خواطر كنسية

بقلم روبير شعيب

الفاتيكان،  الجمعة 5 نوفمبر 2010 (Zenit.org).

إذا ما تساءلنا عما إذا كانت الكنيسة أرضيةً مناسبة للنمو في الإيمان نجدنا دون شك عرضة لانتقادات ولاستنكارات الكثير من الأشخاص الصادقين مع ضميرهم، والذين توصلوا إلى هذه الخلاصة: "المسيح نعم، الكنيسة لا!".

عِبَرُ التاريخ والأخبار – رغم أنها عادة تمر في مصفاة إيديولوجية – تقدم حججًا قوية يصعب تجاوزها لمن يشعر بحب لشخصية المسيح بينما يرفض الكنيسة. فمن يراقب بانتباه عالم الحياة الدينية والروحية لا يستطيع أن يتجاهل صرخة نيتشه التي ليست سطحية أو هامشية على الإطلاق، بل هي جوهرية. يقول أب الإلحاد المعاصر: "كنت لأؤمن بمخلصكم، لو كانت وجوهكم تبدو مخلصة أكثر!".

إذا ما ترجمنا عبارة نيتشه في الخلاصة المذكورة أعلاه نراه يقول: "بما أن الكنيسة لا، إذا المسيح لا أيضًا". بالنظر مليًا لا يمكننا إلا أن نقبل خلاصة نيتشه، فهي أكثر واقعية من مقولة الذين يرفضون الكنيسة ويقبلون المسيح. بكلمات أخرى، يصعب لا بل يستحيل التعرف على المسيح الحقيقي من دون الكنيسة، ولذا من يرفض الكنيسة ليست له فرصة حقيقية للتعرف على المسيح. نعم، قد يتعرف على مسيحٍ قصصي أو مفبرك على صورة من يبشر به. ولكن هذا "المسيح" المزعوم ليس الكلمة الذي وُلد من الآب، والذي كان روح الرب عليه وأرسله ليبشر المساكين، ليس المسيح الذي تبعه الرسل وبشروا به، ليس المسيح الذي تخبرنا عنه الأناجيل القانونية، ليس المسيح الذي أحبه القديسون ومات من أجله الشهداء. هذا "المسيح" هو شخصية مركبة تمامًا مثل سوبرمان ودون خوان ديماركو، وهو لا يمت إلى مسيح التاريخ بصلة تذكر. لنا مثل في ذلك مسيح الأناجيل المنحولة (بما في ذلك مسيح "إنجيل توما المنحول" الذي استوحاه دان براون في روايته "شيفرة دافنشي"، ومسيح إنجيل برنابا الذي استوحاه المسلسل الإيراني "السيد المسيح" الذي أخذ ضجة إعلامية في لبنان مؤخرًا). هذه الكتابات هي مؤلفات أوحاها لا وحي الله بل مخيلة كتاب جاؤوا بعد قرون من مجيء المسيح – إنجيل برنابا كُتب في القرن الخامس عشر! – وزعموا أن يقدموا للعالم إنجيلاً جديدًا. تنطبق عليهم دون تردد كلمة بولس: "كل من جاءكم بإنجيل مخالف لإنجيلنا فليكن محرومًا". الأناجيل القانونية تحمل طابعًا لا نجده في الكتابات المنحولة: القرب الزمني من يسوع وتأليفها إما من مقبل شهود عيان، وإما من قبل أشخاص عايشوا الشهود العيان.

بعد هذا الاستطراد، فلنعد إلى موضوعنا: يسوع بالذات كان يدرك التواصل الحميم بينه وبين الجماعة التي تشهد له. وإذ كان يعي ليس فقط أهمية الأمانة التاريخية والاستمرارية السردية لنقل الأمور الصحيحة عنه قال يومًا لتلاميذه: "أنتم نور العالم. لا تخفى مدينة قائمة على جبل، ولا يوقد سراج ويوضع تحت المكيال، بل على المنارة، فيضيء لجميع الذين في البيت. هكذا فليضئ نوركم للناس، ليروا أعمالكم الصالحة، فيمجدوا أباكم الذي في السموات" (مت 5، 14 – 16).

يتبع

ولذا من خلال نظرة ظواهرية (فينومينولوجية) وتاريخية في آن، يمكننا أن نرى أن الكنيسة هي في آن عائق وفرصة. وهذا ما رآه لاهوتي الإكليزيولوجيا الدومينيكاني إيف كونغار (1):

هي عائق لأننا إذا ما نظرنا إلى وجه الكنيسة رأينا فيه عيوبًا تستر طهارة الحمل الذي لا عيب فيه والذي تريد الكنيسة أن تحمل بشارته.

هي عائق لأن الكنيسة تعيش أحيانًا في نسيان فادح لحيبيها الإلهي.

هي عائق لأنها تعرقل أحينًا الشوق إلى الله في نفوس يمكننا أن نصفها بالملحدين الصادقين. يقول المجمع الفاتيكاني الثاني في هذا الصدد: "يستطيع المؤمنون أن يلعبوا دورًا غير يسير في نشأة الإلحاد بمقدار ما يتجاهلون أن ينموا في الإيمان، أو لأنهم يقدمون صورة مغلوطة عن العقيدة، أو بسبب نواقص حياتهم الدينية، الأخلاقية والاجتماعية. لهذه الأسباب هم يسترون ولا يبينون وجه الله ووجه الدين الأصيل" ( الوثيقة المجمعية "فرح ورجاء"، 19).

للإلحاد المعاصر أسباب عديدة، منها موقف مسبق يرفض الله لأنه لا يشكل عائقًا لتطلعات المرء الفاسدة. ونجد بين أسباب الإلحاد الكسل الروحي والأخلاقي، فهناك من ينكر الله لمجرد أن تفكيره بالله سيدفعه إلى تغيير أسلوب حياته. هناك من هو ملحد لأنه سد آذانه على العطش إلى الله الذي يتأصل في قلبه ويمد جذورًا عميقة… ولكن، يقول المجمع الفاتيكاني الثاني، هناك نوع من الملحدين هم كذلك لأنهم لم يلتقوا بأحد يشهد لله. لأنه – كما يقول يسوع – إذا كانت الناس تمجد أبينا الذي في السماوات عندما ترى أعمالنا الصالحة، فالعكس صحيح: هناك أناس لا تعرف مجد الله لأنها لم تر أعمال المسيحيين. هناك أشخاص لن تعرف الراعي لأنها لم تر أمانة قطيعة. وهناك أناس لن تحب العريس لأنها لم تر إشعاع الحب في نظرة عروسته.

ولكن إذا ما كانت الكنيسة عائقًا حينًا، فهي تبقى غالبًا فرصة للقاء بإله يسوع المسيح، للتعرف عليه، العيش معه والاتحاد به. لدينا الكثير من خبرات القديسين الذي نشأوا وتقووا في إيمانهم بالمسيح بفضل الجماعة الكنسية. الأمثلة كثيرة جدًا، ولكن فلنذكر بعضها:

المدافع الكبير عن الإيمان المسيحي القديس الفيلسوف يوستينوس، يخبر عن مسيرته في معارج المدارس الفلسفية والحياتية في زمانه. وبعد أن ارتاد أروقة مدارس فلسفية مختلفة يقول القديس أنه أعجب بمصداقية المسيحيين والتماسك بين عقيدتهم وعيشهم، وعلاوة على ذلك كانوا يعطون الإيمان لا رغبة بربح ما، بل لكي ينال الآخر الحياة، وهذه الشهادة حملته على اعتناق المسيحية.

كذلك القديس باخوميوس أب الحياة الجماعية في مصر وفي الشرق بشكل عام. كان جنديًا وثنيًا ارتد إلى المسيحية بعد اختباره للضيافة التي قدمها المسيحيون مجانًا وبسخاء مثالي له ولجنوده.

إن شجاعة الشهداء، وطهارة العذارى، وحكمة الآباء في العصور الأولى كانت دافعًا قويًا إلى الارتداد، وسير قديسي العصور الأولى مليئة بخبرات الإرتداد حيث يرتد منفذ الحكم لدى مشاهدته الحب، الشجاعة والفرح في عيش المسيحيين لآخر لحظات حياتهم.

أقدم مثلاً آخرًا كان له أصداؤه القوية في روما في منتصف القرن العشرين: ارتداد اسرائيل ذولّي، حاخام روما. لقد اختبر ذولي شجاعة المسيحيين في عصيانهم للأوامر النازية والفاشية التي كانت تنص على تسليم كل اليهود لكي يقادوا إلى سجون الاعتقال. فلدى رؤيته كيف كان المسيحيون يخبئون اليهود بسخاء ومجانية غير مشروطة ارتد إلى الإيمان المسيحي تاركًا حاخاميته ومولدًا صدى كبيرًا في الجماعتين اليهودية والمسيحية في روما (3).

(1) Y. Congar, «La Chiesa approccio o ostacolo?», in K. Neufeld, ed., Problemi e prospettive di teologia dogmatica, Brescia 1983, 231-249.

(2) Cf. P. Sequeri, L’idea della fede. Trattato di teologia fondamentale, Milano 2002, 6.

(3)  Cf. E. Zolli, Prima dell’alba. Autobiografia autorizzata, Cinisello Balsamo 2004;  J. Cabaud, Il rabbino che si arrese a Cristo. La storia di Eugenio Zolli, rabbino capo a Roma durante la seconda guerra mondiale, Cinisello Balsamo 2003

رموز الكنيسة: البغي الطاهرة

إن ما استعرضناه في القسم السابق من هذه المقالة يعكس ما يقال عادة عن الكنيسة، في نظرة يمكننا أن نصفها دون حرج بـ "السطحية". ولكننا نعرف جيدًا أن "نِصْف الخلافات في العالم هي لفظية؛ ولو كان ممكنًا توضيحها لانتهت على الفور" (1). ولذا للحديث عن الكنيسة بشكل أكثر منطقية ومنهجية لا بد لنا أن نقوم بمسيرة حكيمة وبطيئة للتقرب أكثر فأكثر إلى جوهر الكنيسة.

سنستعين في مسيرتنا هذه بمرشدين مميزين ترجموا بأمانة رسالة الكتاب المقدس: آباء الكنيسة. إن فكرهم بشأن الكنيسة لم يكن مبنيًا على التحديدات المبهمة بل على صور وتشابيه تساعد على التقرب من سر الكنيسة دون حصره في عبارات فارغة.

من بين تعاريف الكنيسة في الفكر الآبائي نجد تركيبة مليئة بالمفارقات لا تبرح تشكك من يسمعها وتدعوه إلى التعمق، أقصد تعريف القديس أمبروسيوس من ميلانو الذي يتحدث عن الكنيسة فيصفها بـ "البغي الطاهرة" أو "الزانية الطاهرة" (Casta Meretrix). الكنيسة هي طاهرة لأجل رأسها يسوع المسيح، وهي مشعة بالجمال في قديسيها الذين يطابقون المسيح، ولكن في الوقت عينه هي زانية، هي بغي لأجل خطايا أبنائها الذين، رغم انتمائهم للمسيح، هم بعيدون عنه في قلوبهم.

إن النظرة الأبائية للكنيسة تتجاوز النظرة البشرية المحض. ففي المخيلة العامة، وفي اعتبار بشري بحت، الكنيسة هي البابا أو الإكليروس أو الرهبان والراهبات، وهناك من يختزل هذه الفئة خطأً بمن لا يقدم شهادة مناسبة للحياة المسيحية. لنا في هذا الأمر مثال في قضية الاعتداءات الجنسية على الأطفال من قبل الإكليروس. يبدو وكأن وسائل الإعلام تعمم خبر فساد بعض المكرسين على جميعهم. أما تعريف أمبروسيوس فلا يقسم الكنيسة بين إكليروس وعلمانيين، بل بين من يعيش لأجل الله ومن يعيش ضد الله. يبين هذا التعريف الوجهَ الإلهي-الإنساني للكنيسة ويكشف كيف أنه في قلب الكنيسة الواحدة تعيش القداسة والخطيئة معًا.

القديس أغسطينوس، في حديثه عن الكنيسة، يصرح بأنها في حجها الأرضي تعيش "بين اضطهادات العالم وتعزيات الله" (2). من الأهمية بمكان أن نعي أن الاضطهادات التي تعاني منها الكنيسة لا تأتي فقط من الخارج بل بشكل خاص من داخل الكنيسة من "عدم الأمانة – بحسب ما يقول يوحنا بولس الثاني – التي من خلالها ألقى العديد من أبناء الكنيسة الظل على وجهها، وجه عروسة المسيح" (3). الاضطهاد الذي تعانيه الكنيسة هو عدم الأمانة لدعوة المسيح. وهذا الأمر قد عبّر عنه بشكل واضح البابا بندكتس السادس عشر عندما زار مؤخرًا البرتغال، وبالتحديد مزار السيدة العذراء في فاطيما. قال البابا للصحفيين في معرض رحلته إلى ليشبونة في 12 مايو 2010: "إن الاضطهاد الأكبر الذي تعيشه الكنيسة لا يأتي من الأعداء الخارجيين، بل يولد من الخطيئة في الكنيسة" (4).

ولكن الأمر الأهم هو أن هذه "البغي الطاهرة" هي العروسة التي اختارها المسيح، وأحبها وبذل نفسه لأجلها. ومثل البغي زوجة النبي هوشع، كذلك يجذب المسيح الكنيسة إلى الصحراء ويحاكي قلبها (هو 2، 16)، ويجعلها مقدسة وبلا عيب في حضرته (راجع أف 5، 27) فتضحي "سفينة الخلاص" أكبر وأعظم من سفينة نوح (هذه أيضًا هي صورة عزيزة على قلب بعض آباء الكنيسة).

هذا ويرى بعض الآباء في الكنيسة رمز "سر القمر" نسبة للشمس (mysterium lunae). فكما أن القمر لا يشع بنوره الخاص بل يعكس نور الشمس، كذلك نور القداسة الذي يشع على وجه الكنيسة ليس خاصتها بل هو إشعاع نعمة ومجد المسيح الذي أفاض على الكنيسة بهاء وجهه.

(1) Cf. J.H. Newman, «Quindici sermoni all’università di Oxford», in Id., Scritti filosofici, Milano 2005, 377.

(2) Agostino, De civitate Dei 18,51; CSEL 402,354 (PL 41,614)

(3)  Cf. Giovanni Paolo II, Lettera Apostolica «Novo millenio ineunte», 6.

رموز الكنيسة: شعب الله وجسد المسيح

يقدم الدستور المجمعي "نور الأمم" خلاصة مهمة للاهوت الكنيسة عند القديس بولس. من بين التشابيه الهامة التي يقدمها بولس في حديثه عن الكنيسة يلمع رمزان متكاملان: الكنيسة شعب الله والكنيسة جسد المسيح.

في الحديث عن الكنيسة كشعب الله يقول النص المجمعي: "في الحقيقة إن كل من اتقى الله في كل أمّة وفي كل عصر وعمل البر (راجع أع 10، 35)، يكون مقبولاً عنده. انما ارتضى الله ألا يقدس البشر ويخلصهم أفرادًا خارجًا عن كل علاقة متبادلة بينهم، بل شاء أن يصنع منهم شعبًا يعرفه بالحق ويخدمه بالقداسة. لهذا اختار اسرائيل شعبًا له وقطع معه عهدًا وعلمه تدريجيًا، مظهرًا ذاته وتصميم إرادته، في تاريخ هذا الشعب الذي كرّسه لنفسه. وحدث كل ذلك تهيئةً وسرًا لذلك العهد الجديد الكامل، الذي سيُقطع في المسيح، ولذلك الوحي المتكامل الذي سيحمله كلمة الله المتأنس بالذات […] أي العهد الجديد الذي وضعه يسوع المسيح بدمه، الذي به يدعو الشعب من اليهود ومن الأمم، الشعب الذي يتوحد لا بحسب الجسد إنما بالروح فيصبح شعب الله الجديد […]" (1).

أما بصدد الكنيسة كجسد المسيح فيقول "تعليم الكنيسة الكاثوليكية" في العدد 787: "منذ البدء ربط يسوع تلاميذه بحياته الحميمة: كشف له سر الملكون وجعلهم شركاء برسالته، بفرحه وبآلامه. تحدث يسوع عن شركة أعمق مع ذاته ومع من يتبعه: "ابقوا فيّ وأنا فيكم. […] أنا الكرمة وأنتم الأغصان" (يو 15، 4 – 5). كما ويعلن يسوع عن شركة سرية وحقيقية بين جسده وجسدنا: "من يأكل جسدي ويشرب دمي يقيم فيّ وأنا فيه" (يو 6، 56)" (2). يوضح "تعليم الكنيسة الكاثوليكية" أن تشبيه الكنيسة بجسد المسيح "ينير العلاقة الحميمة القائمة بين المسيح وكنيسته. فالكنيسة ليست فقط مجتمعة حول المسيح، بل هي متحدة به، هي جسده. ولذا يجب التشديد على ثلاثة أبعاد في الكنيسة-جسد المسيح: وحدة جميع أعضائها في ما بينهم بقوة اتحادهم بالمسيح؛ المسيح رأس الجسد؛ الكنيسة عروسة المسيح" (3).

إن هذين الرمزين على اختلافهما يشكلان وحدة متماسكة ومتكاملة، فبينها يشير البعد الأول إلى الانتماء للمسيح (منا ينتمي الشعب إلى رئيسه) يشير البعد الثاني، رمز الجسد، إلى وحدة الهوية مع المسيح (تمامًا كما أن الجسد واحد مع الرأس).

الوحدة والاختلاف اللذان يظهران في هذين الرمزين يقومان في الوقت عينه في رمز آخر للكنيسة اشتهر به القديس بولس: صورة المسيح العريس والكنيسة العروس؛ صورة يصفها بولس بـ "السر العظيم" الذي هو نموذج كل حياة زوجية في الفصل الخامس من الرسالة إلى أهل أفسس.

كل هذه الصور هي متكاملة وتجعلنا نحدس شيئًا من كنه الكنيسة، وتشتت المفاهيم المغلوطة والمنقوصة السائدة. الكنيسة – بحسب آباء الكنيسة – هي الشعب، كل الشعب، "المجتمع في وحدة الآب، والابن والروح القدس" (4)

(1) نور الأمم،9 ؛ تعليم الكنيسة الكاثوليكية، 781.

(2)  راجع تعليم الكنيسة الكاثوليكية، 787.

(3) تعليم الكنيسة الكاثوليكية، 789.

(4)  راجعS. Cipriano, De oratione Dominica 23: PL 4,553; S. Agostino, Sermo 71,20,33: PL 38,463s. S. Giovanni Damasceno, Adversus Iconoclastas 12: PG 96,1358D; LG 4; CCC 810.

رموز الكنيسة: القلب الذي يحب يسوع

في ختام الحديث عن رموز الكنيسة، اسمحوا لي أن أشارككم بأجمل تعريف للكنيسة التقيت به، لا في كتابات أحد آباء الكنيسة العظام، بل على شفتي طفلة لها من العمر 5 سنوات اسمها صوفيا. خلال إحدى دروس التعليم المسيحي للإعداد إلى المناولة الأولى في رعيتي أردنا التحدث عن الكنيسة فقمت باستطلاع لأرى ماذا يفهم الأطفال عندما نتحدث عن الكنيسة. جاءت الأجوبة، كما العادة في ساعات التعليم المسيحي، متنوعة وغنية: بعضها مضحك وساخر يهدف إلى لفت أنظار الأطفال الآخرين، بعضها تقليدي يردد ما نسمعه عادة بين المسيحيين وخلال العظات، أما التعريف الذي أثر فيّ عميقًا فجاء على شفتي هذه الطفلة التي ليست من أكثر الأطفال هدوءًا ومشاركة عادة، بل على العكس! قالت صوفيا: "الكنيسة هي القلب الذي يحب يسوع". إن هذا التعريف هو خلاصة الإكليزيولوجيا الختنية، علم الكنيسة الذي  يرى في الكنيسة عروسة المسيح. الكنيسة هي العروس التي تحب العريس، التي تقبل هبته: روح الحب الذي تتنفسه سوية في اتحادها الحميم ومطابقة حياتها على حياة العريس.

هذا التعريف البسيط – الذي بدا لي مثل اعتراف بطرس بمسيحانية يسوع – يربطنا عميقًا بأحد رموز وتعاريف الكنيسة العريقة. يصف الآباء الكنيسة أحيانًا بـ "دارة الأبرار"، جماعة الصديقين منذ خلق العالم. التعريف التقليدي هو: "الكنيسة منذ هابيل" (Ecclesia ab Abel). في هذا المفهوم، حدود الكنيسة ليست الحدود المنظورة، والانتماء إليها لا تضمنه الأسرار كما لو كانت سحرًا. فبولس يشير إلى كيف أن الشركة في جسد الرب قد تكون أيضًا دينونة لمن لا يتناوله باستحقاق. جوهر الانتماء إلى الكنيسة هو أن نحب المسيح، وأن نحبه في كل المواضع التي وعد بأنه سيكون موجودًا فيها. أليس هذا ما يقوله لنا نص إنجيل الدينونة الأخيرة في إنجيل متى الفصل 25؟ ففي هذا النص نجد أن الانتماء إلى يسوع يتجلى من خلال الحب العملي والملموس: حب الفقير، حب الغريب، حب السجين، حب الجائع، حب المشرد… ويسوع بالذات يقول: "أقول لكم سيأتي الكثيرون من المشارق والمغارب ويجلسون على المائدة مع ابراهيم، اسحق ويعقوب في ملكوت السماوات، بينما أبناء الملكوت سيطرحون إلى الظلمة البرانية، وهناك البكاء وصريف الأسنان" (مت 8، 11 – 12). يسوع واضح جدًا عندما يقول أن الانتماء له ليس إسميًا، بل متجسدًا: "ليس من يقول لي ‘يا رب، يا رب‘ يدخل ملكوت السماوات، بل من يفعل إرادة أبي الذي في السماوات" (مت 7، 21).

لا بد لنا هنا، لكي نذهب أعمق في فهم هوية الكنيسة، أن نتوصل إلى اتفاق على مبدأ تأويلي للظاهرة الدينية بشكل عام: من غير الممكن أن نحكم على قيمة واقع ما انطلاقًا من الطريقة التي يستعمله فيها الأشخاص، بل انطلاقًا من جوهره الحميم ومن غايته الأصلية. ربما نستطيع أن نوضح هذا المبدأ من خلال بعض الأمثلة:

إن جهاز تجسيم الصوت (ستيريو) يستعمل عادة للاستماع إلى لموسيقى، لإضافة لمسة رومنطيقية على السهرات، أو حماسية خلال ساعات الرياضة. إذا ما استعمل هذا الجهاز شخصٌ غير مؤدب وأزعج جيرانه، فهذا لا يجعل من الستيريو أداة شريرة أو سيئة. السيئ هو الاستعمال لا الأداة.

مثل آخر: الدواء هو أمر جيد غايته أن يساعد الإنسان على الشفاء وعلى الاستمرار في العيش، ولكن من الممكن أيضًا سوء استعماله، الأمر الذي يؤدي إلى تعذرات صحية ونتائج جانبية قد تصل حتى إلى الموت. ولكن هذا الاستعمال السيئ لا يجب أن يحكم على طبيعة الدواء الجيدة بحد ذاتها.

الأمثلة كثيرة، ولكن أعتقد أن الفكرة – رغم بساطة الأمثلة – واضحة: لا يمكننا أن نحكم على واقع انطلاقًا من الاستعمالات الفردية له، بل انطلاقًا من جوهره. وهذا الأمر ينطبق على الكنيسة: لا يمكننا أن نحكم على الكنيسة انطلاقًا من فساد بعض الأشخاص في داخل الكنيسة. يجب أن ننظر إلى جوهر الكنيسة العميق، إلى هويتها الحميمة. ما هي الكنيسة حقًا؟ أو بالحري، من هي الكنيسة حقًا؟

وجه الكنيسة السري

لقد أسهبنا في الحديث عن تشابيه الكنيسة، وما قدمناه ليس إلا نقطة في بحر التشابيه والاستعارات التي استخدمها آباء الكنيسة لكي يتحدثوا عن الكنيسة المقدسة. ولكن هناك بعد خاص ووجه خاص من وجوه الكنيسة يعبر أكثر من غيره عن واقعها وجوهرها الأعمق، ما وراء كل الخبرات البشرية، وهو ينطبق بأكمل شكل على المعيار الذي قدمناه في القسم السابق من هذه المقالة. الكنيسة تنبع من حب الأقانيم الإلهية الثلاثة، إنها كنيسة من الثالوث، إنها كنيسة الثالوث. التعبير اللاتيني التقليدي هو: " Ecclesia de Trinitate ". بكلمات أخرى، الثالوث الأقدس هو الكنيسة الأولى الكنيسة الأصلية (Urkirche). الكنيسة الأولى هي الحياة الإلهية الحميمة، هي جماعة وشركة الحب الأولى والأبدية.

نقرأ في مطلع إنجيل يوحنا: "في البدء كان الكلمة" (يو 1، 1). هذا يعني أنه في صميم الحياة الإلهية هناك – إذا جاز التعبير – قول للذات، سرد للذات: اللوغوس الذي كان في البدء يعبر عن قول الله لذاته وعن هبته لذاته في لفظ الروح: قول الابن لا يتم كما يتم توليدنا لكلمتنا البشرية، من خلال لفظ يشغل فقط شفاهنا: قول الآب للابن هو فعل كياني جوهري يشغل كيان الآب بأسره. الآب بكليته هو أب الابن. الآب يتلفظ بالابن واهبًا كليته والابن يتقبل كلية الآب ويستسلم له، وذلك في نفحة روح الحب الأوحد، الروح القدس. في هذا التسلّم والتسليم نجد خيمة الحب الأولى، جماعة الحب الأولى (Ekklèsia باليونانية تشتق من فعل «ek-kalein» أي دعا خارجًا) (1). الكنيسة، إذًا، هي الفسحة الزمنية التي يتردد فيها صدى قول الله لذاته؛ في فسحات الكنيسة تضحي هبة الله حاضرة في الزمان. من خلال تجسد المسيح، نصب الابن خيمة حب الله بين البشر، أدخل كنيسة الثالوث في صلب تاريخ وحياة البشر (راجع يو 1، 14). الكنيسة هي الشهادة التاريخية لحب الآب للبشرية في الابن (راجع يو 3، 16).

يتحدث دستور "نور الأمم" من هذا المنطلق عن الكنيسة التي هي "علامة" (أي أنها تشير إلى الحقيقة) و "وسيلة" (أي أنها أداة تحقق ما تشير إليه!). إلام تشير الكنيسة وماذا تحقق؟ فلنسمع كلمات المجمع: "الكنيسة علامة ووسيلة الشركة الحميمة مع الله ووحدة الجنس البشري" (2).

تظهر الكنيسة كـ "أيقونة للثالوث" التي تواصل في التاريخ هبة الذات الأبدية التي تتم في الله بين الآب والابن في وحدة الروح القدس. يمكننا تقديم الدينامية بهذا الشكل: الآب يهب ذاته بالكلية إلى الابن في الروح، الابن يسلم ذاته إلى الرسل، الرسل يواصلون هذا التسليم في التاريخ عبر هبة الروح القدس التي يرمز إليها وضع الأيدي. هذا هو المعنى العميق للتقليد. التقليد المفرد والفريد يختلف عن التقاليد. فهذه الأخيرة هي عادات تتناقلها الأجيال وهي وليدة عوامل طبيعية، حضارية، وزمانية مختلفة، أما التقليد  الفريد فهو واحد: هو تسليم ما قد تسلمناه، وهو أن الرب وهب ذاته لمصالحتنا ونحن بعض خطاة وعاصين، وأنه بعد موته لأجلنا قد قام وصار باكورة الراقدين، غالبًا الموت بالموت وواهبًا الحياة الحقة، حياة الاتحاد بالله، لكل البشر. بكلمات لاهوتي عظيم كرس دراسات مطولة لهذا الموضوع: "التقليد المسيحي (أو المسيحية كتقليد) ينبع من الهبة الكلية التي يقوم بها الآب نحو يسوع المسيح؛ والكنيسة هي بحد ذاتها، في جوهر كيانها، تسليم يسوع المسيح" (4)

___

(1) راجع تعليم الكنيسة الكاثوليكية 751.

(2)  نور الأمم، 1.

(3) . B. Forte, La chiesa icona della Trinità. Breve ecclesiologia, Brescia 1986

(4) Cf. Y. Congar, La Tradition et les traditions. Essai Théologique, Paris 1963, 113.

الكنيسة: موضع تسليم وديعة الإيمان

على خطى القديس توما الأكويني، أوضح اللاهوتي إيف كونغار في ستينات القرن الماضي المعنى اللاهوتي العميق للتقليد، إذ ربطه بنقل السر الإلهي إلى البشر. التقليد الفريد والمفرد يتألف من "علاقة حياة جديدة، تتضمن من ناحية الله إيصال حيوية ودينامية متجددة في سبيل تحقيق شركة معه هي في آن شخصية وجماعية" (1).

يشرح كونغار أن طبيعة الوحي المسيحي، أي طبيعة هبة الله لذاته، ليست واقعًا يستطيع الإنسان أن يناله أو أن يتعلمه لوحده. بل هو ما يسميه القديس توما الأكويني "تعليم مقدس" (sacra doctrina)، إنه هبة ينالها الإنسان عندما يفتح قلبه بتواضع لكلمة تأتيه من الخارج. وعليه، فوديعة الإيمان المسيحي ليست مجموعة من التصريحات العقيدية أو التركيبات اللفظية الدقيقة بقدر ما هي "رمز" (symbolon) يقيم رباطًا صوفيًا بين واقع الله والواقع البشري. هذه الشركة بين الله والإنسان تتولد بفضل "الوسيط الوحيد بين الله والبشر، الإنسان يسوع المسيح" (راجع 1 تيم 2، 5). هذا الواقع أدركه الرسل والقديسون في مطلع المسيحية، فالقديس اغناطيوس الأنطاكي يقول بزخم روحي وإيماني: "إن أرشيفي هو يسوع المسيح (2) أي أن كل ما أعرفه هو يسوع المسيح.

إن فهم التقليد كفعل تسليم يعني أنه يجب أن يكون هناك فاعلان: الأول يسلِّم والثاني يتسلّم. لا يمكن للإنسان أن يحوز المسيح من تلقاء نفسه. فالمسيح، ثمرة شجرة الحياة الحقة نناله كهبة لا كغنيمة. ينال الإنسان الحياة الحقة ويلج في الحياة عندما يدخل في الشركة الحقة فيحقق صورة الله ومثاله في وجوده، يحقق ملء الحياة الثالوثية في الشركة. يقول الكاهن اللاهوتي جان نويل بزانسون: "الله لم يكن ليكون الله لو كان وحيدًا، والإنسان ليس إنسانًا إذا كان وحيدًا: ‘لا يحسن أن يكون الإنسان لوحده‘ (تك 2، 18)، ‘خلقه رجلاً وامرأة‘ (تك 1، 27). الإنسان ليس إنسانًا فعلاً إلا إذا كان في علاقة. لأن الله علاقة" (3).

ما من إنسان يستطيع أن يكون جزيرة معزولة. فقط عندما ينفتح على العلاقة يضحي حقًا إنسانًا أهلاً ومعدًا لله (capax Dei)، قادرًا أن يقبل الله وهبة ذات الله التي هي جوهر وديعة الإيمان. نرى بهذا الشكل كيف أن اعتماد الإنسان على الآخرين في مسيرة إيمانه لا يشكل إمكانية في الإيمان المسيحي بل هو شرك ضروري. الإنسان المخلوق على صورة الله لا يمكنه أن يحقق ذاته، ولا يمكنه أن يصل إلى مثال الله من دون أن يضحي حقًا مشابهًا لجوهر الله الأعمق: الجوهر الثالوثي الجماعي.

في الإيمان المسيحي لا يولد الإيمان على طاولة الدرس: نصل إلى المسيحية فقط من خلال الولادة الجديدة، من خلال ولادة من العلاء (راجع يو 3). وإذا كانت الحياة المسيحية قبولاً للحياة الثالوثية، فهي لا تستطيع أن تكون جهدًا فرديًأ، بل فقط في حضن الكنيسة نستطيع أن نقبل خدر العريس.

(1) Cf. Y. Congar, La Tradition et les traditions. Essai Théologique, Paris 1963, 16.

(2) Ignazio D’Antiochia, Lettera a Filadelfia 8, 2.

(3) J.-N. Bezançon, Dieu n’est pas solitaire. La Trinité dans la vie des chrétiens, Paris 1999, 15-16.

الكنيسة: الحشا الذي يولد منه المسيح من جديد

إن عدم استطاعة الإنسان الحصول على وديعة الإيمان بمفرده لا تعود إلى صعوبة الإيمان بل إلى طبيعته. فمن ناحية المعرفة، يستطيع كل شخص أن يحصل على معلومات حول المسيحية، حول تاريخها وتقاليدها وعقائدها. يمكن لأي كان أن يتعرف على المسيحية من خلال الوسائل المعتمدة لدراسة سائر الظواهر الدينية، ولكن هذا ليس اللاهوت. وهذه المعرفة لا تعني أن المرء قد توصل إلى إدراك كنه المسيحية وجوهرها. استحالة الولوج إلى دارة الإيمان الحميمة لا تنبع من الصعوبة النظرية لمكنون الإيمان بل من الطبيعة الحميمية لدينامية الإيمان.

لا بد، في هذا المجال، من أن تعيد الممارسة الكنسية اكتشاف المعنى العميق للأبوة الروحية، التي هي أمر أكبر بكثير وأعمق بكثير من مجرد "إرشاد روحي" أو "توجيه روحي-نفساني". الأبوة الروحية تتجاوب مع طبيعة الدخول في خدر الإيمان. كل منا هو مؤمن لأنه وُلد روحيًا بشكل أو بآخر. كثيرون منا لا يعرفون آباءهم الروحيين أو لا يستطيعون أن يتعرفوا إليهم، ولكن كل منا  وُلد إلى الحياة المسيحية بفضل تعليم أب ما أو أم ما، وبفضل صلاة شخص – ربما راهبة محصنة لم يرها أبدًا – ولدته إلى حياة الإيمان بعد محنة لا يعرف كيف خرج منها حيًا، وكيف نال بعدها الإيمان أقوى بدل أن يفقده. الوصول إلى الإيمان يتم من خلال ولادة جديدة لها الكثير من خصائص الولادة الطبيعية، ورسائل القديس بولس تعكس بشكل واضح هذا المفهوم. فبولس كان يدرك أنه لم يكن مجرد بائع تعاليم مسيحية، بل هو أب ويكفينا أن ننظر إلى بعض رسائله لنر هذا الطابع الأبوي في مقاربته للتبشير (لقد تطرقنا إلى هذا الموضوع في مقالة سابقة عن اللاهوت، القداسة والأبوة الروحية وقدمنا ملخصًا عن مفهوم الأبوة الروحية في بولس).

كما وأدرك آباء الكنيسة العظام هذا الأمر، فرأى الكثيرون منهم في الكنيسة "حشًا يتابع في المؤمنين ولادة يسوع المسيح، ولادة اللوغوس الأزلية من الآب، وولادته الزمنية من العذراء. الكنيسة أم-عذراء، وهي، من خلال نعمة المعمودية تولد المسيح في الإنسان والإنسان في المسيح. يقول القديس ميثوديوس من فيليبي: "إن الماخض التي تولد اللوغوس في قلب المؤمنين هي أمنا، الكنيسة". إذ يولد المؤمنون من حشاها الكنيسة لا يضحون مجرد "أتباع" ليسوع المسيح، بل يضحون بدورهم "حاملي المسيح" (Cristophoroi) و "أمهات المسيح" (theotókoi). لهذا كان القديس اغناطيوس الأنطاكي يلقّب بحامل المسيح. وقد أدرك هذا الأمر الفيلسوف المسيحي موريس بلوندل عندما كتب: "يجب علينا جميعًا أن نعيش المخاض، أن نلد الله في وجودنا، أن نكون أمهات لله".

القديس هيبوليتوس الروماني يقول بوضوح: "إن الله-الكلمة يتجسد من القديسين: إذ بينما يلد الكلمة القديسين، يولد هو بدوره من القديسين".

تعليم "ولادة الله" هذا يمد جذوره في تراث المسيحية الأولى، وبالتحديد في تعاليم الإعداد المسيحي الأول. من خلال الولادة الجديدة في المعمودية، ينال المؤمن البذر الإلهي الذي يحوله على مثال الله ويعيد ترميم الطبيعة التي دمرتها الخطيئة، مؤلهًا إياها كصورة لصورة الله الحقة، الكلمة المتجسد. في حديثه عن المعمودية يقول القديس أكليمنضوس الإسكندري: "إن الإنسان الذي يتعايش معه اللوغوس [أي المعمّد] هو يحمل صورة اللوغوس، يضحي جميلاً لأنه يضحي مشابهًا لله. نعم، يضحي الله، لأن الله يريد ذلك: يا له من سر جلي: الله في الإنسان، والإنسان ‘إله‘".

الكنيسة: مهد التأليه

إن عقيدة التأليه (Théosis) التي يعلمها آباء الكنيسة، وخصوصًا آباء الكنيسة الشرقية، لا تنفصل عن سر التجسد، تجسد الكلمة. بل ما يميّز عقيدة التأليه المسيحية هو أنها لا تشكل انقطاعًا في مسيرة الكائن البشري بل تكميلاً لها. التأليه هو قبول الإنسان لألوهة الله-الكلمة في حياته، جسده وتاريخه. وهكذا، بالنسبة لإيرناوس، قمة التجسد هي أن نفسح للكلمة مجالاً في وجودنا (1) . ولكن هذا التعليم لا يتألف من سعي تقشفي خاص، بل هو هبة يترتب على الإنسان أن يتقبلها. يولد اللوغوس في قلب المؤمنين بفضل مخاض الكنيسة العروس والأم التي يصفها القديس هيبوليتوس معلقًا على نص الرؤيا في الفصل 12 هكذا: "بالرغم من أنها، في وجودها في هذا العالم، تعيش مُضطهدة من قبل غير المؤمنين، إلا أن الكنيسة لم تنفك تلد الكلمة في قلبها. الكنيسة تلد، كما يقول الكتاب، ابنًا ذكرًا يحق له أن يسود على الشعوب، هو المسيح الرجل الكامل، ابن الله، الإله الإنسان… والكنيسة، إذ تلد المسيح باستمرار تقوم بتعليم كل الشعوب" (2). ولذا نفهم أن الكنيسة تعلّم ليس فقط عندما تتكلم، بل خاصة عندما تلد، وإذ تلد لا تهب نسمة حياة مائتة، بل كلمة الحياة وروح الآب المحيي. بالواقع، يصرح هيبوليتوس في كتاب آخر: "لقد خرج من فم الآب لوغوس (كلمة) طاهر، ولوغوس أخر يولد من القديسين: إذ يلد القديسين باستمرار، اللوغوس الإلهي يولد بدوره من القديسين" (3).

نجد تعليمًا مماثلاً عند المعلم الكبير الإسكندري، عبقري المسيحية الأولى، أوريجانوس. ففي كتاباته نلاقي تعليمًا عميقًا عما يمكننا أن نسميه "حشا القلب" (uterus cordis). إذ يتحدث أوريجانوس عن الارتداد الضروري لنعمة المعمودية، لا يتحدث عنها بتعابير أخلاقية، بل يستعمل اللغة الصوفية. مبدأ الحياة الإلهية في المسيحية لا يقوم على مطابقة أخلاقية فقط (فهذه هي واقع مشترك مع معظم الديانات العالمية)؛ الخاصية المسيحية هي تحول النفس إلى صورة اللوغوس المقيم فيها، والذي يشكل مبدأ الحياة الإلهية في التاريخ وفي الحياة الأبدية. يتساءل أوريجانوس في هذا الصدد: "ماذا ينفعني إذا ولد المسيح من العذراء مريم ولم يولد في أحشائي؟"  (4). حمل المسيح في قلبنا وتنميته، إذا جاز التعبير، من خلال العيش الأخلاقي، هو مشابه لواقع الحَبَل (الحَمْل)، ويعيش مختلف إيقاعات هذه الخبرة، ولذا يحذر أوريجانوس بالقول: "إذا لم ينمَ اللوغوس فيك، ستكون مذنبًا بالإجهاض" (5).

الكثير من الآباء يرددون تعليمًا مماثلاً، والشهادة الأكثر سلطة نجدها عند الآباء الكابادوكيين. يعلم غريغوريوس النزينزي على سبيل المثال أن كل نفس هي في حميميتها أم للمسيح إذا ما عاشت حياة قديسة.

ونجد تعابيرًا مماثلة في يوحنا فم الذهب المنحول: "كل نفس تجمل في ذاتها المسيح كما في حشًا أمومي… وكل مرة تقبل في ذاتك كلمة المسيح وتعطيها شكلاً فيك في تفكيرك، يمكنك أن تُدعى بحق أم المسيح. بهذا الشكل تدرك أن المسيح يتكوّن في كل منا" (6).

تعاليم الآباء التي قدمناها بشكل مختصر هنا تشهد لثبات تعليمهم بشأن اللوغوس وولادته في قلب المؤمن وفي قلب الكنيسة وتجعل من المؤمن ومن الكنيسة أم المسيح وعروسته. ولذا لا عجب أن ديونيسيوس الأريوباجي المحول يصف المعمودية بـ "ولادة الله" (theogenesia): في المعمودية يولد الإنسان على حياة الله ويولد الله في حياة الإنسان (7).

(1) Ireneo di Leone, Adversus Haereses 3,19,1.

(2)  Ippolito Romano, De AntiChristo 61.

(3) Ippolito Romano, In Daniel 1,10,8.

(4) Origene, In Jeremiam Homiliae 9,1.

(5)  Cf. Origene, In Matthaeum Commentarii 43.

(6)  Cf. Pseudo-Crisostomo, De caeco et Zachaeo 4.

(7)  Cf. Pseudo-Dionigi Areopagita, De ecclesiastica hierarchia 2,2,7..

تطبيقات عملية: دور الكنيسة البيتية

يمكننا أن نلخص ما قلناه في معرض هذه الدراسة بالقول: إن الكنيسة تربي على الإيمان عندما تجعل المسيح يولد من قلب المؤمنين. إنها ولادة يجب على كل مسيحي أن يعيشها، وذلك من خلال قيامه بـ "عمل الله" (راجع يو 6، 29) الذي هو الإيمان بيسوع المسيح وتتميم إرادة الله التي يلخصها القديس بولس بهذا الشكل: "إن الله يريد أن ينال الخلاص جميعُ البشر وأن يصلوا إلى معرفة الحقيقة" (1 تيم 2، 4). ألا يقول يسوع أن من يفعل إرادة أبيه السماوي يلده هو بالذات؟ (راجع مت 12، 50). بالمفهوم عينه يقول القديس أغسطينوس: "من يفعل إرادة الآب، يضحي روحيًا أم المسيح" (Quia voluntatem Patris faciunt, Christi spiritaliter matres sunt).

ولكن كيف يتم هذا الأمر عمليًا؟ – بالطبع لا يمكن لجوابنا أن يكون تركبية حسابية تشرح بالتفاصيل كيف يتم هذا الأمر، فالحياة الروحية شأنها شأن كل الأمور التي تتعلق بالوجود الشخصاني، لا تخضع لقوانين محددة بل تتبع ديمانية الحرية التي لا يمكن حصرها وسبرها. ولكن، بالرغم من ذلك، فهناك بعض المقايضات الرابحة التي نستطيع أن نركز انتباهنا عليها لخير المؤمنين والكنيسة. سنتوقف في هذا القسم من المقالة على واحدة منها هي، في نظرنا، الركيزة الأهم لدور الكنيسة التربوي: الكنيسة البيتية.

عادة يتعلم الإنسان لغة بشكل جيد عندما يتعلمها في طفولته. ولذا فتعليم الكنيسة يتحدث عن العائلة فسميها "الكنيسة البيتية" (1). هذه الكنيسة البيتية هي الأرضية الأولى التي يتلقى فيها الإنسان بذر كلمة الله، هذه الكلمة تنمو في قلبه وصولاً إلى ملء نضج الإيمان بالرب. التربية ليست مسألة سحر أو حظ، التربية هي عملية بطيئة، متعبة بعض الشيء، ومحفوفة بالمفاجئات والمخاطر. مرات كثيرة نشعر أن ما زرعناه قد مات وفني، ولكن غالبًا ما يحصد الإنسان ما قد زرعه.

يقول اللاهوتي هانس أورس فون بالتازار أن الإنسان عندما يولد يعيش في حالة هي شبه نباتية، وحيوانية. يأكل، يشرب، ينام… الفعل الإنسان الأول الذي يقوم به هو عندما يبادل بسمة أمه ببسمة مماثلة تشكل خاصية بشريته. هذا هو أول فعل شخصاني. وهذا الفعل له تأثيره الكبير على الصورة التي نكونها عن الله في مخيلتنا. شئنا أم أبينا، كأهل نحن الصورة الأولى لله التي تنطبع في ضمائر ومخيلات أولادنا. يا لها من مسؤولية! والثقة التي يشعر بها الطفل تجاه والديه هي مقدمة الإيمان الديني إلى حد ما. في هذا الصدد يقول الكاردينال كارلو ماريا مارتيني كلمات صائبة وواضحة: "يشعر الأهل أن هذه الثقة الغرائزية التي يعيشها صغارهم تجاههم هي حاملة لمسؤولية كبيرة. فهذه الثقة في الحياة هي مهمة لدرجة أنها تستطيع أن تكون الدرجة الأولى في السلم الذي يقود نحو الإيمان الديني الأصيل. ويشكل خاص الإيمان المسيحي الذي يحتاج إلى إيمان وثقة لا تختلفان عن الإيمان والثقة الضرورين لعيش الحياة البشرية" (2)

——

(1) راجع نصوص المجمع الفاتيكاني الثاني: نور الأمم، 16 و النشاط الرسولي، 11؛ هذا ويتحدث يوحنا بولس الثاني عن "الكنيسة البيتية أكثر من 10 مرات في الإرشاد الرسولي "شؤون العائلة". كما ويتطرق إليها تعليم الكنيسة الكاثوليكية في الأعداد 1655 و 1656.

(2)  C.M. Martini, «Le madri violente e la cultura della vita» in Corriere della Sera, 27-06-2010.

 

العائلة: ركيزة مستقبل الكنيسة

تتألف الكنيسة الجامعة من عدد كبير جدًا من الكنائس الخاصة، وهذه الكنائس الخاصة أو المحلية تتألف مع العديد من الكنائس البيتية، أي من العائلات. يمكننا أن نقول أن الكنيسة تتألف من العائلات، والعائلات بدورها تُحفظ في صُلب الكنيسة. نعيش اليوم في عالم لم يعد فيه الإيمان الديني خبزًا يوميًا، بل خيارًا فرديًا. وغالبًا ما يتعرض المؤمن، وبشكل خاص في الغرب، إلى التهميش فقط بسبب انتمائه الديني ومجاهرته به. في إطار من هذا النوع حيث "القوانين المعادية للدين تسعى أيضًا لحظر التربية الدينية، وحيث يجعل عدم الإيمان المتفشي والعلمنة السائدة النموَ الديني واقعًا صعبًا، يبقى ما نستطيع تسميته ‘الكنيسة البيتية‘ البيئة الوحيدة، حيث يستطيع الأطفال والشباب أن ينالوا تعليمًا أصيلاً" (1).

يبقى العلمانيون عادة مستخدمين، أو زبائن أو مستهلكين لخدمات الكنيسة، وقلما يضحون روادًا فاعلين في حياتها. الجماعة المسيحية لا تستطيع أن تمضي قدمًا بهذا الشكل. يمكننا أن نرى في أزمة الدعوات الحالية – إلى جانب طابعها المتأزم الذي يجب أن نجد له حلاً وعلاجًا – دعوة إلى إعادة تقييم دور العلمانيين الذي بقي لعصور منفيًا في هوامش وضواحي الحياة الكنسية. كما أن الجسد لا يستطيع أن يبقى حيًا فقط بفضل بعض أعضائه، بل من خلال تعاون سائر الأعضاء، وكما أن شعب أمة ما لا يستطيع أن يستمر إذا عُني بمصيره فقط قلة من المسؤولين، فكذلك الكنيسة: إذا لم يُعنى كل المسيحيون بمصير الكنيسة كشعب الله وبذار الملكوت، لا بد أن يترتب على هذا الموقف الإرجائي انحطاط كبير.

فليُسمح لي أن أقدم في هذا الصدد خبرة شخصية. لقد طُلب إلي العام الماضي في رعيتي الإيطالية أن أُعنى بتلقين التعليم المسيحي للأطفال الذين يستعدون للمناولة الأولى، ونظرًا لعدم توفر من يقوم بهذا العمل قبلت. لم يكن للخبرة إلا أن ثبتتني بقناعاتي وهي التالية: التعليم المسيحي للأطفال ضروري، ولكن يجب أن يسير يدًا بيد مع تنشئة للراشدين. فالطفل الذي ليس مسيحيًا في البيت لا يستطيع أن يكون مسيحيًا في العالم (هناك استثناءات طبعًا، ولكن لا يمكننا أن "نجرب الله" دومًا!). حياة مسيحية تُبنى على ساعة في الأسبوع لا يُكتب لها عمرٌ طويل (وأستعمل عمدًا لغة القدرية مع أني لا أؤمن بها!). إن مسيحية لا تضحي يومية لن يبقى فيها ما يكفي من المسيحيين لكي يعيشوا مسيحية الآحاد والأعياد. لذلك، خلاصة القصة، هي أن على الكنيسة وعلى المربين في الكنيسة أن يكرسوا اهتمامًا خاصًا لتنشئة الراشدين، لتنشئة العائلات وتربيتها على دورها. العائلة هي مستقبل الكنيسة.

Giovanni Paolo II, Catechesi Tradendae 68

قديسو العائلات القديسة

إن مثال القديسين الكبار المعاصرين يثبتنا بأهمية دور العائلة في تنشئة وتربية القديسين: الأب بيو من بياترالشينا كان متعلقًا جدًا بوالديه وبالمثال الكبير الذي شكلاه في حياته، وقد قال في الأم "الأم هي أجمل شِعر الحياة". ودون بوسكو، مؤسس الرهبان السالسيين ومربي الفتيان العظيم، لم يكن ليحقق ما حققه وليتمتع بالحس التربوي الذي تمتع به لولا أمه ورفيقة دربة "ماما مارغريتا". لا ننسينّ القديس أغسطينوس الذي ولدته أمه مرتين، مرة أولى من حشاها ومرة ثانية من دموعها.

ولكن فلنتوقف الآن على شهاداتي امرأتين قديستين محبوبتين ومعاصرتين تقريبًا لنا هما القديسة تريز الطفل الطفل يسوع والوجه المقدس والطوباوية الأم تريزا من كالكوتا.

تكتب تريز الطفل يسوع إلى رئيستها (وأختها) بولين: "غالبًا ما كنت أسمع أن بولين ستصبح راهبة بالتأكيد، فكنت أفكر، دون أن أعرف ما معنى ذلك: "أنا أيضًا سأصبح راهبة". تلك واحدة من ذكرياتي الأولى، ومنذئذ، لم أغيّر قصدي قط!… وكنت أنتِ، يا أمي العزيزة، التي اختارها يسوع لتخطبني له؛ لم تكوني إذ ذاك بالقرب مني، غير أن ارتباطًا كان قد تكوّن بين نفسينا… لقد كنتِ مثالي الأعلى، وكنت أودّ التشبه بك، ومثلك هو الذي جذبني إلى عريس العذراى منذ الثانية مع عمري…".

هذه الكلمات تبين لنا عن أهمية دور العائلة. فالحس الديني لا يبدأ أولاً في الحاسة المنطقية بل في المخيلة والمصورة التي تنجذب إلى الجمال قبل أن تعي الحق وقبل أن تعرف أن تميّز الخير.

ونرى القديسة عينها تتحدث عن جاذبية قداسة أبيها فتقول: "حينما كان الواعظ يتكلم عن القديسة تريز، انعطف بابا إليّ، وقال لي همسًا: ‘اسمعي جيدًا ملكتي الصغيرة، فالكلام عن شفيعتك القديسة‘. فكنت أصغي بانتباه، ولكني كنت أنظر إلى بابا أكثر منه إلى الواعظ، إذ كان محياه الجميل يعلمني أمورًا كثيرة!… وكثيرًا ما كانت عيناه تغرورقان بالدموع، فيحاول عبثًا حبسها. وكان يبدو أنه لم يعد متعلقًا بهذه الأرض، بل كانت نفسه تحب الغوص في الحقائق الإلهية".

ومرة أخرى كتبت عن أبيها الذي كان أمامها مثال قداسة حي، لا يحتاج إلى الكلام: "كان ينشد أنغامًا تملأ النفس بالأفكار العميقة… أو يهدهدنا  برفق ويسرد مقطوعات شعرية مشبعة بالحقائق الإلهية… وبعد ذلك، كنا نصعد لتلاوة الصلاة معًا، والملكة الصغيرة وحدها بجانب ملكها" وتختم تريز بهذه الكلمات التي ليتها تكون كلمات كل طفل عن أبيه وأمه: "حسبُها أن تنظر إليه لتعرف كيف يصلي القديسون".

مثل آخر نجده في حياة الأم تريزا. تتحدث الطوباوية في إحدى كلماتها عن أمها فتقول: "نعم،  لقد كانت أمي امرأة قديسة. كانت تسعى لتربية أولادها على حب الله والقريب. كانت تقوم بكل جهد ممكن لكي تربينا متحدين بيسوع بالكلية. وكانت هي بالذات تهيئنا للمناولة الأولى. كانت أمنا تعلمنا أن نحب الله فوق كل الأشياء".

وبالحديث عن العائلة بشكل عام كانت تقول: "كنا عائلة سعيدة جدًا. كنا متحدين كثيرًا، وخصوصًا بعد موت أبينا. كنا نعيش واحدنا لأجل الآخرين، وجل هم كل منا كان أن يُسعد باقي أعضاء العائلة. وبشكل خاص لا أنسى أمي. كانت دائمًا مهتمة ومشغولة كل النهار. وحتى عندما كان يحل المساء لم يكن عملها لينقص رغبة منها بأن تستقبل أبي أفضل استقبال. في ذلك الحين لم نكن نفهم. كنا نكتفي بالضحك عليها قليلًا، وأحيانًا كنا نداعبها ساخرين منها. أما الآن فأفهم الحنان الكبير الذي كانت تشعر به نحو أبي. مهما كانت تفعل، كانت دائمًا مستعدة لكي تستقبله بأكبر عاطفة".

هذه الكلمات ما هي إلا القليل للشهادة على دور العائلة في نشأة القديسين. العائلة هي جنان القداسة، فيها يتجذر الإنجيل في قلوب الأبناء لكي يضحوا أبطال القداسة.

بعض خصائص كنيسة-أُمّ تلد على الإيمان

في معرض التطبيقات العملية للأفكار الذي وردت في هذه المقالة نقدم بعض الخصائص التي نعتقد شخصيًا بأنها يجب أن تُمَيِّز كنيسة هي بديناميتها أم تلد البنين والبنات على حياة الله والحياة في الله. خيارنا هو أن نقدم ست خصائص وذلك لخيار رمزي: الرقم ستة يعبّر عن عدم الكمال، ونحن في هذا المقطع من مقولتنا لا نزعم تقديم الحل للخصب الروحي في الكنيسة، كما لا نزعم أن نقدم الخصائص الوحيدة التي يجب أن تتحلى بها عروسة المسيح. إن كل كنيسة محلية، وكل كنيسة بيتية تستطيع أن تبتكر وجه قداستها، إشعاعها وخصبها الخاص، وما هذه الخصائص التي نقدمها إلا نموذج من النماذج العديدة التي تبين عبقرية الروح القدس وقدرته الإبداعية الخلاقة. بعد هذا التوضيح الواجب نقول أن على كنيسة المسيح أن تكون:

أولاً: عروسة متيّمة: فالرب لا يلد من خلال استئجار الأحشاء (كما يفعل بعض البشر حاليًا، مستأجرين أحشاء النساء لكي يلدن لهم البنين)، الرب يلد أولاده الروحيين فقط من خلال أحشاء مغرمة، أحشاء تكرس ذاتها له بالكلية. الرب يلد البنين الروحيين من خلال عروسة يحبها بحبه الأزلي، عروسة تستطيع أن تغوي الله لدرجة أنها تستطيع أن تقول "لقد اقتنيت رجلاً من لدن الله" (راجع تك 4، 1).

ثانيًا: عروسة متجسدة: تمامًا كما تجسد الرب، يجب على الكنيسة أن تكون متجسدة. إن كنيسة غير حاضرة في عالمها ليست كنيسة تستطيع أن تشهد لمصداقية تجسد ابن الله. يجب على الكنيسة أن تبشر بالخلاص للعالم وفي العالم، لا بالخلاص من العالم أو خارج العالم (راجع يو 17)؛ يجب عليها بكلمات البابا يوحنا الثالث والعشرين أن "تحب الأرض وهي تحفظ السماء في قلبها".

ثالثًا: عروسة جميلة: العروسة الجميلة ليست العروسة التي تبدلت وتحولت من خلال عمليات التجميل بل هي العروسة التي تعي مواهبها وعطاياها التي أفاضها الرب عليها. الجمال سيخلص العالم – بحسب قول دوستويفسكي – وذلك لأن الأخلاقيات وحدها تجفف النفس، والتفكير العقلاني وحده يعرقل العقل، ولكن وحده الجمال يستطيع أن يسبي القلب، أن ينير العقل وأن يقوي النفوس أخلاقيًا. يقول في هذا الصدد أسقف مدينة شيفيتا كاستيلانا، المطران رومانو روسّي (إيطاليا) مخاطبًا رعيته: "إن يسوع المسيح قد جعل منا كنيسة لكيما كل من يلتقي بنا أو يتواصل معنا يستطيع أن يقول، وقد أثّر فيه ما نحن عليه وما نفعله: ‘يا للجمال! أريد أن أتعرف عن سبب جمالهم وعمّا يدور في أعماقهم‘".

رابعًا: عروسة فرحة: الجمال يتزين ويحافظ على رونقه وإشعاعه في الفرح، فرح يجب أن يُطعّم كل الحياة المسيحية. الفرح لا ينفي الألم ولا يناقضه، بل يعبر في واديه ويجعله يتجلى. لنا في ذلك مثل في حياة القديس فرنسيس الذي يَنظُم نشيد الخلائق، نشيد الفرح بخليقة الله ومجده المتجلي في الخليقة في لحظة ألم كبيرة، في لحظة ظلمة داخلية وخارجية. فرح المسيحي هو فرح افخارستي وهذا الأمر يعني أمرين على الأقل: الأول هو أن الفرح يأتي نتيجة لهبة الذات وللشركة المرتكزة على هبة المسيح لذاته. الثاني، هو أن الفرح يمر من خلال "الكسر والعطاء"، من خلال الصليب الذي ليس خيارًا مفروضًا بل جزءًا طبيعيًا من الرحلة، رحلة الحياة، كل حياة.

خامسًا: عروسة مغسولة من دنسها: عروسة المسيح الخصبة هي عروسة تعرف أنها لم تصل بعد إلى ميناء القداسة الكاملة، هي عروسة في مسيرة، هي عروسة خاطئة غُفرت خطيئتها. هي عروسة لا تطوّب ذاتها بذاتها، بل تعترف بأنها "دائمة الإصلاح" (semper reformanda)، تسير مع كل البشرية نحو ذلك الذي وحده صالح وقدوس. في مقابلة عامة بتاريخ 7 مايو 1969، تحدث البابا بولس السادس عن الكنيسة فقال: "الكنيسة تتألف من أشخاص ناقصين، محدودين، خطأة؛ هي مؤسسة مقدسة وقديسة، ولكنها مبنية من مادة بشرية، غير ملائمة بالكامل وقابلة للفساد؛ وهي منخرطة في سيل التاريخ الذي يمر، ولهذا هي مُعرّضة  لتغيرات الزمن". وانطلاقًا من هذه النظرة التي تعبّر عن صدق وحيوية المجمع الفاتيكاني الثاني وفكر لاهوتيين عظام مثل كونغار ودو لوباك (اللذين كان البابا مونتيني يعرفهما خير معرفة)، يتابع البابا فكرته فيقول: "نعتقد أننا بصدد علامة من علامات الأزمنة، وبصدد نعمة من الرب، وهو أن تكون الكنيسة شاهدة لإصلاحها. هذا العمل يجب أن يعترف دومًا بضعف الأشخاص، حتى ولو كانوا مسيحيين، وأن يصحح ضعفهم والنقص الموجود في الإكليروس؛ إذا ما فهمناه بمعناه الأصيل، يمكننا أن نتبنى برنامج إصلاح كنسي دائم (Ecclesia semper reformanda)".

سادسًا: عروسة مضيافة: إن السخاء والروح المضياف المسيحيين هما من أكبر شهادات إيمان الكنيسة. إن الأيقونة البيزنطية المعروفة باسم "فيلوكزينيا" (Filoxenia)، والتي تُسمى عادة "ضيافة إبراهيم" لهي شهادة فنية ولاهوتية لمعنى الضيافة المسيحية. الفيلوكزينيا، والتي تعني حرفيًا "حب الغريب"، هي موقف يجب أن يميّز الكنيسة، من ناحية أنها تشهد بأننا "لم نعد بعد غرباء أو نزلاء، بل من أبناء وطن القديسين ومن أهل بيت الله، مبنيون على أساس الرسل والأنبياء، وحجر الزاوية هو المسيح يسوع نفسه" (أف 2، 19 – 20). ولكن بشكل خاص لأن الله يتجلى في الغريب الذي لا ينتبه إليه أحد، والكنيسة تربي على الإيمان عندما تستقبل الثالوث وتنقل الثالوث للآخرين من خلال موقف النظرة التي تُصغي، ومن خلال الحضور والتنبه لحاجات الآخرين. لنا في هذا المجال مثال كبير في مريم العذراء التي تقوم بفعل الضيافة والاستقبال حتى عندما تكون هي ضيفة، كما نرى في وليمة عرس قانا، حيث تسهر – رغم أنها كانت ضيفة – على حاجات الآخرين، وتدعوهم لكي يصغوا لكلمة يسوع ويستضيفوها في قلوبهم: "افعلوا ما يقوله لكم".

إلى مريم العذراء صورة الكنيسة الأم

إن خلاصة ما قلناه في هذه المقالة الطويلة هو هذا: الكنيسة التي تربي على الإيمان هي كنيسة متشبعة من المسيح. والامتلاء من المسيح هو خبرة عاشتها مريم بشكل ملموس أكثر من أية خليقة أخرى. فبعض القديسين لمسوا يسوع، آخرون حملوا جراحه، ولكن مريم حملته في  أحشائها، في كيانها، مريم كانت كما يسميها بعض القديسين "بيت قربان متنقل. ولذا فختام هذه المقالة لا يمكن أن يكون كلام، ختام هذه المقالة صلاة نرفعها إلى الآب بيدي مريم التي هي الصورة المشخصنة للكنيسة الأم التي تلد المؤمنين على الإيمان:

يا مريم،

يا ابنة أرضنا،

يا شريكة زماننا،

أنت أجبت "نعم" على بشرى الملاك

فصرت أم المسيح الرأس

أجيبي اليوم أيضًا، في زمننا الحاضر،

على دعوة الآب الذي يدعوك لتكوني اليوم أيضًا،

أم البشرية،

أم جسد المسيح السري

أنظري بعطف إلى الكنيسة عروسة المسيح،

أصيغي فيها قلب ابنك،

ازرعي فغي قلبها تلك الكلمة التي حفظتها في قلبك

كوني غيورة على عرس الحمل في التاريخ

تمامًا كما كنت غيورة في عرس قانا.

علمي عروسة المسيح أن تقتدي بابنك، وأن تكون متجسدة هي أيضًا،

جمليها بنعمة وحبور روح الحب.

آلفي دقات قلبها لكي يتناغم مع حب الثالوث

ولكي تتعلم أن ترقص على نغم الرقصة الثالوثية

طهريها من كل ما يُبعدها عن الحبيب

لكي تستطيع أن تكون مضيافة نحو بذر الكلمة

الذي يريد أن يكون

عريسها

وابنها

في نفحة الروح

لمجد الآب

آمين.