جلسة الأسئلة والأجوبة في ختام السنة الكهنوتية

"الكاهن لا يزاول مهنة… إنه إنسان هائم بالمسيح"

حاضرة الفاتيكان، الجمعة 18 يونيو 2010 (Zenit.org) –

الأسئلة والأجوبة التي جمعت بندكتس السادس عشر والكهنة مساء الجمعة خلال أمسية الصلاة في ساحة القديس بطرس بمناسبة لقاء الكهنة الدولي المنعقد في ختام سنة الكهنة.

***

أميركا

س: أيها الأب المبارك، أنا الأب خوسيه إدواردو أوليفيرا إي سيلفا، وأنا من أميركا، تحديداً من البرازيل. إن معظم الحاضرين هنا ملتزمون بالعمل الرعوي المباشر في الرعية، وليس فقط مع جماعة واحدة، وإنما نؤدي أحياناً خدمتنا الكهنوتية في عدة رعايا أو ضمن جماعات كبيرة. بنية حسنة، نسعى إلى تلبية احتياجات مجتمع متبدل، مجتمع لم يعد مسيحياً بالكامل، لكننا ندرك أن عملنا ليس كافياً. صاحب القداسة، كيف لنا أن نتقدم؟ وفي أي اتجاه؟

بندكتس السادس عشر: أيها الأحباء، أرغب أولاً في التعبير عن فرحي الكبير باجتماع كهنة هنا من كل أنحاء العالم، في فرح دعوتنا ورغبتنا في خدمة الرب بكل ما أوتي لنا من قوة في هذا الزمن، زمننا.

رداً على السؤال، أنا أدرك صعوبة أن يكون المرء كاهن رعية، وبخاصة في بلدان المسيحية القديمة؛ فالرعايا تصبح أكثر اتساعاً، كوحدات رعوية… من الصعب التعرف إلى كل الناس، من الصعب إنجاز كل المهام المتوقعة من الكاهن. وبالتالي فإننا نتساءل فعلاً عن كيفية التقدم، كما ذكرتم. لكنني أود أن أقول بداية: إنني أعلم أن هناك العديد من الكهنة في العالم الذين يعملون بكل قواهم من أجل التبشير بالإنجيل، وحضور الرب وأسراره. إلى هؤلاء الكهنة، أعبر عن شكري الكبير في هذا الوقت. لقد قلت أنه لا يمكن إنجاز كل الأمور المرغوب فيها والتي ينبغي القيام بها، لأن قوانا محدودة والظروف صعبة في مجتمع أكثر تعددية وتعقيداً. أعتقد أنه من المهم أن يرى المؤمنون أن الكاهن لا يزاول مهنة، ولا ينهي ساعات عمل فيصبح حراً ويعيش لنفسه فقط، بل أنه رجل هائم بالمسيح، رجل ملتهب بمحبة المسيح. إن استطاع المؤمنون أن يروا أن الكاهن ممتلئ بفرح الرب، سيفهمون أنه غير قادر على إنجاز كل المهام، ويقبلون بمحدوديته، ويساعدونه. هنا تكمن النقطة الأساسية: أن نرى ونشعر بأن خادم الرعية يحس بأنه مدعو من الله؛ وأنه ممتلئ بمحبة الرب. في هذه الحالة، يلاحظ المرء استحالة القيام بكافة الأعمال. وبالتالي، فإن الشرط الأول يقوم على الامتلاء بفرح الإنجيل بكل كياننا. ولا بد من الاختيار ووضع أولويات والتمييز بين الممكن وغير الممكن. إننا نعرف الأولويات الثلاث الأساسية: هي الركائز الثلاث لوجودنا الكهنوتي. أولاً، الافخارستيا والأسرار: توفير إمكانية وحضور الافخارستيا، وتقديم قداس نهار الأحد، للجميع إن أمكن، والاحتفال به بطريقة يظهر من خلالها كفعل محبة الرب لنا. أما الركيزة الثانية فهي إعلان الكلمة بكل أبعادها: من الحوار الشخصي إلى العظة. والركيزة الثالثة هي "المحبة"، محبة المسيح: مساعدة المتألمين، الصغار، الأطفال، والمهمشين؛ وجعل محبة الراعي الصالح حاضرة فعلياً.

وتقوم أولوية أخرى على العلاقة الشخصية مع المسيح. في كتاب الصلوات، نقرأ في الرابع من نوفمبر عظة رائعة، نصاً للقديس تشارلز بوروميو، الراعي العظيم الذي بذل ذاته كلياً، والذي يقول لجميع الكهنة: "لا تهملوا روحكم: إن أُهملت روحكم، فلن تتمكنوا من إعطاء الآخرين ما ينبغي عليكم أن تعطوه. إذاً، يجب أن تخصصوا وقتاً لنفسكم، ولروحكم أيضاً". بمعنى آخر، تعتبر العلاقة مع المسيح، الحوار الشخصي مع المسيح، أولوية رعوية أساسية، وشرطاً في عملنا من أجل الآخرين! والصلاة ليست هامشية: إن "مهنة" الكاهن هي الصلاة كممثل أيضاً عن الأشخاص الذين لا يعرفون كيفية الصلاة أو لا يجدون وقتاً لذلك. إن الصلاة الفردية، وبخاصة صلاة الساعات، هي القوت الأساسي لروحنا، لكل عملنا.

ختاماً، لا بد من إدراك محدوديتنا، والانفتاح على هذا التواضع. دعونا نتذكر أحد المشاهد التي يصفها مرقس في الفصل السادس. عندما كان التلاميذ "مضطربين" وأرادوا إنهاء كل الأعمال، قال لهم الرب: "تعالوا أنتم على انفراد إلى مكان خال، واستريحوا قليلاً" (مر 6، 31). يمكنني القول أن ذلك عمل رعوي أيضاً: التحلي بالتواضع والجرأة للاستراحة. أعتقد أن الهيام بالرب، حب الرب، يظهر لنا الأولويات، الخيارات، ويساعدنا على إيجاد دربنا. الرب سيساعدنا. شكراً لكم جميعاً!

 

"اللاهوت الحقيقي… يسعى إلى الدخول بعمق في شركة مع المسيح"

***

إفريقيا

س: صاحب القداسة، أنا ماتياس أنييرو وأنا آت من إفريقيا، تحديداً من ساحل العاج. أنتم متعمقون في اللاهوت بينما نحن عندما ننجح، بالكاد نقرأ كتاباً عن اللاهوت للتنشئة. مع ذلك، يبدو لنا أن هناك فجوة بين اللاهوت والعقيدة، وحتى بين اللاهوت والروحانية. يشعر المرء أنه من الضروري ألا تكون الدراسة أكاديمية بالكامل، وأن تغذي روحانيتنا. هذا ما نشعر بأننا بحاجة إليه في الخدمة الكهنوتية عينها.

أحياناً، يبدو أن اللاهوت لا يجعل الله المحور، ولا يضع يسوع المسيح في "المستوى اللاهوتي" الأول، وبدلاً من ذلك تبرز ميول سائدة؛ وينتج عن ذلك انتشار آراء غير لائقة تسمح بإدخال فكر غير كاثوليكي في الكنيسة. كيف لنا ألا نضل في حياتنا وخدمتنا، عندما يكون العالم هو الذي يحكم على الإيمان وليس العكس؟ نحن نشعر بأننا تائهون!

بندكتس السادس عشر: شكراً. نحن نتناول الحديث عن مشكلة صعبة ومؤلمة. هناك فعلاً لاهوت يسعى إلى أن يكون أكاديمياً، ويظهر بمظهر علمي، وينسى الواقع الأساسي، حضور الله، حضوره بيننا، كلامه اليوم وليس فقط في الماضي. لقد ميز القديس بونافنتورا بين شكلين من اللاهوت في زمانه، فقال: "هناك لاهوت ناتج عن غطرسة العقل يسعى إلى الهيمنة على كل شيء، ويجعل من الله الفاعل موضوعاً ندرسه، في حين أنه ينبغي أن يكون شخصاً فاعلاً يتحدث معنا ويرشدنا".

إن سوء استخدام اللاهوت يعتبر غطرسة العقل ولا يغذي الإيمان بل يحجب حضور الله في العالم. إذاً، هناك لاهوت يسعى إلى المعرفة من خلال المحبة، لاهوت تحركه المحبة وترشده المحبة، ويسعى إلى معرفة المحبوب. هذا هو اللاهوت الفعلي الذي ينجم عن محبة الله، المسيح، ويسعى إلى الدخول في شركة أعمق مع المسيح. في الواقع أن الإغراءات كبيرة في هذا الزمن؛ وتُفرض اليوم بخاصة "رؤية العالم المعاصرة" التي تصبح معيار الممكن والمستحيل. بهذا المعيار الذي بموجبه لا يتغير شيء، وتعتبر كل الأحداث التاريخية من النوع عينه، يتم استبعاد جدة الإنجيل، وظهور الله، الجدة الفعلية التي تشكل فرح إيماننا.

ما العمل؟ أقول للاهوتيين أولاً: تشجعوا. وأعبر عن شكري أيضاً للعديد من اللاهوتيين الذين يعملون جيداً. هناك تعسف واضح، وإنما هناك أيضاً العديد من اللاهوتيين الذين يعيشون في مختلف أنحاء العالم وفقاً لكلمة الله، ويقتاتون من التأمل، ويعيشون إيمان الكنيسة ويرغبون في المساعدة لكيما يكون الإيمان حاضراً في زماننا. إلى هؤلاء اللاهوتيين، أقدم امتناني الكبير.

وأقول للاهوتيين عامة: "لا تخافوا من طيف العلمية!" إني أتابع اللاهوت منذ سنة 1946، إذ بدأت بدراسته في يناير 1946. وتمكنت من التعرف إلى ثلاثة أجيال من اللاهوتيين تقريباً. وأستطيع أن أقول أن الفرضيات التي كانت قائمة في ذلك الزمان، وفي السبعينيات والثمانينيات، كانت الأحدث، وكانت علمية وشبه عقائدية، إلا أنها أصبحت قديمة وفقدت قيمتها! حتى أن عدداً منها يبدو سخيفاً. لذلك ينبغي التحلي بالشجاعة لمقاومة العلمية الظاهرة، وعدم الخضوع لكل الفرضيات، وللتفكير انطلاقاً من إيمان الكنيسة العظيم الحاضر في كل الأزمنة مما يفتح لنا المجال للوصول إلى الحقيقة.

يجب ألا نعتبر أن التفكير الوضعي الذي يستبعد السامي – الذي لا يمكن بلوغه – هو التفكير الصحيح! هذا التفكير الضعيف الذي يقدم فقط الأمور التي يمكن اختبارها، هو تفكير غير كاف. ينبغي علينا نحن اللاهوتيون أن نستخدم التفكير العظيم المنفتح على عظمة الله. ينبغي علينا التحلي بالشجاعة لتخطي الوضعية لبلوغ مسألة أصل الوجود. هذا يبدو لي مهماً جداً. وبالتالي، يجب أن نتحلى بشجاعة التفكير العظيم، وبتواضع عدم الخضوع لكل فرضيات الزمن، لنعيش انطلاقاً من إيمان كنيسة جميع الأزمنة. ما من أكثرية ضد أكثرية القديسين: الأكثرية الحقيقية هي مؤلفة من قديسي الكنيسة، والقديسون هم الذين يرشدوننا!

إلى الإكليريكيين والكهنة، أقول الأمر عينه: فكروا في أن الكتاب المقدس ليس كتاباً منفصلاً. هو حي في الجماعة الكنسية الحية الأساسية في كل العصور والتي تضمن وجود كلمة الله. لقد أعطانا الرب الكنيسة الحية مع الأساقفة المتحدين مع البابا. وواقع وجود أساقفة العالم المتحدين مع البابا يضمن لنا الشهادة للحقيقة الدائمة. دعونا نثق بتعليم شركة الأساقفة مع البابا الذي يمثل لنا حضور الكلمة. ودعونا نثق بحياة الكنيسة. ولنتحل بروح النقد.

بالطبع أن التنشئة اللاهوتية مهمة جداً – هذا ما أرغب في قوله للإكليريكيين. في زماننا، ينبغي علينا أن نعرف الكتاب المقدس جيداً، أمام هجمات البدع؛ ينبغي علينا أن نكون أصدقاء الكلمة. ولا بد لنا أيضاً من معرفة تيارات عصرنا لنتمكن من الاستجابة بطريقة عقلانية، لنتمكن من إعطاء سبب لإيماننا – كما يقول القديس بطرس. التنشئة مهمة جداً. وإنما لا بد لنا أيضاً من التحلي بروح النقد: معيار الإيمان هو أيضاً المعيار الذي يجب أن يُنظر من خلاله إلى اللاهوتيين واللاهوت. لقد أعطانا البابا يوحنا بولس الثاني مرجعاً أكيداً في "تعليم الكنيسة الكاثوليكية"، مرجعاً نرى فيه خلاصة إيماننا؛ وهذا التعليم هو المعيار للتمييز بين لاهوت مقبول وغير مقبول. إني أوصي إذاً بقراءة هذا النص ودراسته وهكذا يمكننا التقدم بلاهوت ناقد بالمعنى الإيجابي، أي نقد للميول الشائعة، نقد منفتح على الجدة الفعلية، مع عمق كلمة الله التي تظهر جدتها في كل الأزمنة وأيضاً في زماننا.

 

"التبتل… هو دليل إيمان عظيم"

***

أوروبا:

س: أيها الأب الأقدس، أنا كارول ميكولسكي، جئت من أوروبا وتحديداً من سلوفاكيا، وأخدم كمرسل في روسيا. عندما أحتفل بالقداس الإلهي، أجد ذاتي وأفهم أنني أجد هويتي فيه إضافة إلى جذور وطاقة خدمتي. تكشف لي ذبيحة الصليب الراعي الصالح الذي يعطي كل شيء لقطيعه، ولكل خروف. عندما أقول: "هذا هو جسدي… هذا هو دمي" الذي يبذل من أجلكم، أفهم جمال التبتل والطاعة اللذين نذرتهما طوعاً عند السيامة.

على الرغم من الصعاب، أرى التبتل واضحاً بالنظر إلى المسيح، لكنني أشعر بالارتباك لدى قراءة الكثير من النقد حول هذه الهبة. أيها الأب الأقدس، أسألكم بتواضع أن تشاركونا أفكاركم حول عمق التبتل الكنسي ومعناه الحقيقي.

بندكتس السادس عشر: شكراً على القسمين في سؤالك: على الأول حيث تتحدث عن الأساس الدائم والحيوي لتبتلنا، وعلى الثاني الذي يظهر الصعاب التي نعيشها في هذه الأيام.

القسم الأول مهم إذ أن الاحتفال اليومي بسر الافخارستيا المقدس ينبغي أن يشكل محور حياتنا. فيه، تعتبر كلمات التكريس أساسية – "هذا هو جسدي، هذا هو دمي" – لأننا نقولها "بشخص المسيح". يسمح لنا المسيح باستخدام ضمير "الأنا" الخاص به – إننا نتكلم بـ "أنا" المسيح –، يجتذبنا المسيح إلى ذاته، ويسمح لنا بتوحيد أنفسنا، إذ يوحدنا بـ "الأنا" العائد إليه. هكذا، من خلال هذا العمل، يجتذبنا إلى ذاته، ليصبح "الأنا" الخاص بنا متحداً مع ضمير "الأنا" خاصته، ويحقق دوام كهنوته ووحدته. وبالتالي، فإن المسيح هو دوماً الكاهن الأوحد، الحاضر حتى الآن في العالم، لأنه يجتذبنا إلى ذاته ويجعل الخدمة الكهنوتية قائمة.

هذا يعني أننا "مجتذبون" إلى إله المسيح: هذه الوحدة مع "الأنا" العائد إليه هي التي تتحقق في كلمات التكريس. كذلك، في "إنني أغفر لك" – لأن ما من أحد بيننا قادر على مغفرة الخطايا – وحده "أنا" المسيح، الله، هو القادر على المغفرة. يدل اتحاد "الأنا" العائد إليه مع "الأنا" خاصتنا على أننا "مجتذبون" أيضاً إلى واقع القائم من بين الأموات، نحن نتقدم نحو حياة القيامة التامة الذي يتحدث يسوع عنها مع الصدوقيين في الفصل 22 من إنجيل متى. إنها حياة "جديدة" نتخطى فيها الزواج (مت 22: 23، 32).

من المهم أن نسمح دوماً لأنفسنا بالامتلاء مجدداً من تطابق "أنا" المسيح معنا، من خلال الانطلاق نحو عالم القيامة. بهذا المعنى، يكون التبتل استباقاً للأمور. نحن نتجاوز هذا الزمن ونتقدم، ونجتذب أنفسنا وزماننا نحو عالم القيامة، نحو جدة المسيح، نحو الحياة الجديدة والحقيقية. لذا، فإن التبتل هو استباق ممكن من خلال نعمة الرب الذي يجتذبنا إليه نحو عالم القيامة؛ هو يدعونا دوماً إلى السمو فوق أنفسنا وحاضرنا، نحو حاضر المستقبل الفعلي الذي يضحي حاضراً اليوم.

هذه نقطة مهمة. إن مشكلة المسيحية الكبيرة في العالم المعاصر هي أن التفكير لم يعد يهتم بمستقبل الله: يبدو حاضر هذا العالم كافياً. نريد فقط أن نملك هذا العالم، أن نعيش فقط في هذا العالم. وبالتالي فإننا نغلق الأبواب على عظمة وجودنا الحقيقية. إن معنى التبتل كاستباق يقضي بفتح هذه الأبواب وجعل العالم أعظم وإظهار واقع المستقبل الذي نعيشه كما لو أنه حاضر. إن العيش على هذا النحو هو شهادة للإيمان: نحن نؤمن بأن الله موجود، وأنه يدخل إلى حياتنا، وأننا قادرون على تأسيس حياتنا على المسيح، على الحياة المستقبلية.

نحن ندرك النقد الدنيوي الذي تحدثتم عنه. صحيح أن التبتل عثارة كبيرة في العالم اللاأدري، العالم الذي لا يؤخذ فيه الله بالاعتبار، ذلك لأنه يظهر أن الله مأخوذ بالاعتبار في حياتنا. من خلال حياة التبتل الإسكاتولوجية، يدخل عالم الله المستقبلي في واقع زماننا. ينبغي على ذلك أن يتلاشى! بمعنى ما، هذا النقد الدائم للتبتل مفاجئ في زمن يروج فيه الامتناع عن الزواج. مع ذلك، فإن الامتناع عن الزواج هو مختلف كلياً عن التبتل لأن الامتناع عن الزواج مبني على الرغبة في أن يعيش المرء وحيداً لذاته، ولا يقبل برباط حاسم، ويعيش الحياة كلها باستقلالية تامة، ويقرر ما يريد فعله في كل لحظة، وما يريد غرفه من الحياة؛ إنه "رفض" للرباط، و"رفض" للحسم، وعيش حياة فقط للذات. لكن التبتل هو النقيض تماماً: إنه "قبول" حاسم، السماح بأن يأخذنا الله بيدنا، تسليم الذات ليدي الرب، للأنا الخاص به. إنه فعل إخلاص وثقة، فعل يستلزم الإخلاص الزوجي؛ إنه نقيض هذا "الرفض"، هذه الاستقلالية التي لا ترغب في إلزام ذاتها، ولا تريد الارتباط؛ إنه "القبول" الحاسم الذي يؤكد "قبول" الزواج.

وهذا الزواج هو الشكل البيبلي، الشكل الطبيعي للرجل والمرأة، أساس الثقافة المسيحية العظيمة، ثقافات العالم العظيمة. وإن اختفى ذلك، ستتدمر جذور ثقافتنا. لذلك، يؤكد التبتل "قبول" الزواج بـ "قبول" العالم المستقبلي. لذا نتمنى المضي قدماً وجعل صخب الإيمان حاضراً، هذا الإيمان الذي يجعل كل الأمور مرتبطة بالله. نحن نعلم أنه إلى جانب هذه العثارة الكبيرة التي لا يريد العالم رؤيتها، هناك الفضائح الثانوية المتعلقة بنقصنا وآثامنا التي تخفي العثارة الحقيقية وتدفع إلى التفكير: "ولكنهم لا يعيشون فعلاً على أساس الله!"

مع ذلك، هناك أمانة عظيمة! التبتل، كما يظهره النقد، هو دليل عظيم على الإيمان، وحضور الله في العالم. دعونا نصلي للرب لكيما يساعدنا على التحرر من الفضائح الثانوية، وعلى نشر إيماننا: الثقة، قوة حياتنا، القائمة على الله ويسوع المسيح

 

"ينبغي علينا دوماً أن نحتفل بسر الافخارستيا ونعيشه ونتأمل به"

***

آسيا:

س: أيها الأب الأقدس، أنا أتسوشي ياماشيتا. أتيت من آسيا وتحديداً من اليابان. صاحب القداسة، إن المثال الكهنوتي الذي اقترحتموه في هذه السنة، خوري آرس، يرى في محور الوجود وسر الافخارستيا عملاً تكفيرياً سرياً وشخصياً ومحبة للعبادة المحتفل بها بشكل مناسب. أرى أمامي دلائل فقر القديس جون فياني الشديد وشغفه بالأمور الثمينة وبالعبادة. كيف نعيش هذين البعدين الأساسيين لوجودنا الكهنوتي من دون الوقوع في الإكليروسية أو في الابتعاد عن الواقع؟

الأب الأقدس: شكراً. سؤالكم يتعلق بكيفية عيش محورية سر الافخارستيا من دون الضلال في حياة تعبدية بحتة، غريبة عن حياة الآخرين اليومية. نحن نعلم أن الإكليروسية لطالما شكلت على مر القرون إغراء للكهنة ولا تزال كذلك؛ وبالتالي، من المهم إيجاد السبيل الفعلي لعيش سر الافخارستيا الذي لا يقضي بالانغلاق على العالم، وإنما بالانفتاح على احتياجات العالم. ينبغي علينا أن نتذكر دوماً بأن هذا الحدث العظيم الذي يخلي فيه الله ذاته ويتخلى عن مجده – كما يرد في الرسالة إلى أهل فيليبي – ويتضع ليصير شبيهاً بنا وينحدر إلى الموت على الصليب (فيل 2)، يتحقق في سر الافخارستيا. إن حدث محبة الله الذي يخلي ذاته ويتخلى عنها ليكون معنا –يضحي موجوداً في سر الافخارستيا؛ الحدث العظيم لمحبة الله هو اتضاع الله الذي يعطينا ذاته.

من هنا، لا بد من اعتبار سر الافخارستيا كالمدخل إلى هذه الدرب الإلهية. يقول القديس أغسطينوس في المجلد العاشر من De Civitate Dei: "Hoc est sacrificium Christianorum: multi unum corpus in Christo" أي أن تضحية المسيحيين تقوم على اتحادهم من خلال محبة المسيح في وحدة جسد المسيح الأوحد. تقضي التضحية بالتخلي عن ذواتنا، والانجذاب نحو شركة الخبز الأوحد والجسد الأوحد، والدخول في مغامرة محبة الله. لذا، ينبغي علينا الاحتفال بسر الافخارستيا وعيشه والتأمل به، كطريقة للتحرر من "الأنا": للدخول إلى الخبز الأوحد، خبز الجميع الذي يوحدنا في جسد المسيح الواحد. لذلك، يعتبر سر الافخارستيا فعل محبة يلزمنا بواقع محبة الآخرين: ذبيحة المسيح هي شركة الجميع في جسده. بهذه الطريقة يجب أن نتعلم سر الافخارستيا الذي يعتبر نقيض الإكليروسية، الانغلاق على الذات.

دعونا نفكر أيضاً بالأم تريزا، المثال الأعظم في هذا القرن، وفي هذا الزمن، لمحبة تتخلى عن ذاتها وعن كل أشكال الإكليروسية والابتعاد عن العالم، محبة تتجه نحو الأكثر تهميشاً وفقراً والمحتضرين وتكرس ذاتها بالكامل لمحبة الفقراء والمهمشين. لكن الأم تريزا التي أعطتنا هذا المثال – والجماعة التي تسير على خطاها – لطالما كانت تضع وجود بيت للقربان كشرط أول في مؤسساتها. من دون وجود محبة الله الذي يبذل ذاته، لم يكن ممكناً إنجاز تلك الرسالة، لم يكن ممكناً العيش في هذا التخلي عن النفس؛ فقط من خلال مشاركتهن في هذا التخلي عن الذات في الله، في الحدث الإلهي، في الاتضاع الإلهي، أصبحن قاردات على إنجاز فعل المحبة العظيم، هذا الانفتاح على الجميع. من هنا أقول أن عيش الافخارستيا بمعناه الحقيقي وعمقه الفعلي هو مدرسة حياة وأفضل حماية من كل ميل نحو الإكليروسية.

أوقيانيا

س: صاحب القداسة، أنا أنطوني دينتون. أتيت من أوقيانيا، وتحديداً من أستراليا. في هذا المساء، جئنا إلى هنا بأعداد كبيرة. لكننا نعلم أن إكليريكياتنا لا تضم العديد من الكهنة وأن انخفاضاً حاداً في الأعداد ينتظرنا في المستقبل في عدة أنحاء من العالم. ما هو العمل الفعال للدعوات؟ كيف نقترح حياتنا وعظمتها وجمالها على شباب زماننا؟

بندكتس السادس عشر: شكراً. لقد تحدثتم عن مشكلة مهمة ومؤلمة في زماننا: نقص الدعوات الذي تكاد الكنائس المحلية تتحول بسببه نحو الذبول نظراً إلى غياب كلمة الحياة، وغياب حضور سر الافخارستيا والأسرار الأخرى.

ما العمل؟ هناك إغراء عظيم يدعونا إلى الاهتمام بالأمور بأنفسنا، وتحويل الكهنوتسر المسيح، فعل اختياره لنا – إلى مهنة عادية، عمل تنتهي ساعاته المحددة فيصبح الكاهن ملكاً لذاته فقط في الساعات المتبقية، مما يجعله مشابهاً للدعوات الأخرى وسهلاً. لكن هذا الإغراء لا يحل المشكلة. إنه يجعلني أفكر بقصة شاول ملك إسرائيل الذي ينتظر صموئيل قبل محاربة الفلسطيين لتقديم الذبيحة الضرورية لله. وعندما لا يأتي صموئيل في الوقت المحدد، يقدم الذبيحة بنفسه على الرغم من أنه لم يكن كاهناً (1 صم 13). يعتقد أنه يحل المشكلة التي لم يحلها طبعاً لأنه يقوم بنفسه بما لا يستطيع فعله، ويعتبر نفسه الله، ولا يمكن أن تسير الأمور على هذا النحو. نحن أيضاً، إن كنا نقوم بعملنا كالآخرين، من خلال التخلي عن الطابع المقدس والجدة واختلاف السر الذي يعطيه الله فقط، والذي ينبثق عن دعوته وليس عن "عملنا"، فإننا لا نحل شيئاً. إضافة إلى ذلك – وكما يدعونا الرب – ينبغي علينا أن نصلي لله ونطرق الباب، قلب الله ليعطينا الدعوات؛ ينبغي علينا أن نصلي بإصرار وعزم كبيرين وقناعة راسخة لأن الله لا يتهرب من صلاة ملحة ودائمة وواثقة على الرغم من أنه يدفع المرء إلى الانتظار إلى أبعد من الزمن الذي توقعناه، كما حصل مع شاول.

هذه هي النقطة الأولى بالنسبة لي: تشجيع المؤمنين على التحلي بهذا الاتضاع، هذه الثقة، هذه الشجاعة على الصلاة بإصرار من أجل الدعوات، وعلى قرع قلب الله ليعطينا كهنة. هنا، أضيف ثلاث نقاط أخرى. الأولى: ينبغي علينا جميعاً أن نبذل قصارى جهدنا لنعيش كهنوتنا بطريقة مقنعة، بطريقة تحث الشباب على القول: إنها دعوة حقيقية، يمكننا أن نعيش على هذا النحو، وهكذا نستطيع أن ننجز عملاً مهماً للعالم. أعتقد أن ما من أحد بيننا كان سيصبح كاهناً لو لم يكن يعرف كهنة مقنعين كانت تشتعل فيهم نار محبة الله. إذاً النقطة الأولى هي أن نسعى إلى أن نكون كهنة مقنعين.

النقطة الثانية تقوم كما ذكرت سابقاً على دعوة الآخرين إلى مبادرة الصلاة، وإلى التحلي بهذا التواضع والثقة للتحدث مع الله بقوة وعزم. أما النقطة الثالثة فهي تقضي بالتحلي بالشجاعة للتحدث مع الشباب لمعرفة إن كانوا يشعرون بدعوة الله لهم لأن الكلمة البشرية كثيراً ما تكون ضرورية لحث المرء على الإصغاء للدعوة الإلهية؛ وتقضي بالتحدث إلى الشباب ومساعدتهم بخاصة على إيجاد سياق حيوي يستطيعون العيش فيه. يبدو عالم اليوم وكأنه يستبعد نضوج دعوة كهنوتية. إن الشباب بحاجة إلى بيئات يعاش فيها الإيمان، وتظهر فيها روعة الإيمان، بيئات تبدو مثال الحياة، "المثال" للحياة. إنهم بحاجة إذاً إلى إيجاد حركات أو رعية – الجماعة وسط رعية – أو بيئات أخرى يكونون فيها محاطين بالإيمان، بمحبة الله، فيتمكنون من الانفتاح لتأتي دعوة الله وتساعدهم. من جهة أخرى، فلنشكر الرب على جميع الإكليريكيين في زماننا، وعلى الكهنة الشباب، ولنصل. الرب سيساعدنا! شكراً لكم جميعاً.