ايليا النبي 1 – الجفاف

للأب هاني باخوم كيرولس

 

"الآن كفى. كفى ياربّ، خذ حياتي، انا لست افضل من آبائي" (1 مل 19: 4). هكذا يصرخ ايليا الى الرّبّ. ايليا النّبي الذي يقول عنه الكتاب: "ما اعظم مجدك يا ايليا! ومن له فخر كفخرك؟" (سي 48: 4). ايليا الذي سيعود ليحضّر مجيء المسيح (مت 11: 14) نراه يجلس وحيداً في الصّحراء ويصرخ. اليس هذا غريباً!! فالّنبي مكانه وسط الشّعب ليعلن حُبّ الله ورحمته، الآن هو وحيدٌ يرغب في الموت، فاقدٌ للأمل. لقد اصبح الموت نعمة له، وكأنه يهرب من شيء ما. ممّ يهرب ايليا؟ من الم؟ من خوف، من شخص، من مرض، ام من الموت نفسه؟ وكيف؟ يرغب بالموت.  فماذا يوجد اقسى من الموت كي يدفعه ليرغب الموت؟ لماذا يتألّم ايليا؟

ايليا يظهر فجأة في كتاب الملوك الأوّل الفصل 17. هل هو من اصل نبوي ام كهنوتي؟ لا نعلم عنه شيئاً  الا انّه من سكان جلعاد. تبدأ القصة وتقول ان ايليا يتوجه لآحاب الملك ويقول له: "حيٌّ الرّبّ، اله اسرائيل، الذي انا واقف امامه! انه لا يكون في هذه السّنين ندى ولا مطر الاّ بأمري".

 ايليا يعلن الجفاف لشعب اسرائيل ولملكه. لماذا؟ ماذا فعل الشّعب وملكه ليستوجب هذا العقاب القاسي؟ لا مطر. في ارضٍ مثل اسرائيل تعتمد انهارها واوديتها عليه ، ولا ندى. اي ان ايليا لا يستجلب فقط الجفاف بل الموت البطيء لشعبه. كم هو قاسٍ هذا العقاب!! في اوقات كثيرة الموت الفوري افضل، هكذا بلا عذاب وألم… فهنا سترى الأمّ ابنها يموت امامها من العطش ويختنق من الجفاف لحظة بعد لحظة، وهي لا تعلم لماذا اغلقت السّماء ابوابها واقفلت مغاليقها؟ من الأفضل ان يُنزل الرّبّ عقاباً آخر، اقلّ قسوةً وان كان اكثر شدّة، فالموت الفوري أفضل بكثير. وكأن الله يتلذذ في عذاب البشر! ماذا فعل اسرائيل ليستوجب هذا وماذا فعل ملكه آحاب ليستحقّ هذا؟ آحاب مع شعبه تركوا الرّبّ، تركوا اله اسرائيل، وعبدوا البعل، اطلقوا عليه اسم اله المطر والخصوبة. آحاب وشعبه، الذي كان من قبل شعب الله، يقولون الآن ان المطر ينزل بفضل بعل، الإله الحقيقي. الشّعب ترك الرّبّ وسلك في طرقه الخاصة، لكنّ الرّبّ لم يتركه. وكيف يترك الأب ابنه الذي انجبه، نمّاه وكبّره، قاده واخرجه الى الحياة؟

لذا يفتقد الرّبّ شعبه، كعلامة على حبّه الأبدي، بإرساله ايليا ليعلن هذه الحالة من الجفاف. تلك هي رحمة الرّبّ، فالرّبّ يُظهر للشّعب خطيئته ويُقنعه بها، كي يرجع ويتوب عنها ويعود اليه. فهل هذه الحالة من الجفاف هي عقاب؟ ام إظهار لحالة الشّعب الدّاخلية بعد ان ترك الرّبّ؟ الشّعب بالفعل في حالة جفاف قبل الجفاف، في حالة عطش مستمر، ويحاول ان يرتوي من ينابيع لا تعطيه الا خيبة الأمل واليأس. الشّعب بالفعل يموت موتاً بطيئاً ولا يعرف السّبب. لكن الرّبّ يحبّ شعبه ويرحمه، فيسُدّ عليه تلك الينابيع السّرابية، لعله يرجع الى مصدر الحياة الحقيقي. الرّبّ يسمح ان يرى الشّعب بعينيه خطيئته ونتيجتها لكي يرجع ويتوب عنها. تلك هي الرّحمة. فالرّحمة ليست فقط ان يمحوَ الله الخطيئة، هذا سهل وبسيط وقد يفعله بلحظة، لكن الأصعب هو ان يُقنع الإنسان ان الخطيئة تسبب الموت له ولمن حوله، وان يجعله يختار بحريته ان لا يعود اليها. تلك هي الرّحمة. والتي ستتجلى كاملةً عندما سيرى الشّعب ان خطيئته ستقتل صانع الحياة، ابن الآب. هذا الجفاف هو صورة مسبقة لموت المسيح على الصّليب، الذي سيقول انا عطشان. هناك سيرى كل انسان خطيئته وسيرى ايضاً ملء حبّ الله.

اذاً يترك الشّعب الرّبّ ويعبد بعل، اله المطر حسب اعتقاده، والله يرسل الجفاف على لسان ايليا ليعرف هذا الشّعب من هو الإله الحقيقي. ما اصعب مهمتك يا ايليا! اول كلمة ستنطق بها: جفاف، لا مطر ولا ندى، اي موت. وكأنّه تناقض! فالنّبي الذي عليه ان يعلن الخلاص والتّعزية لمن هو في الحزن والموت، يجد نفسه مجبراً على إعلان الموت والجفاف لمن يعتقد انّه في الوفرة والرّخاء.

هذا هو الخلاص الحقيقي: ان يعرف الإنسان واقعه وحالته بعد الخطيئة وان كان قد أُعميَ عنها، وان يعرف ان هناك مرجعاً وطريقاً للتّوبة، للحياة من جديد. فالإنسان لا يستطيع ان يعرف فعل الله الخلاصي قبل ان يدرك ما فعلته الخطيئة به. لذا يستحضر ايليا الواقع امام شعبه، يجعله يدرك إلى اين اوصلته الخطيئة؟ النّبي يعلن الموت لكي يحيا الشّعب. نعم الّنبي يعلن الموت فيعطي فرصة للشّعب ليصرخ للإله الحقيقي وهكذا يرجع الى الحياة.

لكن هذا كله يعرفه فقط ايليا لانه نبيّ. الشّعب لا يفهم تدخل الرّبّ بهذه الطّريقة، لأنّ الشّعب في حالة خطيئة ولذا فَقَدَ هويته كشعبٍ نبويّ، اي شعبٍ يستطيع ان يفسر الأحداث على نور الإيمان، اي انّه فقدَ امكانية ان يرى محبة الله حتّى في احداث الموت والجفاف. لذا لا يكفي ان يعلن النّبي الموت كي يرجع الشّعب ويتوب الى الله. لم تعد الكلمات كافيةً لكي يقتنع الشّعب بخطيئته. لم يعد يكفي الموت اليومي من الجفاف لإقناع الشّعب بموته الحقيقي. لا لم يعد يكفي. الشّعب بحاجة لأكثر من هذا!

فكم هي كثيرة المآسي التي نراها من حولنا  من موت وصعاب والآم؟ لكن بالرغم من ذلك الكثير من الأشخاص يسلكون كلٌّ بطريقه وعلى طريقته ولا يرون حب الله ورحمته. فالأحداث القاسية والتي قد تكون وسيلة كي تذكرنا بحدودنا وتجعلنا نصرخ للإله الحقيقي، ابا يسوع المسيح، تصبح في كثير من الأحيان وسيلة كي نلعن الحياة اكثر، ونبكي على انقاضنا، ونلجأ لـ"بعل"، كي نحتمي فيه ونتناسى اوجاعنا، جفافنا، نتناسى ان لا مطر ولا ندى في ارضنا، في حياتنا. نعم لـ"بعل" والذي قد يكون المال، الضّمان، الرّاحة، الجنس، العواطف، العائلة، الأصدقاء أو اي وسيلة اخرى كي نرتوي منها ونروي السنتنا المتشققة من الجفاف بدلاً من ان نطلب المطر من صانع الحياة.

فلا يكفي الجفاف اذاً. لا تكفي الصّعاب كي يرجع الشّعب الى الرّبّ، ونرجع نحن معه. فإذاً ماذا سيصنع الرّبّ لكي يخلص شعبه الذي لم يعد يستمع اليه؟ الذي لم يعد يتعرف عليه في الأحداث اليومية؟……….الى المرّة القادمة.

أيام مباركة.