بقلم المونسنيور بيوس قاشا
بغداد، الجمعة 20 أغسطس 2010 (Zenit.org).
نعم، إنتهت احتفالات السنة الكهنوتية، يوم الحادي عشر من حزيران (يونيو) الماضي والذي صادف الإحتفال بعيد قلب يسوع الأقدس، ولم يحالفني الحظ أن أكون مع الكهنة الذين إحتفلوا بالذبيحة الالهية مع قداسة البابا بندكتس السادس عشر، ولكن عشتُها بالروح عبر مشاهدتي التلفاز. وأقولها _ كوني من شريحة هؤلاء المدعوّين الذين وُهبتْ لهم نعمة الكهنوت _ كلٌّ منا عاد إلى رعيته ربما بعدما احتفل مع قداسة البابا بندكتس السادس عشر وكهنة الكرة الإنسانية، هذا الإحتفال العظيم. ومَن يقرأ عظة قداسته بهذه المناسبة لأَدرك جيداً ما السبيل إلى خلاص النفوس عبر دعوة الكهنوت المقدس… ولكن ويا للأسف _ ربما أقولها وأرجو المعذرة _ الكثير منا لم يسمع ولم يقرأ ولو سطراً واحداً ويا للأسف.
نعم، انتهت الاحتفالات، ولكن مسيرة الكهنوت لم ولن تنتهي، وما علينا إلا أن نكون أمناء لهذا النداء، وأوفياء لهذا الرجاء، لأن رجاءنا هو رجاء الخلاص (1بط 3:1) ووعد ميراث الملكوت (متى 2:5-21)… لذا كان هذا المقال.
خلاص النفوس… عبارة _ من كلمتين _ وتعني مسيرة كاملة لمشروع متكامل، خطّطه رب السماء، وأكمله ابن العلياء ، وحمل رسالته ابن الأرض عبر موهبة سر الكهنوت المقدس.
خلاص النفوس… عبارة ولا أجمل بل ولا أقدس، تحمل كل المعاني الغير المرئية لأنها تخلّص الإنسان وجه الله، وليس الإنسان صنع التراب. فهي تنبع في القلوب وتنعشها حاملة مجانية الحياة إلى الآخر الذي أضاعها.
خلاص النفوس… عبارة كان يرددها على مسامعنا رؤساؤنا ومدرّسونا في المدرسة الاكليريكية في الموصل (رحم الله الآباء الدومنيكيين الذين رحلوا)، حيث زرعوا هذه العبارة في أرض أفئدتنا… فكانت الجواب الأكيد لسؤال كانوا يوجهونه إلى طالب الكهنوت يوم دخوله سياج المعهد: لماذا تدخل الدير؟، لماذا تريد أن تكون كاهناً؟، فكان الجواب وبلا تلكؤ ولا حدود ولا تلعثم: أريد أن أساعد يسوع في خلاص النفوس.
خلاص النفوس… عبارة أصبحت اليوم مقيَّدة الحدود وحسب مشيئة الذي وُهبت له النعمة، يمكن أن يتاجر بها، وأمثال هؤلاء قليلون، وربما يدفنها، وما أكثرهم أمثاله، كما يقولها مثل ما يحلو له. ولا أعلم إنْ كان يضعها أمام أنظاره هدفاً لا يحيد عنه، أم يُحِلّ محلَّها كلماتٍ وعباراتٍ أخرى أبدعتها العولمة المزيفة، فخفّفت من ثقل الإيمان الذي تحمله العبارة مدّعية أن رسالة خلاص النفوس تأتي في مراتب أدنى… بل ربما تُنسى وتُهمَل، فقد حلّ محلّها ما لم يكن في الحسبان والظن. وأقولها: ربما إنّ بعض الظنّ إثمٌ.
خلاص النفوس… عبارة تدعونا أن لا نتشبّه بأهل هذه الدنيا ونؤمن بعاداتهم "أنتم في العالم ولكنكم لستم من العالم" (يو19:15). فنتكلم دون صافرة إنتهاء الحديث و… ونحرك أيادينا شمالاً وجنوباً، وتسير خطانا حثيثة ، لتلتقي الأحبة المتخمين، ويحدّق فقراء الزمن فينا دون أن ندري، ونروح ونجيء مرة مع الريح وأخرى مع هوانا، وأحياناً نميل معه مواكبين الزمن!!… وأحياناً أخرى نراوح في أماكننا… فنضيع وتضيع الكلمة وإنْ كانت بأحرفها أمام أعيننا، ولكن بأعمالنا هذه نبتعد عنها وحتى عن إدراك أين هو السبيل للوصول إلى حقيقتها والعمل على تحقيقها وتجسيدها من أجل إيصالها إلى حيث المبتغى.
خلاص النفوس… عبارة تستدعي منا أن ندخل قلب الله فننبش فيه لنزرع بذرة رسالتنا، فنجد الذين جاعوا وعطشوا وطُردوا وحُبسوا وسُجنوا واستُشهدوا، إذ لا يمكن أن نجد هؤلاء على صفحات الجرائد وعلى مواقع الإنترنيت، وعبر مسامرتنا للآخرين في عملية سرقة ضمير الآخر ووقته في ساعات الچات المدمِّرة، وكلٌّ حسب مركزه ومكانته من أجل هوى الدنيا وكرسي الوجود، من أجل ورث لا يسترثه أحد آجلاً أم عاجلاً. ولكن للدينا شؤون وهواجس، وللزمن شجون وظنون… "ومَن له أذنان سامعتان فليسمع" هكذا يقول الرب (متى 15:11)، يعني فيلفهم ما يسمع ليس إلا، وليحيا ما يفهم، ولا درب آخر.
فالبشر اليوم يحاكمون إلهاً بعلمهم، وهم لا يعلمون، لأن أنانيتهم وحقدهم وطغيانهم قد أظهر حقيقتهم، وأصبحت الدنيا ومباهجها ثرثرة اللسان ونزاعاته وما هذا إلا شغلهم الشاغل، بينما الحقيقة تكمن في أن خلاص النفوس ما هو إلا نسيان الذات والتضحية، مليئتان بمحبة سماوية وليس عاطفية، نحمل بها ذواتنا أمام مستمعينا ويا للأسف، فنكون قد أخذنا أجرنا (متى 2:6)، وجزاءنا. أقولها حقيقة، فقد أفقرْنا رسالتَنا، ومسكنّا تلك العبارة التي تقف اليوم على باب دعوتنا، لتدخل وتتعشى، ولكن ليس مَن يفتح، فتصبح، ومع الأسف، أسطراً على صفحات تاريخ، لا حياة فيه تنادي… فبئس تلك الحياة.
خلاص النفوس… عبارة يجب أن تهيمن على ذوات المختارين وخاصة للرفيعة أماكنهم، والمبجلة مجالسهم، فنقولها: لا يجوز التعامل مع هؤلاء عبر كلمات من أجل غايات، فنمدح ونبجّل وننمنم لنكون وصيفة للملكة… المهم هو جمال الملكة وليس فستان الوصيفة… وهذا هو خلاص النفوس… إنه جمال النفس التي تعود إلى الله بذاتها، بتوبتها، بحبها، وليس منمنمات الغايات وثرثرات السهرات، وهذا هو شأن المسيح ربنا له المجد مع مريم حينما اختارت ما هو الصالح لخلاص نفسها، عكس مرتا التي اهتمت بكرسي زمانها وثرثرة لسانها، وهي حتى اليوم تفتش عن نجار أمين ليُصلح ما تكسَّر فلا سبيل إلى ذلك… إنما خلاص النفوس هو الجلوس عند قدمي يسوع، النجار الأمين… وما أجمل أن يكون حامل هذه العبارة طالباً في مدرسة تحت أقدام يسوع ولا شيء آخر.
خلاص النفوس… عبارة لا يمكن أن ندرك فحواها دون الركوع أمام مذبح الرب. والسجود ليسوع القربان، ذلك الذي لا نزوره إلا متى شئنا (إذا شئنا)، ولا نصمده إلا متى أراد الزمن من أجل غاية محبته، وننسى أن خلاص النفوس يتجدد كل يوم على مذبح الرب… إنه الجلجلة الايمانية التي زرعتها الكنيسة الأمّ لتجمع رجالاتها في صلاة قربانية، فدائية… فماذا سنقول لمذبح الرب إذا كان سبباً لملئ أكياسنا، والرب يقول:"اكنزوا لكم كنوزاً في السماء" من أجل مساعدة يسوع في خلاص النفوس… فإنني أخاف لئلا نطلب يوماً ما نقطة من أبينا إبراهيم ليُبلّ ألسنتنا التي لم تسكن حتى الساعة فيأتينا الرفض … فالمثلث الرحمات البطريرك أنطون الثاني حايك قالها يوم زارنا في معهد مار يوحنا الحبيب / خريف عام 1968: أبنائي أنتم دُعيتم لتكونوا كهنة قديسين، فاعملوا لخلاص النفوس وليس لجمع الفلوس!.
خلاص النفوس… عبارة تعني الكثير الكثير… بل هي الهدف الأسمى والطريق الصحيحة والغاية الأكيدة. علينا أن نستشهد كل يوم، ونجدد إيماننا كل ساعة، ونعلن شهادتنا كل لحظة، فالذي سار قبلنا كان الشهيد المسيحي الأول. كان يجول على أقدامه في شوارع الجليل، والفقراء يرافقونه ليسمعوا كلمة الله، فوجدوا أنفسهم أغنياء ، وكانت الأبصار كلها محدقة إليه… وشهد له الجميع بأنه كان ابن الله (مر39:15). عكس هذا الزمان فهو يقدس الخضار والأخضر ويحثّ على السفر والرحيل، مدّعياً أن لا فائدة للبقاء، ومع الأسف هذا دَيْدَن أبناء بلدي المدعوين.
خلاص النفوس… عبارة يجب أن تكون شعارنا، مهمازنا، هدفنا، غايتنا، سلاحنا، بل هويتنا، وإلا لا معنى لوجودها… هذه كانت مسيرة الرب يسوع له المجد، فهي تدعونا أن نُعلّم الناس درب الكنيسة في حياة الصلاة حيث بيت الآب، قبل أن نعلّمهم أموراً أخرى نريدها لنا، وهي ليست من نقاط رسالتنا. فالتزلّف الروحي شيطان أسود لأن للعلمانيين دور أكيد في أن يكونوا عبر هذه العبارة رسلاً أمام المؤمنين. يقومون بما تحتاجه الكنيسة فيكونوا عونا لها بدلا من يكون المؤتمنون على الكنيسة مشغولين بأمور تكون ربما شكوكاً لدعوتهم .
خلاص النفوس… عبارة تدعونا وأقولها خاتماً: أن نكون أمناء لدعوتنا وأوفياء لموهبتنا ومخلصين لوزنتنا ومجاهدين في سبيل رسالتنا. فإذا ما أفرغنا المسيح من قلوبنا، ونتظاهر أنه يملك فينا وعلينا، فقد إصطادنا الشرير بفخّه الخانق والقتّال، فتموت الروح فينا، وتتصحّر الرسالة، ونبقى نفتش عن حبل لنخنق به رقابنا، لأننا قد خسرنا ما وُهبَ لنا، فنتوجّه إلى يهوَّذا علّنا نجد السبيل… إن المؤمنين يعتبون كثيراً على مسلكنا، وإن في أرضنا، أو بعيداً عن أهلنا، ويسكتون متألمين من أجل قداسة الموهبة لا يتفوهون ببنت شفة ، حباً، واحتراماً، وتقديساً للموهبة التي مُنحتْ لنا ، ليس إلا… أليس كذلك ، وشكراً مع إعتذاري.