عظة ليلة عيد الميلاد على جبل نيبو بالأردن

 

إن عيد الميلاد هو عيد دخول الله تاريخ البشر هو عيد الاحتفال بقرب الله منا. فالله هو المتسامي هو الأكبر ولكن لأنه الأكبر فهو الأقرب، فالله لا يرى في تعاليه وسموه حاجزا أو عائقا للدخول في علاقة شخصية مع مخلقاته، والكتاب المقدس يقول أن المسيح: "مع كونه في صورة الله ما أعتبر مساواة لله غنيمة، بل أخلى ذاته واتخذ صورة العبد وصار شبيها بالبشر" فل 2: 8-11

وبالتالي فعيد الميلاد ليس تقليلا من مكانة الله، عزل وجل، ولكنه تعزيزا لمكانة الإنسان وكرامته في عين الله: "أنقصته قليلا عن الملائكة بالمجد والكرامة كللته وعلى أعمال يديك أقمته" مز 8: 4

عيد ميلاد السيد المسيح هو العيد الذي نحتفل فيه بمنطق الله الذي يختلف عن منطق البشر، يقول الكتاب: "لأنه كما علت السماوات عن الأرض هكذا علت أفكاري عن أفكاركم وطرقي عهن طرقكم يقول الرب" (أش 55: 8-9). فمنطق العالم يؤكد أن النجاح يتم عن طريق القوة والتحكم ومنطق الله يؤكد أن النجاح هو ثمر المثابرة والعطاء.

منطق العالم يؤكد أن الانتصار يأتي عن طريق مسح الخصم وإبادته أما منطق الله يؤكد أن الانتصار الأعظم هو كبح رغبتنا في تحطيم الآخر وإزالته.

منطق العالم يؤكد أن التقدم يعني الاكتفاء بالذات أما منطق الله يؤكد أن التقدم الأعظم هو الانفتاح على الآخر ومحبة الجميع بلا تفرقة وبلا حدود.

منطق العالم يؤكد أن الملوك والرؤساء هم من يحكمون ويتسلطون ومنطق الله يؤكد أن ملك الملوك جاء لا ليُخدم بل ليَخدم ويقدم حياته للآخرين، لم يأتي ببهاء الملوك ولا بقوة الجيوش والسيوف بل أتى طفلا صغيرا، لا مكان له سوى مغارة بيت لحم، ولا مكان له ليضع عليه رأسه، وعلمنا أن: "مَن أراد أن يكون فيكم كبيراً فليكن لكم خادماً، ومَن أراد أن يكون فيكم أوّل فليكن للجميع عبداً. فإنّ ابن البشر لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدم وليبذل نفسه فداءً عن كثيرين" (مرقس10: 43-44).

إن ميلاد الطفل الإلهي في مغارة بيت لحم الفقيرة قَلَبَ المقاييس، وبدل التاريخ، وأظهر لنا الوجه الحقيقي لله،. ذلك الإله الذي اختار أن يشاركنا آلامنا ومتاعبنا لكي نشاركه مجده وبهائه، أختار أن يحمل عنا نير خطايانا لنشاركه بهاء مجده: "إن ابن الله صار بشر لكي يصير البشر أبناءً لله"

جاء الرب بيننا ليزرع السلام وها نحن اليوم وبعد أكثر من آلفي عام لزلنا نعاني الحرب والاضطهاد والألم ولازال المسيحيون يقاسون الويلات، بسبب إيمانهم، في العراق، وفي كثير من دول العالم…

 

المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وللناس المسرة

 

فلنصلي ليمنح "ملك السلام" السلام للأراضي المقدسة وللعراق ولبنان ولكل بقاع المعمورة التي تفتقد السلام… إن السلام هو عطية إلهية ولكنه أيضا مسئولية بشرية فلا سلام بلا عدالة ولا عدالة بل قانون يقوم مساواة في الكرامة البشرية وفي حق كل إنسان في "اختيار دينه"…

اسمحوا لي أن اقرأ بعض العبارات من رسالة قداسة البابا بمناسبة اليوم العالمي للسلام (1 يناير 2010) والتي جاءت هذا العام تحت عنوان: "الحرية الدينية، درب السلام" يقول: "إن خصوصية الشخص البشري تجد تعبيرها في الحرية الدينية التي تضع الحياة الشخصية والاجتماعية في يد الله حيث ندرك بشكل كامل هوية الشخص ومعناه وغايته. إن رفض أو تضييق هذه الحرية بشكل اعتباطي يعني خلق رؤى ناقصة عن الشخص البشري… إن تشويه دور الدين على الصعيد العام يعني خلق مجتمع غير عادل لا يتناسب مع طبيعة الشخص البشري الحقيقية وبالتالي استحالة الوصول إلى خلق سلام أصلي ومستديم للأسرة البشرية. أحث الرجال والنساء ذوي الإرادة الطيبة على تجديد الالتزام ببناء عالم يكون فيه الجميع أحرارا في ممارسة دينهم وإيمانهم وعيش محبتهم لله بكل قلبهم وكل نفسهم وكل ذهنهم (متى 22، 37)".

أخوتي الأحباء

أريد أنهي كلمتي بنصيحة أحد الشيوخ الذي ترك هذه الوصية:

"لقد عشت حياة طويلة، وقد كانت حياتي دائما سعيدة, لأنني لم أكن اطلب من الآخرين شيئا، ولم أكن أتوقع منهم شيئا، لأن التوقع والانتظار غالبا ما يسبب الألم والإحباط…

الحياة مهما طالت فهي قصيرة، فأحبب وأحبب كثيرا لأن المحبة وحده تعطي لحياتك معنى ولوجودك قيمة…

أحبب حياتك واحترمها كنعمة من لدن الله، أُعطيت لك وستحاسب عنها…

أحبب نفسك لأنك لن تحب الآخرين إن لم تحترم وتحب نفسك أولاً

أحبب الآخرين لأنهم الطريق لله.

أحبب الله لأنه مصدر كل محبة حقيقية وكل غني دائم.

وتعلم أنه قبل أن تتكلم يجب أن تسمع.

وقبل أن تكتب يجب أن تفكر.

وقبل أن تصلي يجب أن تغفر.

وقبل أن تعلم يجب أن تحيَّ ما ستعلمه.

وقبل أن تترك يجب أن تجاهد وتحاول.

وقبل كل شيء يجب أن تحب".

 

إن الكرامة الحقيقية ليست فيما نلبس أو فيما نقتني بل في قيمة نظرتنا إلى ذواتنا وإلى الآخرين، إنها لا تنبع أبدا من الخارج بل من الداخل، من كون المسيح، بميلاده العجيب، جعلنا "أبناءً لله"..

 

كل عام وآنت بخير وطفل المغارة يحل بسلام في قلوبكم وأسركم وعائلاتكم وبلادكم ويجعل من العام الجديد عاما سعيدا على الجميع

 

الأب د. يوأنس لحظي جيد

عمان في 20 ديسمبر 2010