى ، إلا أن الأمر لن يقصر على شعب واحد ، لأنه : « هكذا قال رب الجنود سيأتى شعوب بعد وسكان مدن كثيرة وسكان واحدة يسيرون إلى أخرى قائلين لنذهب ذهاباً لنرضى وجه الرب ونطلب رب الجنود . أنا أيضاً أذهب . فأتى شعوب كثيرة وأمم قوية ليطلبوا رب الجنود فى أورشليم وليترضوا وجه الرب . هكذا قال رب الجنود : فى تلك الأيام يمسك عشرة رجال من جميع ألسنة الأمم يتمسكون بذيل رجل يهودى قائلين نذهب معكم لأننا سمعنا أن اللّه معكم » " زك 8 : 02 – 32 " وهنا نخرج من نطاق اليهودية الضيق ، إلى مجد المسيحية العظيم !! ..

 

زكريا والنبوات عن المسيح يسوع

وقد تحدث زكريا عن المسيح فى أكثر من نبوة من نبواته ، إذ تحدث عن دخوله المنتصر الظافر إلى أورشليم : « ابتهجى جداً يا ابنة صهيون اهتفى يابنت أورشليم . هو ذا ملكك يأتى إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان » " زك 9 : 9 " وقد اقتبس هذه النبوة متى ومرقس ويوحنا ، فى هذا الدخول المجيد ، ولعلنا نلاحظ الفرق بين دخول هذا الملك ، وغيره من ملوك الأرض ، … ولقد قيل إن الإسكندر فى غزواته ، وهو يقترب من المدن ، كان يثير فيها الفزع والهلع والرعب .

أما المسيح فلا يمكن أن يقترن دخوله فى مكان ما ، إلا بالبهجة والفرح والهتاف ، وذلك لأنه يحل ومعه العدل والنصر والسلام ، .. كيف لا وهو لا يدخل إلا وديعاً متواضعاً محباً ، فوق حمار وجحش ابن أتان ، كما فعل عندما دخل مدينة أورشليم ليموت هناك حبا وفداء لجنسنا البشرى الذى ضيعته الخطية ، وأماته الإثم والتمرد والعصيان !!

كما أن زكريا تنبأ ثانية عن المسيح المحتقر ، المرفوض من شعبه : « فقلت لهم إن حسن فى أعينك فأعطونى أجرتى ، وإلا فامتنعوا . ، فوزنوا أجرتى  ثلاثين من الفضة. فقال لى الرب ألقها إلى الفخارى . الثمن الكريم الذى تمنونى به فأخذت الثلاثين من الفضة وألقيتها إلى الفخارى فى بيت الرب » " زك 11 : 12 و 13 " ومهما قيل عن ارتباط هذه النبوة بما جاء فى نبوات إرميا فى الأصحاح الثامن عشر والتاسع عشر ، حيث يصور النبى قدرة اللّه وسلطانه على الشعوب بقدرة الفخارى على قطعة الطين فى يده ، كما أن اللّه – إذ يأمر النبى إرميا أن يحطم إبريق الفخارى – يكشف عما سيفعله هو ، كإله مقتدر ، بالأمة الخاطئة  ، إلا أنه واضح أن النبى زكريا كشف عن المسيح المرفوض ، والذى قدره شعبه بثلاثين من الفضة ،  وهو الأجر الذى يعطى تعويضاً عن العبد إذا نطحه ثور ومات : « إن نطح الثور عبداً أو أمة يعطى سيده ثلاثين شاقل فضة والثور يرجم » " خر 21 : 32 " ومهما يقل الناس عن صفقات بخسة فى كل التاريخ والعصور والأجيال ، فلا نعرف صفقة تعسة خاسرة كالتى باع بها يهوذا الأسخريوطى يسوع المسيح !! .. قيل إن أحد الشبان الأمريكيين دخل معرضاً من معارض الشمع وإذا به يرى صورة التلاميذ مجتمعين معاً فى حضرة المسيح ، فما كان منه إلا أن هوى على تمثال يهوذا الأسخريوطى وحطمه تحطيماً ، … وإذا بالمشرف على المعرض يذهل ويقول له : لماذا تفعل هكذا ؟ ! .. « إنه تمثال !  ، وإذا بالشاب يجيب : تمثال أو غير تمثال ، … إن يهوذا الأسخريوطى لا يمكن أن يدخل ولا يتنا إلا وينال هذا المصير » . ومع أن كثيرين إلى اليوم ما يزالون وقد دخلهم الشيطان، يفعلون مثل يهوذا القديم الذى باع سيده بأتفه الأثمان ، إلا أن يهوذا ذهب إلى أتعس مصير يمكن أن يصل إليه إنسان !! … وهو المصير الدائم لمن يبيع المسيح الكريم مهما كان الثمن ، فكم بالحرى لو كان الثمن تافهاً حقيراً !! ..

على أن زكريا عاد فتنبأ عن رجوع اليهود إلى المسيح : « وأفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات فينظرون إلى الذى طعنوه وينوحون عليه كنائح على وحيد له ويكونون فى مرارة عليه كمن هو فى مرارة على بكره » " زك 12 : 10 " وربما لم تعرف الأمة اليهودية حزناً عميقاً وشاملاً ، كحزنها على يوشيا الملك عندما سقط فى معركة مجدو ، التى أشار إليها زكريا النبى : « فى ذلك اليوم يعظم النوح فى أورشليم كنوح هدد رمون فى بقعة مجدون »  "زك 12 : 11" .. ولم يكن هذا إلا رمزاً للألم والبكاء الذى أحسن به اليهود يوم موت المسيح على هضبة الجلجثة : « وتبعه جمهور كثير من الشعب والنساء اللواتى كن يلطمن أيضاً وينحن عليه … وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين لهذا المنظر لما أبصروا ما كان ،  رجعوا وهم يقرعون صدورهم  "لو 23 : 27 و 48" … فإذا سار اليهود فى عذابهم وآلامهم ومتاعبهم ، فى كل أجيال التاريخ ، وعندما يفتح اللّه عيونهم ليعودوا إلى الذى طعنوه ، بالألم والحزن والتوبة !!  .. فإن النبوة ستتحقق على ما أشار إليه الرسول بولس فى الأصحاح الحادى عشر من رسالة رومية « فإنى لست أريد أيها الأخوة أن تجهلوا هذا السر لئلا تكونوا عند أنفسكم حكماء ، أن القساوة قد حصلت جزئياً لإسرائيل إلى أن يدخل ملؤ الأمم وهكذا سيخلص جميع إسرائيل . كما هو مكتوب سيخرج من صهيون المنقذ ويرد الفجور عن يعقوب » " رو 11 : 25 و 26 " …

وتنبأ زكريا – إلى جانب هذا كله – عن موت المسيح : « استيقظ يا سيف على راعى وعلى رجل رفقتى يقول رب الجنود . اضرب الراعى فتتشتت الغنم وأرد يدى على الصغار » " زك 13 : 7 "…

ووعد اللّه لابد أن يتم ، وفى ملء الزمان جاء المسيح ليكون كفارة ، ليظهر بر اللّه  من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال اللّه لإظهاره بره فى الزمان الحاضر ليكون باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع » " رو 3 : 25 و 26 " … وقد أيد المسيح هذه الحقيقة : وهو يقول لتلاميذه ، « حينئذ قال لهم يسوع : كلكم تشكون فى هذه الليلة لأنه مكتوب أنى أضرب الراعى فتتبدد خراف الرعية " " مت 26 : 31 " .

ولا تنتهى نبوات زكريا قبل الحديث عن مجئ المسيح الثانى العتيد ، … وليس المجال هنا للبحث فى الحرفية « أو » الرمزية التى يتتسم بها الأصحاح الرابع عشر من زكريا .. فبعض الشراح يفسر الأصحاح تفسيراً حرفياً ، حيث ينشق جبل الزيتون فعلا إلى نصفين يفصلهما واد كبير ، … وتحدث معركة هر مجدون آخر معارك العالم التى يحسمها المسيح بظهوره العتيد ، … غير أن هناك من يأخذ « أورشليم » أو « الكنيسة » بالمعنى الرمزى ، دون أن يحدد صورة حرفية معينة ، قد تكون أورشليم المشار إليها فى مطلع الأصحاح الرابع عشر ، هى التى دمرها الرومان ، أو قد تكون الكنيسة حين انهارت الحياة الروحية وغطاها الظلام فى العصور الوسطى ، على أن اللّه لا يمكن ان يتركها أو يهملها ، بل سيأتى ليحارب عنها ، وينتصر ، ويكون الملك له وحده وسواء تم هذا بالمعنى الحرفى أو الروحى ، فإنه لا يمكن أن يتم إلا بعد المعاناة والمتاعب والزلازل ، والعلامات التى أكد السيد المسيح أنها لابد أن تكون قبل مجيئه الثانى العتيد ، فإذا جاء فإن مجيئه سيكون أشبه بعيد المظال الذى يعيد فيه اليهود سبعة أيام ، أو فى لغة أخرى ، إنه الخروج من تعب الخطية وشدتها وقسوتها ومعاناتها، إلى الراحة والسلام والاطمئنان .

 فهو انتصار كنيسة الرب يسوع بالمعنى الروحى الذى يقدس فيه كل شئ لمجد السيد ، وهو الأرجح فى نظرنا ، إذ لا نستطيع أن نفهم أن يتحول كل شئ قدساً للرب : « فى ذلك اليوم يكون على أجراس الخيل قدس للرب والقدور فى بيت الرب تكون كالمناضح أمام المذبح . وكل قدر فى أورشليم وفى يهوذا تكون قدساً لرب الجنود وكل الذابحين يأتون ويأخذون منها ويطبخون فيها . وفى ذلك اليوم لا يكون بعد كنعانى فى بيت رب الجنود» " زك 14 : 20 و 21 " .. ما لم نفهم الذبيحة  المعنى الروحى ، … ونفهم أن تقدس أقل الأشياء كالأجراس التى تعلق على رؤوس الخيل ، والتى  هى للزينة أو للصوت أو الرنين الذى يحدث منها كلما سارت فى الطريق ، … أى أن ، يصبح كل شئ – صغر أم كبر فى الأرض – لمجد اللّه وجلاله بالمعنى المفهوم فى الحياة المملوكة بالتمام للّه !! ..

على أية حال كانت نبوات زكريا عبوراً طويلاً ممتداً من أورشليم وهيكلها القديم ، وقد كانت أمام عينى النبى القديم أطلالا دارسة تحاول أن تقو وتنتفض من التراب ، إلى أورشليم التى صلبت يسوع المسيح ، ورأت من العذاب والضيق مالم تره مدينة أخرى فى كل التاريخ ، إلى أورشليم أمنا السماوية ، كنيسة الرب يسوع التى ستظهر فى اليوم الأخير بمجده الأبدى الفائق ، حين تنتهى اللعنة إلى الأبد ، ويصبح كل شئ فى السماء وعلى الأرض قدساً للرب !! ..

 

2-    زكريا الملك

        وهو زكريا بن يربعام الثاني الملك الرابع عشر من ملوك إسرائيل بعد انقسام المملكة، والملك الرابع من بيت ياهو، وقد ملك في السامرة ستة شهور (2 مل 14: 29). ولم يملك زكريا علي العشرة الأسباط فحسب، ولكنه كان ملكاً ايضاً علي ولاية دمشق التي استولي عليها أبوه. وقد عمل زكريا الشر في عيني الرب، وكان أمامه انذاران: أولهما وعد الرب لجده ياهو، قائلاً له: " من اجل انك أحسنت بعمل ما هو مستقيم في عيني وحسب كل ما بقلبي فعلت بيت آخاب، فأبناؤك إلي الجيل الرابع يجلسون علي كرسي إسرائيل" (2 مل 10: 30). وثانيهما ما قاله الرب علي فم عاموس النبي: "أقوم علي بيت يربعام بالسيف" (عا 7: 9)، وهو ما تم فعلاً إذ " فتن عليه شلوم بن يابيش وضربه أمام الشعب فقتله وملك عوضاً عنهذلك كلام الرب الذي كلم به ياهو قائلاً بنو الجيل الرابع يجلسون لك علي كرسي إسرائيل. وهكذا كان" (2 مل 15: 10-12)، فقد كان زكريا بن يربعام هو الجيل الرابع لياهو 

 

3- زكريا الكاهن

«وامرأتك اليصابات ستلد لك ابنًا وتسميه يوحنا» (لو 1 : 13) 

        وكان كاهناً من فرقة أبيا، وهي الفرقة الثامنة من الفرق الأربع والعشرين التي قسم إليها داود الملك بني هارون الكهنة (1 أخ 24: 1, 10). وكان هو وامرأته أليصابات- من بنات هارون- " كان كلاهما بارين أمام الله سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم. ولم يكن لهما ولد إذ كانت أليصابات عاقراً، وكانا كلاهما متقدمين في أيامهما" (لو 1: 5-7).

        وفي إحدى نوبات فرقته، "أصابته القرعة أن يدخل إلي هيكل الرب ويبخر… فظهر له ملاك الرب واقفاً عن يمين مذبح البخور" (لو 1: 8-11)، وبشره أن امرأته ستحبل وتلد له ابناً يسميه يوحنا، "يكون عظيماً أمام الرب … ومن بطن أمه يمتليء من الروح القدس .. لكي يهيء للرب شعباً مستعداً". ولما أبدي زكريا شكه في إمكان حدوث ذلك، أصابه بالخرس فكان صامتاً إلي يوم ختان يوحنا (لو 1: 13-22, 62-64).

        ولما ولد الصبي وأرادوا أن يختنوه في اليوم الثامن حسب الوصية، وأرادوا أن يطلقوا عليه اسم أبيه، طلبت أمه أن يسمي يوحنا، فاعترض أقرباؤها، ثم "أومأوا إلي أبيه ماذا يريد أن يسمي. فطلب لوحاً وكتب قائلاً اسمه يوحنا فتعجب الجميع، وفي الحال انفتح فمه ولسانه وتكلم وبارك الله". وإذا امتلأ بالروح القدس ترنم بالأنشودة الجميلة عن خلاص الرب لشعبه المسجلة في إنجيل لوقا (1: 67-79).

        وكانت أليصابات امرأته تمت بصلة القرابة للعذراء مريم (لو 1: 36). وعندما ذهبت العذراء مريم- بعد بشارة الملاك لها- إلي بيت زكريا وسلمت علي أليصابات، أرتكض الجنين في بطن أليصابات، وامتلأت من الروح القدس و"صرخت بصوت عظيم وقالت مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك. فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي.. فطوبي للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب" (لو 1: 39-45).

مقدمة

كان عدد الكهنة في أيام المسيح، كما يقولون، عشرين ألف كاهن، ويظهر بالعودة إلى الأصحاح الرابع والعشرين من سفر أخبار الأيام الأول أن داود قد قسمهم في خدمة الهيكل إلى أربع وعشرين فرقة، وكانت فرقة أبيا التي ينتمي إليها زكريا الكاهن، الفرقة الثامنة، وكانت كل فرقة تأخذ خدمتها، أسبوعًا كاملاً من صباح السبت إلى صباح السبت التالي، على مدار السنة، وكانت الفرقة توزع نفسها خلال هذا الأسبوع، على مختلف أعمال الهيكل، وتلقي القرعة على من يدخل إلى القدس ليقدم البخور هناك، وكانت العادة أن الكاهن – على هذا الأساس – لا يكاد يدخل القدس سوى مرة واحدة، في حياته على  الأغلب، وإذ وقعت القرعة على زكريا في ذلك اليوم البعيد، رأى الرؤيا التي غيرت تاريخه وحياته، ومن عجب أن تكون هذه الرؤيا في هيكل الله، وكما كانت الرؤيا لأشعياء في الهيكل لها تأثيرها العجيب، فإن رؤيا زكريا كان لها التأثير العظيم الذي أدخله في سجل الخالدين، وما أكثر ما يرتبط بيت الله في حياة الناس برؤيا الحياة والمصير، فيهب الواحد منهم ليقول ما قاله يعقوب قديمًا :  «ما أرهب هذا المكان  ما هذا إلا بيت الله وهذا باب السماء» (تك 28 : 17)!!..  والآن فلنعبر إلى قصة الرجل، ونأخذ منها الكثير من عبر الحياة فيما يلي من صور وأوضاع! 

زكريا من هو

ربما لا نستطيع أن نفهم زكريا تمامًا إذا ذكرنا عصره. والعودة إلى تاريخ تلك الأيام قبيل ظهور المسيح، أشبه باجتياز الليل العميق الذي ينتظر ظهور الفجر، كانت طبقة الكهنة كما رأيناها في أيام ملاخي تزداد سوءاً قرنًا بعد قرن، وأين الكاهن في وضعه الصحيح، بما انتهى إليه الكهنة في أيام المسيح؟! لم تكن الخدمة الدينية عندهم سوى صور شكلية مظهرية تغطي الحقيقة البشعة هكذا كانت الحقيقة في أيام المسيح، وما تزال تظهر هنا وهناك في فترات متلاحقة متعاقبة من التاريخ، ومن الجدير بالذكر أن هذه الفترات على ما فيها من قسوة وظلام، تكون قبيل الفجر الذي يبعثه الله لينير الحياة، هكذا كانت في أيام زكريا الكاهن، إلى أن يأتي ابنه العظيم بين المولودين من النساء، ويندد بهذا الفساد صارخاً به في البرية بصوته المرعب، ليفزع الجميع، ولكنه ينادي بالحق الإلهي، دون خوف أو وجل!! في هذا التاريخ لا يمكن أن يترك الله نفسه بلا شاهد، بل يرسل في أعماق الليل البهيم نجومًا لامعة تسطع في الظلام، وتتلألأ في الدجى، وكان لزكريا ومعنى الاسم «الله ذكر» وزوجته أليصابات، بيت صغير، على ربي الجبال العالية في يهوذا أنا لا أعلم حظهما من الحياة المادية،  وعلى أي مستوى كانت معيشتهما من وفرة المادة أو قلتها، فذلك شيء قد مر به كتاب الله دون أن يشير إليه، إلا أنه كشف لنا عن بيت وادع هانيء عظيم، لقد حرم هذا البيت مما كان يعتبره اليهودي أعظم بركة، إذ لم يكن للزوجين أولاد، مما قد يثير التساؤل أو الألم، أهو غضب من الله عليهما أن يحرمهما من الذرية، التي بها يمتد اسمهما بعد رحيلهما من هذه الدنيا، أو ليؤنس وحدتهما عندما يصبحان شيخين عجوزين يقعدان عن الحركة والحيوية، تلاحقهما صعفات الشيخوخة وأمراضها وأوصابها، على أي حال لم يكن هذان الزوجان هما أول من يتعرض لهذه المحنة، فقد تعرض لها الكثيرون قبلهما من خيرة الناس، وعلى رأسهم إبراهيم أبو المؤمنين عندما كانت سارة عاقرًا إلى وقت الشيخوخة، وعندما كانت راحيل عاقرًا، وأختها الكبرى تلد، وعندما كانت حنة مرة النفس، لأنها لا تنجب وضرتها تكيد لها وتضاعف من إحساسها بالحرمان، وما أكثر اللواتي أخفين نفوسهن عن عيون الناس كما أخفت إليصابات نفسها في الشيخوخة قبيل مجيء المعمدان!! على أي حال إن هذه المحنة التي لم تغير من حياة الشونمية العظيمة، وكانت مثالاً رائعًا رغم حرمانها الكبير، لم تفعل ذلك أيضًا، في حياة زكريا وأليصابات. إن علاقة هذين الزوجين بالله، ستبقى في الحرمان أو في العطاء، على حد سواء، علاقة  البنوة لإله عظيم مجيد طيب، فإذا كان اسم زكريا معناه «الله ذكر» فإن الرجل كان يعلم يقينًا أن الله ذكره بالإحسان والمراحم قبل وبعد مجيء المعمدان، وأنه يرفل على الدوام في خيرات الله وبركاته الروحية والزمنية. وأن الاتكال على الله سيقوده إلى بركات متعددة، لعلها كانت واضحة أمام عينيه، ومن أخصها بركة الحياة الزوجية الممتلئة بدفء الحنان والحب والرقة، والقصة الكتابية ترينا اثنين سارا من مطلع الحياة حتى الشيخوخة كأجمل ما تكون العلاقة بين زوجين دون تأفف أو تذمر أو شكوى، حتى ولو حرماً من الأولاد، وضحكاتهم التي تملأ البيت سعادة، وتسد فراغ السكون الموحش، كما يـظهر  في بيوت كثيرة ليس بها صغار يجرون هنا أو يلعبون هناك، أو يضجون في اللعب والضحك والبكاء كما يفعل عادة الأولاد في كل بيت! وفي الحقيقة إن أسعد إنسان هو الذي يحب الله لا لأنه يغنم أو يأخذ من هذا الحب ما يشتهي من عطايا أو بركات، بل لأنه يرى في مجرد العلاقة بالله، كل عطية وبركة وموهبة تامة في الحياة، فيحب الله لذاته، قبل أو بعد أن يأخذ ما يشتهي من الله، وكان زكريا من هذا الصنف من الناس، كان هو وزوجته بارين أمام الله، والمقصود بالبر هنا – في أقرب تعريف «البراءة» والبراءة بالنسبة للمتهم، عدم ثبوت الشكوى عليه، وبالنسبة للطفل، التصرف الخالي من الاحساس بالذنب، وكانت براءة زكريا بهذا المعنى المزدوج، فهو بريء من أي تهمة أو شكوى لأن الذبيحة التي يقدمها الله، والتي ترمز إلى المسيح، أعطته هذه البراءة الكاملة، وهو بريء بالاكتساب، وليس بالاصالة، هو بريء بالنيابة وليس بالخلو من الاثم والعيب، وهذا ما تفعله ذبيحة المسيح لكل واحد منا لأننا كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا» (إشعياء 53 : 6) وبهذا المعنى القضائي كان زكريا باراً أو بريئًا،.. على أنه كان في براءة الطفل بالمعنى الأدبي، البراءة التي تفعل الشيء دون أن يكون قصدها الشر أو الخبث أو الحقد أو الضغينة أو الفساد أو ما أشبه، ونحن عندما ننظر إلى شخص طيب وادع جميل، كثيرًا ما نقول :  إن له براءة الأطفال، وهكذا كان زكريا في حياته مع الله، وكما كان بارًا أمام الله، فإنه كان «بلا لوم» أمام الناس، كان هذا الكاهن غير ملوم، كان على الصورة التي يطلبها الله من الأسقف أو الكاهن، أن يكون «بلا لوم» ليست عليه شكاية صحيحة من أحد، وقد يختلف الناس معه في هذا أو ذاك من أمور الحياة، وقد لا يسيرون كما يسير، ولكنهم مع ذلك يشهدون له بالحياة المستقيمة الصحيحة غير الملومة! ومثل هذه الحياة لابد أن تضع نصب عينيها وتحرص على السلوك السليم :  «سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم» (لو 1 : 6).. وربما يقصد بالوصايا، الجانب الأدبي، والأحكام الفرائض أو الجانب الطقسي، لم يتوان زكريا وأليصابات عن السلوك في الشريعة بشقيها الأدبي والطقسي كأفضل ما يفعل الإنسان بخوف الله وبكل أمانة!! 

زكريا وصلاته

جاء الملاك جبرائيل إلى زكريا ليقول  :  «لأن طلبتك قد سمعت» (لو 1 : 13).. وهي حقيقة يجدر أن نتوقف إزاءها قليلاً، لكي تؤكد أن أعظم الأحداث في العالم، جاءت نتيجة الصلاة، ولم تأت بسبب ذكاء الإنسان أو جهده أو جبروته أو كفاحه أو ما أشبه مما يظن الناس أنه يوجه أو يغير مسار القصة البشرية على الأرض!:  «صلي إبراهيم من أجل ابن فأعطاه الله نسلاً مثل الرمل على شاطىء البحر، وصلى لأجل سدوم فسمع الله وأنقذ لوطًا، وصلى يعقوب لأجل لقاء طيب مع أخيه عيسو، وصلى موسى ليغفر الله للشعب، وصلى جدعون للتغلب على المديانيين، وصلى إيليا فنزلت نار الله استجابة للصلاة، وصلى يشوع فاكتشف عخان، وصلت حنة فولدت صموئيل، وصلى حزقيا فمات مائة وخمسة وثمانون ألفًا من جنود سنحاريب، وصلى دانيال  فكمَّ الله أفواه الأسود وما كان شيء من هذا ليحدث بغير الصلاة!….  أجل إن الناس تصلى. والله دائمًا يسمع!!».

ولا شبهة في أن هناك ثلاث إجابات للصلاة، نعم أو لا أو انتظر، وقد يكون من السهل أن نفهم إجابة الصلاة «بنعم» ولكن «لا» قد تكون الإجابة المناسبة، أو قد يكون الجواب  :  «انتظر» حيث يقف المرء على محطة الانتظار إلى أن يصل قطار الله محملاً بالاستجابة! كانت البارجة الحربية تقف في عرض المحيط الأطلنطي على بعد مئات الأميال من شاطيء الولايات المتحدة، وتسلم أحد البحارة برقية جاء باللاسلكي تقول :  «دونالد الصغير توفى بالأمس. الجنازة الأربعاء، هل تأتي. ماري» ونسى البحار واجبه وأغرورقت عيناه بالدموع، وإذ رآه القبطان استفسر عن سر بكائه، فأراه البرقية، وإذ قرأها قال له :  أين تقطن. وكان الجواب :  في كليفلند، أهايو ياسيدي! فأرسل القبطان عدة برقيات، ولم يلبث أن ظهر قارب حمل الرجل إلى سفينة أخرى لتحمله، واشتركت مواصلات متعددة في الولايات المتحدة ليظهر في الميعاد في الكنيسة في أثناء توديع الصغير! وإذا كان الإنسان في قدرته أن يفعل هكذا، فإن جنود الله وملائكته في السماء على استعداد دائم أن تفعل هكذا، في الميعاد المحدد المعين من الله!

والسؤال إذاً، لماذا أبطأ قطار الله في حمل الجواب إلى زكريا، حتى ظن زكريا أن القطار لم يقم أبداً من محطة البداية، أو أن السفينة لم تقلع من الميناء لتسير في بحر الله العظيم، يجيب الكسندر هوايت على ذلك، بالقول إن السفينة كان عليها أن تنتظر سفينة أخرى، تسير هي في المقدمة، والأخرى على مقربة منها، إذ أن الصبي الذي سيولد، سيكون مرتبطًا بصبي أعظم، ورسالة الصبي الأول هي أن يكون خادمًا ومعلنًا عن مجيء الصبي الآخر، فقطار يوحنا أشبه بالقطار الذي يسبق قطار الملك ليعد لوصوله ومجيئه!

ظن البعض أن زكريا انتهز الفرصة الوحيدة في عمره في هيكل الله عند تقديم البخور ليطلب طلبته القديمة، ولكن النص الكتابي واضح كل الوضوح بأن زكريا كان لا يتوقع إطلاقًا – وقد بلغت الشيخوخة منه ومن امرأته – أن يكون هناك ثمة رجاء في مجيء ابن في ذلك الوقت المتأخر من العمر، وأعتقد أن الخبر نفسه قد أثار ارتباكه إلى حد بعيد، وكأنما يقول للملاك :  لا لقد جئت متأخرًا، ومتأخرًا جدًا، ومن ذا الذي يشرف على تربية الولد وتنشئته؟! لو أنك جئت بالخبر قبل ذلك بأربعين عامًا، لكانت بشارتك أعظم بشارة. وحديثك اشهى حديث إلى النفس، ثم كيف يمكن أن يكون هذا، وقد أصبحت شيخًا فانيًا وامرأتي كذلك! لقد أثار زكريا المشكلة التي يثيرها الضعف البشري عندما توزن الأمور بموازين العقل البشري! ولكن الله لا يمكن أن تنتهي طريقه بنهاية التفكير البشري أو حدود الذهن الإنساني! وقد عوقب زكريا، عندما أراد أن يوقف قدرة الله عند منعطف الذهن الإنساني القاصر! وكانت العقوبة غريبة في حد ذاتها، من المعتقد أنه لم يصب فقط بالبكم بل بالصمم أيضًا، وقد تعذر عليه أن يتكلم إلى الشعب، ولا إلى الذين تكلموا إليه يوم ميلاد ابنه، وتكرر القول  :  «فكان يؤميء إليهم وبقي صامتاً.. ثم أومأوا إلى أبيه ماذا يريد أن يسمى» (لو 1 : 22 و62) وإذا كان الإيماء الأول من جانبه دليلاً على عجزه عن الكلام، لكن الإيماء الثاني من جانب المخاطبين، ينهض دليلاً على تعذر التفاهم معه بالكلام، والحاجة إلى الإشارة التي يمكن أن تقوم مقام الكلام! على أن هذه العقوبة الظاهرة كانت في واقع الحال رحمة من الرب بالرجل، الذي عاد إلى بيته، لتنضم إليه زوجته في نوع من العزلة إذ «أخفت نفسها خمسة أشهر قائلة هكذا قد فعل بي الرب في الأيام التي نظر فيها إلى لينزع عاري بين الناس» (لو 1 : 24 و25) كان على زكريا وامرأته أن يقضيا فترة خصبة في روح التأمل والشركة مع الله، وكان عليهما أن يصما آذانهما عن البشر والعالم، ليشكرا الله على العطية الجديدة المرتقبة، ولكي يتعلما في السكون والصمت حكمة أعلى وأسمى وأقوى! ومن المناسب على أي حال في قصة الحياة أن نربط بينها وبين التأملات التي لابد منها، ونحن على مقربة من التوقعات الكبرى التي تبدو لنا قريبة، وقد قيل إن رمسيس الثاني تعود أن يخرج من زمام الحياة، إلى غرفة كان يطلق عليها اسم «غرفة التأملات» ونحن في القرن الحادي العشرين أكثر حاجة إلى هذه الغرفة، التي فيها يمكن أن نتعلم الكثير من الدروس والعلوم والحقائق، ولعل الجبال التي كان يقطن فيها زكريا – والتقليد يقول إنها جبال حرمون – ساعدته كثيرًا على التأمل والسكون في حضرة الله!!

ومن اللازم أن نتذكر – بالإضافة إلى ذلك – أن الله اعطي الجواب على سؤال زكريا القديم، وهو في هيكل الله، ومع أننا نستطيع أن نأخذ جواب الله في كل مكان، لكن ما أكثر ما يلتقي بنا الله بالجواب العظيم، في بيته المبارك، عندما نصرخ أمامه  :  «لتستقم صلاتي كالبخور قدامك ليكن رفع يدي كذبيحة مسائية» (مز 141 : 2) عندما نضع صلاتنا أمامه وننتظر! 

زكريا وابنه 

جاء المعمدان ابن الشيخوخة الطاعنة في السن، ومع ذلك فهو المعمدان الذي لم يقم له نظير بين المولودين من النساء، وليس الأمر الهام هو كم عدد الأولاد في البيوت، حتى ولو كانوا مثل غروس الزيتون حول المائدة، إذ أن الأفضل من ذلك هو النوع، إذ أن المعمدان الواحد أفضل من مئات وألوف من الأولاد العاديين، إن الشخص الهام العظيم، هو الذي يعادل جيشًا بأكمله، لقد جاء المعمدان في روح إيليا، وعندما صعد إيليا إلى السماء بكاه إليشع صارخًا  :  «يا أبي يا أبي مركبة إسرائيل وفرسانها» (2مل 2 : 12) كما أن ملك إسرائيل قال الشيء نفسه عن أليشع :  «ومرض أليشع مرضه الذي مات به، فنزل إليه يوآش ملك إسرائيل وبكى على وجهه وقال يا أبي يا أبي يا مركبة إسرائيل وفرسانها» (2مل 13 : 14). ولا شبهة في أن البيت يتغير كثيرًا بوجود ولد واحد أم أولاد كثيرين، ومن المعتقد أن زكريا وأليصابات كانا في حاجة إلى يوحنا، كما كان يوحنا في حاجة إليهما، أما الأبوان فقد كانا في حاجة إلى الصبي الذي يزيل وحشتهما، ويؤنس شيخوختهما، ويشيع في المنزل جوًا من البهجة والجلال والسعادة، هيهات أن تكون مع عدم وجود الأولاد الصغار، ومن المؤكد أن الأولاد يعملون على اتساع أذهان الآباء وقلوبهم وصدروهم، ويعطونهم طعمًا من الحياة كان من المستحيل معرفته أو الوصول إليه بدونهم! وفي الوقت عينه من المؤكد أن المعمدان كان في حاجة، وهو يتدرج من مراحل الحياة وينمو مع الأيام، إلى أبوين مثل زكريا وأليصابات، لقد عاش الغلام فوق الجبال في بيت يكاد يكون معزولاً، وكان لابد له من هذه العزلة التي تحميه من التلوث بفساد الحياة مع العالم وضجيجها، إلى يوم ظهوره لإسرائيل،.. ومع أن الله يستطيع دون أدنى ريب أن يخرج من البيت الشرير أقدس الأبناء، لكن العادة عنده أن الابن المقدس يخرج من أحضان أبوين عرفا الله وعاشا في الشركة المقدسة معه، والولد سر أبيه، وعلى شبهه كما تذهب الأمثال، وهو يأخذ بالوراثة الشيء الكثير، ليس من الوجهة البدنية أو العقلية فحسب بل من الوجهة الروحية أيضًا، وهنا يقول جيمس هاستينجر  :  «سعيد من له أو لها مثل هذا الأب أو الأم، ومثل هذا المهد الذي يتربى فيه في البيت، ولقد خرج أعظم قديسين وعظماء  من أمثال هذه البيوت، وتأثير الأم هنا على وجه الخصوص بعيد وعميق، إذ أنه يغلب أن الرجال العظماء والصالحين لعبت الأمهات الدور  الهام في تربيتهم وتنشئتهم. وربما تفوقت في حياة الأولاد! وقد كانت التربية الدينية اليهودية خير مثال على ذلك. وربما كانت كلمات الفرد أورشايم خير ما يقال في هذا الصدد :  «من المؤكد أن تربية الولد كانت تقع أولا على عاتق أمه، لكن الأب كان عليه أن يحمل العبء  من الابتداء وإذا لم يكن على نصيب من المعارف الأولية، فإن غريبًا كان يتولى التعليم، وكان التعليم البيتي يبدأ – في أيام المسيح – عندما يبلغ الطفل الثالثة من العمر، وهناك ما يدعو إلى اليقين من أن الذاكرة كانت تدرب قبل ذلك التاريخ، على ما أصبح واضحاً من العقلية اليهودية نفسها، فالآيات الكتابية، وألفاظ البركة، والأقوال الحكيمة كانت تطبع في ذهن الصغير، يرددها لتسهل ما يرغبون في تلقينه إياه، وعند الخامسة كانوا يبدأون معه التوراة، ولكن ليس من سفر التكوين، بل من سفر اللاويين، إذ كانوا يعتقدون أن تاريخ الشعب أكثر من أن يستوعبه الصغير – في مثل هذه السن – شفويًا، وفي السادسة كانوا يرسلونه إلى المدرسة الابتدائية أو الأولية، ومن المتصور أن السيد أرسل إلى المجمع في ذلك الوقت، والهدف الأساسي أمام العلم الذي يتولى التعليم في هذه السن، كان لتهذيبه في الأخلاق إلى جانب إعطائه المعرفة العقلية، وفي العاشرة كان عليه أن يتعلم «المشنا» التي تحدثه عن التقاليد، وفي الخامسة عشرة يلزم أن يكون مستعدًا للتلمود، أو التفاسير الدينية التي توضع أمامه!! ومن المتصور أن يوحنا المعمدان لم يخرج عن هذه القاعدة في صبوته وشبابه الباكر!  

ولعله من المناسب أن نذكر هنا أن مجيء المعمدان ومجيء المسيح كانا مصحوبين بالترنم والأغاني، وقد دون لوقا خمس أغاني، فالملائكة قد غنوا أغنية «المجد لله» والعذراء أغنية التعظيم «تعظم نفسي الرب» وأليصابات أغنية التطويب «مباركة» وسمعان أغنية «الاطلاق» أو «الاعتاق» وزكريا أغنية «البركة – مبارك الرب إله إسرائيل» وهذه الأغاني أضحت معروفة من اللفظ الأول في الأغنية، ويعنينا الآ أن نقف قليلاً من زكريا وهو يغني أغنية أمام ميلاد ابنه العظيم! لقد تنبأ زكريا بالروح القدس عن عظمة ابنه، وقد سبق الملاك أن كشف عن هذه العظمة أمام الله، وعن حياته كنذير معزول عن الآخرين لا يشرب خمرًا أو مسكرًا، بل من بطن أمه يمتليء بروح الله الذي يسيطر عليه ويقوده منذ البداية! والذي سيرد الكثيرين عن المعصية والشر، إذ سيرد قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى فكر الأبرار ويهيء شعبًا مستعدًا للرب!  

ومع أن زكريا تحدث بلغة العهد القديم، إلا أن هذه اللغة حملت في نسماتها عبق العهد الجديد وشذاه، وغنى الرجل شاكرًا  الله على المسيح الآتي الذي سيخلص الشعب من أعدائه ومبغضيه، ويقيم قرن الخلاص كما تكلم بالأنبياء القديسين، وكان على ابنه أن يمهد لهذا المجيء، ويعد الطريق، على النحو العظيم الذي فعله بكل شجاعة وغيرة وقوة وأمانة.  

ومع أن ابن الشيخوخة يكون – على الأغلب – ضعيف الجسد، وادع النفس، هاديء المسار، لكن المعمدان كان على العكس من كل هذا، إذ كان ملتهبًا شجاعًا ثائرًا! ومع أنه جاء متأخرًا في حياة الأب، إلا أنه كان عظيمًا وسباقًا وأفضل من ملايين الملايين من أبناء الشباب الذين يأتون في مطلع الحياة، وفضل القوة ورفعة الأيام.

  

 

\"\"

صورة لكنيسة النبي زكريا (القرن التاسع )

تخليدا لحياة زكريا والد يوحنا المعمدان

فينيتسيا – ايطاليا

 

نشيد زكريا

(لوقا 1/67-79)

67"وَامْتَلأَ زَكَرِيَّا أَبُوهُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَتَنَبَّأَ قَائِلاً: 68«مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ افْتَقَدَ وَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ 69وَأَقَامَ لَنَا قَرْنَ خَلاَصٍ فِي بَيْتِ دَاوُدَ فَتَاهُ. 70كَمَا تَكَلَّمَ بِفَمِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ هُمْ مُنْذُ الدَّهْرِ. 71خَلاَصٍ مِنْ أَعْدَائِنَا وَمِنْ أَيْدِي جَمِيعِ مُبْغِضِينَا. 72لِيَصْنَعَ رَحْمَةً مَعَ آبَائِنَا وَيَذْكُرَ عَهْدَهُ الْمُقَدَّسَ. 73الْقَسَمَ الَّذِي حَلَفَ لإِبْرَاهِيمَ أَبِينَا: 74أَنْ يُعْطِيَنَا إِنَّنَا بِلاَ خَوْفٍ مُنْقَذِينَ مِنْ أَيْدِي أَعْدَائِنَا نَعْبُدُهُ 75بِقَدَاسَةٍ وَبِرٍّ قُدَّامَهُ جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِنَا. 76وَأَنْتَ أَيُّهَا الصَّبِيُّ نَبِيَّ الْعَلِيِّ تُدْعَى لأَنَّكَ تَتَقَدَّمُ أَمَامَ وَجْهِ الرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ. 77لِتُعْطِيَ شَعْبَهُ مَعْرِفَةَ الْخَلاَصِ بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ 78بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلَهِنَا الَّتِي بِهَا افْتَقَدَنَا الْمُشْرَقُ مِنَ الْعَلاَءِ. 79لِيُضِيءَ عَلَى الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ لِكَيْ يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا فِي طَرِيقِ السَّلاَمِ»".