مداخلة البطريرك فؤاد طوال، بطريرك القدس للاتين

 سينودس الشرق الأوسط

نقدم لكم فيما يلي، النص الكامل لمداخلة البطريرك فؤاد الطوال، بطريرك القدس للاتين، التي ألقاها يوم الثلاثاء، الثاني عشر من تشرين الأول، في سينودس الأساقفة الخاص بالشرق الأوسط:

 

صاحب القداسة،

أخوتي وأخواتي،

 

من واجبي أن أكلمكم عن الكنيسة الأم، كنيسة القدس، التي تضم فلسطين، إسرائيل، الأردن وقبرص. فللقدس مركزية مهمة، يقول الرب: "سوف تكونون لي شهوداً في أورشليم، ويهوذا والسامرة، حتى أقاصي الأرض". (أعمال الرسل 1: 8).

 

إنّ الكنيسة الأم في الأرض المقدّسة هي حقيقة واقعيّة وحيّة، ولو كانت تشكل أقلية صغيرة. في الأساس، ليس مسيحيو بلداننا من الذين اهتدوا في فترة معينة من التاريخ، ولكنهم متحدرون من الجماعة الأولى، التي أسسها يسوع المسيح نفسه. كما لدينا اليوم أيضاً النعمة بوجود جماعة مسيحية فعّالة، بفضل مؤمنيها ومؤسساتها وأماكنها المقدسة تحدّثنا عن تاريخ يسوع الناصري، فهي كمثل الذاكرة الجماعية الحيّة لتاريخ المسيح.

 

مسيحيونا الأوائل كانوا بالطبع من اليهود الذين قبلوا يسوع المسيح: مثل مريم العذراء بنت الناصرة، الرسل، التلاميذ، النساء التقيات، والآلاف من الذين آمنوا بيسوع وشكّلوا الجماعة المسيحية الأولى، وكان من رعاتها القديس يعقوب، سلفنا، والقديس سمعان وغيرهم.

 

ومن بين المسيحيين الأوائل، كان هنالك مؤمنون من أصل وثني، أعداد كبيرة كانت تعيش في الأرض المقدسة، الآراميين، الكنعانيين، الفينيقيين، السامريين، الفلسطينيين، الأنباط والعرب، إضافة إلى اليونانن والرومان. وانطلاقاً من زمن يسوع المسيح وأعمال الرسل، كثير منهم آمنوا بالمسيح يسوع وأسسّوا الجماعة المسيحية الأولى، ومع مرور الوقت، غدت كل الأرض المقدسة مسيحية، حتى بدو الصحراء، الجماعة التي منها انحدر أنا شخصيّاً.

 

عرفت هذه الجماعة المسيحية الكثير من التقلبات والتغيرات على مر التاريخ، لكن نواة بقيت دائماً أمينة لإيمانها حتى يومنا هذا. ما أريد قوله أن الإيمان المسيحي لم يعرف أبداً أيّ انقطاع في الأرض المقدّسة. ومن خلال سلسلة طويلة ومترابطة تاريخياً نعود لجماعة الأرض المقدسة الحقيقية حتى يسوع المسيح.

 

عن هذه الحقيقة التاريخيّة تنجم نتائج ذات أهمية كنسيّة ورعويّة، وتشكل أهميّة بالغة للكنيسة الجامعة:

 

1.       الكنيسة القدس، أم جميع كنائس العالم. إذاً هي كنيستكم الأم، حيث ولدتُم جميعاً روحياً وكنسياً (مزمور 87). إنّها تحافظ، باسم جميع الكنائس، على الأماكن المقدّسة التي تعود للآباء والأنبياء، وليسوع المسيح ومريم العذراء والرسل. هي تحافظ على تراث تاريخي ثمين لا يحصى، وعلى إيماننا المسيحي المؤسّس جوهريّا على سر التجسد. وهي تحفظ، كما أشار الأب الأقدس، البابا بندكتس السادس عشر، "إنجيل خامس".

 

2.       الكنيسة الأم، كنيسة القدس، هي كنيسة محلية وخاصة، بتاريخها، بهويتها الخاصة، بلغاتها وثقافتها. لديها رعاياها، إكليروسها، أربعة معاهد إكليريكية، مؤسساتها الدينية، مدارس الكتاب المقدس، هيكليتها المحلية، قديسون وطوباويون. وفي الوقت عينه، هي جزء من الكنيسة الجامعة. وككنيسة أم تحتضن الأماكن المقدسة، هي منفتحة على العالم أجمع، تاريخاً وشعوباً.

 

3.      لذلك، ينبغي أن تكون الكنيسة الأم في القدس موضوع حبّ وصلاة واهتمام الكنيسة جمعاء، من جميع الأساقفة، والكهنة، والمؤمنين من شعب الله. وهذا ما تكرر من قبل كل البابوات، وبالأخص من قبل قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، الطيّب الذكر، ومن أبينا الأقدس البابا بندكتس السادس عشر. أن نكون مشاركين في المسؤولية ومتماسكين بالكنيسة الأم في القدس، فعيش الشركة والشهادة، كما يقول هذا السينودس، هو من واجبنا كرعاة وكمجمعية أسقفية.

 

4.                 أفضل طريقة لحب الأرض المقدسة، هي بالحضور إليها كحجاج، لزيارة الأماكن المقدسة والجماعة المحلية. هذا النوع من الحج يغني الحجاج، لكنه أيضاً يغني المسيحيين المحليين، بحيث يخلق تواصلاً كنسياً، يكون دائماً بنّاءً ومثمراً، ويعطي لمؤمنينا اليقين بأنهم غير منسيين أو متروكين.

 

5.      الطريقة المثالية الأخرى لحب الأرض المقدسة هي بالخدمة. جماعتنا المسيحية بحاجة إلى كهنة، وجماعات رهبانية، وعلمانيين، يعيشون بصورة سخية، يتعلمون اللغات، يتأقلمون مع ثقافة البلاد ورعوية الكنيسة المحلية. بحاجة إلى باحثين وأدلاء سياحيين، علماء آثار وعلماء كتاب مقدس.

 

وأوجه هنا نداء خاصاً نحو الشباب الذين يشعرون بالدعوة إلى الكهنوت، لطلاب الكهنوت أنفسهم الذين يحبون أرض يسوع، للجماعة الأصلية لهذه الأرض والكتب المقدسة: لا تتردّدوا، مع رؤسائكم أيضاً، في أن تأتوا للدراسة والتنشئة في الأرض المقدسة، وأن تندمجوا مع إكليروس القدس.

 

6.                الجماعة المسيحية في الأرض المقدسة تتألم، لأنها أقلية (2% فقط)، تعيش في وضع عام صعب، في جو من الصراع والعنف، عدم الاستقرار وانعدام العدالة، في تحدٍ يومي للحياة، للعمل، وقلق تجاه المستقبل. وهي كنيسة الجلجلة، المهددة بالهجرة. لديها مسؤولية كبيرة بالاستمرارية في أرض الإنجيل، كرسالة سلام ومصالحة، رسالة العيش والحوار والتعاون مع المسلمين واليهود. وهي تتألم أيضاً من انقسام الجماعات المسيحية، وتعمل جاهدة من أجل الوحدة، والحوار المسكوني والتعاون بين الكنائس.

 

7.                أمام هذه التحديات، وأمام هذه المهمة الرائعة، عليكم ألا تتركوا كنيستكم الأم في القدس وحيدة ومعزولة. ساعدوها بصلواتكم، بمحبتكم وتضامنكم لتبقى متأصلة في أرض يسوع. ونحن، أساقفة الأرض المقدسة، كما كل أساقفة الكنيسة الجامعة، لا نريد أن نسمح أبدا بأن تصبح الأرض المقدّسة متحفاً كبيراً في الهواء الطلق، دون حضور مسيحي حي.

 

ومن الجميل هنا قراءة الإرشاد الرسولي "Nobis in Animo" الذي كتبه البابا بولس السادس، في 25-3-1974، حول الحاجات الملحة للكنيسة في الأرض المقدّسة، رقم 10. وإنّنا لممتنون جداً للكرسي الرسولي، للأساقفة والكهنة، ولكل محبّي الأرض المقدسة، لما يقدمونه بسخاء من دعم روحي ومادي للأرض المقدسة. ونحن ممتنون أيضاً لمنظمة فرسان القبر المقدس، ولكل أعضائها، لما تقوم به لدعم الجماعة المسيحية في القدس. ونشكر جميع المؤسسات والأشخاص، وذوي النوايا الحسنة، الداعمين لخلق مزيد من العدل والسلام.

 

على الرغم من الصعوبات، التي تبدو مستعصية الحل، نؤمن بخطة الله، ونؤمن برسالة الكنيسة، وبما يقوله الروح في الرسالة إلى أهل أفسس (2: 14-15)، نعلن بتواضع وشجاعة: "لأنه هو سلامنا، فقد جعل من الجماعتين جماعة واحدة، وهدم في جسده الحاجز الذي يفصل بينهما، أي العداوة، وألغى شريعة الوصايا وما فيها من أحكام، ليخلق في شخصه من هاتين الجماعتين، بعدما أحلّ السلام بينهما، إنساناً جديداً واحداً".