كنائس عمّان تؤوي رعيتها الجديدة

… و«قطة مقطوعة الرأس» هدية الميلاد من بغداد

 

 

دار الحياة

يطرح اللاجئون العراقيون إلى الأردن واقعاً اجتماعياً واقتصادياً جديداً يحمل معه تحديات كبيرة على الجهات الحكومية والأهلية معاً لجهة استيعابهم وتأمين حاجاتهم ريثما يستقبلهم بلد توطين ينتقلون اليه في شكل نهائي. ويشكل المسيحيون بينهم خاصية إضافية لكونهم لجأوا إلى أرض لها رمزية دينية وبلد ينعم فيه المسيحيون بحرية ممارسة شعائرهم وطقوسهم من دون خوف أو تقية. وبعد تفجيرات كنيسة سيدة النجاة في بغداد ارتفع عدد المسيحيين الهاربين من العراق في شكل تصاعدي وكان الأردن واحداً من الوجهات الأولى لهم إلى جانب لبنان وسورية. لكن، من هم اللاجئون الذين يختارون الأردن وما شروط لجوئهم إليه؟ ومن يرعى شؤونهم كمسيحيين وكيف يعاملون؟

تنشر «الحياة» سلسلة من ثلاث حلقات تتناول فيها واقع الهروب المسيحي من العراق، وظروف اللجوء والأطر القانونية في البلدان الثلاثة المذكورة، تبدأها اليوم بحلقة أولى من الأردن.

تجهم وجه الأب خليل الجعَار وجحظت عيناه وهو يستمع إلى صوت متهدج على الطرف الآخر من الخط. صوت امرأة تبكي تناهى عبر سماعة الهاتف وبدا من إجابات الرجل إنها تلح عليه بطلب ما. «حاضر» راح يكرر. «حاضر، سأبذل جهدي… أعدك». أقفل الأب خليل الخط وقد خسر ما بقي من لون في وجنتيه. كانت المتصلة سيدة عراقية مسيحية، هربت إلى عمان مع زوجها قبيل تفجيرات كنيسة سيدة النجاة في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، واتصلت تطلب «سحب» بقية أفراد العائلة ممن كانوا لا يزالون في بغداد وما عادوا يحتملون البقاء أكثر. راحت السيدة تخبر الأب إن آخر التهديدات التي وصلتهم كانت قطة مقطوعة الرأس وضعت في صندوق كرتوني وتركت أمام مدخل المنزل. أرفق الطرد برسالة تنذر السكان بوجوب الرحيل بسرعة وإلا لقوا المصير نفسه. هذا التهديد جاء بعد سلسلة من الإنذارات المتتالية من رسائل تدس تحت الباب، وأوراق تعلق على الجدران الخارجية للمنزل تعلن من فيه «هدفاً شرعياً»، بالإضافة إلى تردد شبان ملثمين إلى الجوار، يطلقون النار عشوائياً فيتعمدون إحداث أضرار في الباحة الخلفية للمنزل وكسر زجاج النوافذ الذي سبق وتم تصليحه مراراً وتكراراً جراء أفعال مشابهة.

صدمة القطة المذبوحة امتدت من سماعة الهاتف إلى الأب خليل نفسه فجلس صامتاً شارداً لبعض الوقت قبل أن يعيده رنين الهاتف مرة أخرى إلى حالة اليقظة. الرجل معتاد على سماع الأخبار السيئة من العراق، فهو يعمل مع العراقيين منذ أواسط التسعينات بصفته المدير الإقليمي لجمعية «رسل السلام» وممثلها في كل من بغداد وعمان. لكن ما اعتاده الأب خليل في سنوات عمله السابقة، يختلف عن وتيرة العنف والتهديدات التي اشتدت في الفترة الأخيرة وتفوق أي قدرة على الاحتمال والتصور. فالعائلات العراقية الهاربة من التفجيرات تحمل معها تفاصيل وروايات تزداد ضراوتها مع حالة المسيحيين المطاردين. ذلك أن أحياءهم ودور عبادتهم ومحالهم التجارية باتت مستهدفة في شكل مباشر، وبعدما هجروا من الأحياء المختلطة طائفياً كالدورة والغزالية وغيرهما، بات عليهم اليوم مغادرة البلاد كلياً. إنه عنف منهجي ومركز لا يندرج ضمن سياق النزاع الأهلي العام الدائر في العراق وإنما يستهدف أفراد أقليات دينية لا يحميها سلاح ميليشيات ولا ثقل سياسي. فمنذ قتل رجلي دين مسيحيين في 2006 وأحداث مشابهة في الموصل، جاءت مجزرة الكنيسة التي راح ضحيته نحو 100 مصلَ بين قتيل وجريح، لتتوج موجة الترحيل الطائفي وتفتح الباب أمام تشريع قتل عجائز داخل المنازل ومطاردة عائلات بكاملها.

ولا يشكل المسيحيون العراقيون اليوم أكثر من 2 في المئة من السكان بعدما كانوا يقاربون 7 في المئة أواسط الثمانينات و5 في المئة عند اندلاع الحرب في 2003، علماً أن تاريخ وجودهم في تلك المنطقة يعود إلى مهد حضارة بلاد ما بين النهرين. ويقول الأب خليل وهو أردني من أصل فلسطيني «عائلتي تهجرت من فلسطين في 1948 وأعرف معنى الاضطهاد واللجوء. لقد سخر لي الله هذا البلد وأهله لاستقبالي وسخرني اليوم بدوري لأساعد غيري لذا أسعى دائماً ألا أميز في عملي بين لاجئ وآخر على أساس معتقده الديني، لكنني لا أنكر خوفي العميق على المسيحيين في العراق والشرق عموماً. فهم أبناء هذه المنطقة ويعاملون فيها كضيوف». ويتابع: «أنا رجل دين مسيحي، لكن ثقافتي عربية وأكاد أقول مسلمة، لأننا أقلية متأقلمة مع محيطها ومنسجمة معه طالما أن هناك أنظمة وقوانين تحفظ حقوقنا».

مركز جمعية «رسل السلام» التي تأسست في مدريد عام 1964 يقع ضمن حرم كنيسة العذراء في منطقة الصويفية في عمان، وهو أشبه بقاعة ترانزيت كبرى للاجئين العراقيين عموماً والمسيحيين على وجه الخصوص. ذاك أن الأردن كما دول اللجوء الأولى كلبنان وسورية، يشكل محطة انتقالية نحو بلد ثالث غالباً ما يكون كندا أو أميركا أو أستراليا، وهي غالباً تعطي الأولوية للحالات الإنسانية العاجلة. وبعدما كانت فتحت أبواب بعض السفارات الأوروبية على اثر مجزرة الكنيسة، عادت وتقلصت فرص العراقيين لاتهامها بأنها تسهل «الترانسفير» المسيحي في شكل نهائي، وجاءت حادثة السويد أخيراً التي أعادت 20 لاجئاً بينهم 5 مسيحيين إلى العراق رغماً عنهم لتعيد فتح هذا الجدل من جديد.

في الشقة الصغيرة الملحقة بالدير والمركز، لا يتوقف الهاتف عن الرنين فيما الباب يفتح ويغلق باستمرار، مستقبلاً ومودعاً لاجئين قدموا أفراداً أو ضمن مجموعات صغيرة. هنا يعمل الأب خليل بلا هوادة فهو اليوم أشبه بسفير غير رسمي للعراقيين في الأردن، وهم لا يترددون في الاتصال به ولو من باب الاستشارة والإخطار قبل أن يقدموا على أي خطوة تتعلق بحلهم وترحالهم. يتأكد من أوراق تسجيل عائلة لدى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التي لم يتوافر أحد من ممثليها في عمان للقاء «الحياة»، يتابع ملف طفلة أرسلت للعلاج في مدريد على نفقة الجمعية، ثم يلاحق خلافاً زوجياً قبل أن يتركه لينكب على حالة لاجئين وصلوا للتو. يساعده في تلك المهمة الشاقة مجموعة من المتطوعين أو الموظفين العراقيين الشباب، ويعتمد في شكل أساسي على هبات المتبرعين وغالبيتهم أيضاً من المقتدرين العراقيين بالإضافة طبعاً إلى الجهات الدولية المانحة. ويقول: «هذه الفترة هي الأسوأ منذ لحظة الانهيار في 2003. ففي أسبوع واحد وصلت 35 عائلة جديدة بكامل أفرادها أو بعضهم على أمل أن يلتحق بهم من لم يتمكن من المجيء. هؤلاء عرفنا عنهم لأنهم توجهوا إلينا، وربما هناك المزيد ممن لم يتسجل بعد في سجلاتنا ولا في سجلات المفوضية». وتابع: «من وصل مباشرة بعد المذبحة أعطي موعداً في المفوضية بعد شهر أو أكثر… ولكن إلى ذلك الحين لا بد من العمل ضمن خطة طوارئ لأن هؤلاء الأشخاص يحتاجون أن يأكلوا ويشربوا ويبيتوا إلى أن يحدد وضعهم».

والواقع أنه بعكس ما عرف تقليدياً عن أزمات اللجوء في العالم، من تمركز اللاجئين في معسكرات ومخيمات تشرف عليها الهيئات الدولية، فتحدد الأعداد وتقييم الحاجات، فإن اللاجئين العراقيين في الأردن منتشرون عبر المناطق كل بحسب قدراته المادية. الأغنياء وهم غالباً لا يسجلون أسماءهم كلاجئين لدى المفوضية يستصدرون أوراق إقامة شرعية بناء على تأشيرات أعمال أو سياحة لدى السلطات الأردنية ويقيمون في الأحياء الفاخرة. ولا يمكن اعتبارهم لاجئين إلا ضمن هامش التعريف الرسمي للجوء لكونهم لا يستفيدون من خدمات المفوضية وتقديماتها ووجودهم في بلد غير العراق يرتبط إلى حد بعيد بخيار فردي.

لذا يصبح إحصاء عدد العراقيين في الأردن لاجئين أو مقيمين ممن دفعت بهم الحرب إلى مغادرة بلادهم، مسألة خاضعة لفروقات شاسعة بين التقديرات غير الرسمية وجداول المفوضية التي تحصي فقط من هو مسجل لديها تحت خانة لاجئ ويستفيد من خدماتها. ويبلغ عدد المسجلين رسمياً 30 ألفاً و630 لاجئاً فيما تذهب بعض التقديرات إلى مئة و50 ألفاً تقريباً. وغالباً ما يكون اللاجئون الأقل حظاً من الناحية الاقتصادية والمالية ويتوزعون على ضواحي عمان ويشكلون ما باتت الأمم المتحدة تعرفه بـ «اللجوء المديني». ويعتبر هذا اللجوء أحدث أنواع اللجوء وأصعبه إدارة بالنسبة للمنظمات الدولية والجمعيات الأهلية على السواء. فهو عبارة عن تدفق بشري سريع وكثيف مديني في الأساس (بغداد والموصل والبصرة) يتخذ أيضاً من المدن وضواحيها معقلاً له في البلد المضيف. فالتجمعات السكنية الحضرية توفر لقاطنيها درجة من الإغفال والإندماج في المجموعة، خصوصاً إذا كانوا وافدين جدداً غير محبذين للانكشاف على محيطهم المباشر وتعرية ظروف حياتهم أمامه. هذا بالإضافة إلى فتح مجالات للعمل وكسب الرزق وتأمين غد أفضل.

وصحيح أن العراقيين الذين جاؤوا إلى عمان يتركزون في نواح من دون أخرى مثل منطقة ماركا (حيث الكثافة المسيحية) ومنطقة الهاشمي (حيث الكثافة المسلمة)، لكن ذلك التجمع لا يأتي نتيجة تنظيم أو تخطيط مسبق وإنما هو تلقائي اعتباطي، يدفع إليه وجود أقرباء وأصدقاء في الحي، أو انخفاض سعر الإيجارات. لذا لا يجد كثيرون منهم إجابة ملموسة على السؤال حول سبب اختيار بلد اللجوء إلا القول إن ثمة من سبقهم إليه في موجات الهجرة السابقة فيما تلعب الديانة دوراً مباشراً وأكثر تحديداً في اختيار المدينة أو الحي ضمن البلد المضيف نفسه.

وبالمقارنة مع مواطنيهم في لبنان وسورية، ينتمي اللاجئون العراقيون في الأردن عموماً إلى طبقة اقتصادية أعلى. فتكلفة الحياة اليومية في عمان هي الأغلى بين العواصم المجاورة، كما أن شروط قبول اللاجئين فيها أكثر تعقيداً وتطلباً مادياً لجهة تجميد مبالغ مقابل الإقامة. عدا عن مساهمة الأفواج الأولى من العراقيين أنفسهم في رفع أكلاف المعيشة في شكل مطرد خصوصاً في قطاع العقارات. ففي السنوات الأولى للحرب، هربت رؤوس الأموال العراقية واستثمرت في الأردن وسكن أصحابها في أحياء راقية مثل عبدون وصويفية ودير غبار.

وحركت تلك الأموال الاقتصاد الأردني مع تركيز غير مسبوق على سوق العقارات فتضاعفت الإيجارات وأسعار الشقق ورفعت معها أسعار السلع الاستهلاكية في شكل صاروخي تذمر منه أبناء البلد أنفسهم، وهو ما لم يسلم منه اللاجئون أيضاً. وتفاقمت المشكلة الاقتصادية مع إطالة فترة اللجوء في بلد مكلف هم ممنوعون من العمل فيه. فالغالبية العظمى منهم، اضطرت للهرب من العراق بسرعة من دون أن تحضر معها إلا بضعة مدخرات ومجوهرات فتحولت تدريجاً إلى طبقة فقيرة مقارنة بما كانت عليه عند قدومها. ومشكلة المسيحيين المضاعفة في هذه الحالة، وهم يشكلون 8،1 في المئة من مجموع اللاجئين إلى الأردن أنهم فقدوا أملاكهم في العراق إما بالتدمير المتعمد أو بمصادرتها بعد رحيلهم، فما عادوا قادرين على بيعها أو تأجيرها أو الاستفادة منها عبر رهنها للمصارف مثلاً. يأتي ذلك في وقت انتشرت دعوات شبه رسمية إلى عدم شراء أملاك المسيحيين داخل العراق لئلا يصبح تهجيرهم منه نهائياً. لكن هذه الدعوات الإيجابية في الظاهر، ترجمت على أرض الواقع «مقاطعة اقتصادية» لتلك الممتلكات فيما الكنيسة العراقية عاجزة مالياً عن شرائها والمحافظة عليها ريثما يعود أهلها فتركت للنسيان أو الاستيلاء.

ويشارك المسيحيين وضعهم هذا، أبناء الأقليات الأخرى من صابئة ويزيديين وغيرهم ممن يتعرضون أيضاً لاضطهاد مباشر وتهجير ممنهج، ويشكلون أقل من 2 في المئة من مجموع اللاجئين إلى الأردن بحسب بيانات المفوضية.

ويشرح الأب خليل مراحل التعامل مع اللاجئين الجدد الذين ارتفع عددهم بدرجة كبيرة في الأشهر القليلة الماضية وشكل المسيحيون غالبيتهم العظمى، فيقول: «بداية نسأل اللاجئ إذا تسجل في المفوضية وإذا لم يفعل نوجهه إليهم ثم نقيّم الحاجات المستعجلة وأولها إرسال الأولاد إلى المدارس ومعالجة الحالات الصحية. وبالنسبة للسكن غالباً ما يستقبل اللاجئون الأقدم لاجئين جدداً في الفترة الأولى لوصولهم، ونحاول قدر الإمكان تقليص هذه المدة لما للاكتظاظ السكني من جوانب سلبية على حياة الأسر وخصوصياتها».

وإذ تمنح المفوضية مبلغاً مالياً يقارب 200 دولار شهرياً للأسرة الواحدة بالكاد يغطي إيجار المنزل، يبقى تأمين القوت والدواء والتعليم وتكاليف أخرى مهمة شاقة لأشخاص اعتادوا حداً أدنى من التقديمات الاجتماعية في بلد غني. وفي حين تفرض الحكومة الأردنية على الجمعيات الأهلية تقديم 25 في المئة من خدماتها للمواطنين الأردنيين، يبقى أن هذه الحصة غير القليلة تذهب من طريق اللاجئين العراقيين أنفسهم. لكن الهدف كما يقول الأب خليل المتضرر نسبياً من هذا الإجراء «هو عدم خلق بيئة معادية للعراقيين في محيطهم الأردني».

وكما يصور اللاجئون الفلسطينيون حتى يومنا هذا وهم يحملون مفاتيح منازلهم التي غادروها على أمل العودة السريعة، جاء العراقيون أيضاً مفترضين العودة بعد 6 أشهر على أبعد تقدير، فإذا بغربتهم تطول إلى أجل غير مسمى وتحملهم في أفضل الأحوال إلى بلدان أخرى. أما اللاجئون الجدد والمسيحيون منهم على وجه التحديد ممن التقتهم «الحياة» فقطعوا الأمل بالعودة إلى العراق وباتوا مستسلمين لمصيرهم الاغترابي. «لن أعود» هي العبارة الأكثر ترداداً على لسانهم محتفظين لأنفسهم بالأسماء وتفاصيل كثيرة رافضين الحديث إلى الصحافة «حماية لمن لم يهربوا بعد» يقولون متوجسين من ردود فعل انتقامية.

فراس، شاب ثلاثيني جاء يزور الأب خليل بعدما نجح في الهجرة إلى أميركا ويحاول اليوم «سحب» حمويه الناجيين من مذبحة الكنسية. قال لـ «الحياة» وقد وافق على ذكر اسمه الأول: «منذ وقوع المجزرة وحماتي فقدت الكلام. جل ما تفعله هو البكاء. وبالأمس عاد عمي ليتفقد المنزل وينقذ بعض الأوراق والأغراض إذا وجدها، سأتدبر أنا الموضوع المالي فهو متيقن من عجزه عن بيع أي شيء حتى السيارة».

ويتابع فراس بتأثر واضح كمن لم يبق له ما يخسره: «تعرض المسيحيون للكثير من العنف والقتل لكن أحداً لم يلتفت لمأساتهم لأنها اعتبرت جزءاً من الحرب الأهلية لكننا عملياً تعرضنا لترحيل قسري وأسلمة إجبارية في بعض الحالات وقتل على الهوية وسرقة أملاك لمجرد أننا أقلية لا تستطيع الدفاع عن نفسها». يصمت قليلاً ويعود إلى الكلام: «نحن أبناء هذه الأرض قبل الجميع، لكنهم ما عادوا يريدوننا بينهم وما عاد لنا مكان في المحاصصة الطائفية والسياسية الحاصلة لذا الأفضل لنا أن نرحل فنحن في النهاية لن نحمل السلاح ونقاتل». وفي تفسير شبه فلسفي لفكرة الأقلية والأكثرية يقول الأب خليل: «رسالتنا وواجبنا الديني أن نكون أقلية في هذه المنطقة ونكون مكوناً أساسياً فيها. فالمسيح قال لنا أنتم ملح الأرض. هل من طبق مكون من الملح وحده يؤكل؟ تماماً كالطبق الذي لا ملح فيه، يفقد نكهته».

وفي صراع غير متكافئ بين الأكثرية والأقلية، هرب العراقيون بحثاً عن الأمان بالدرجة الأولى فإذا بمن اختار الأردن جاء غير مدرك أن المملكة لم توقع اتفاقية جنيف، وبالتالي فهي غير ملزمة تجاههم إلا بما تقتضيه أصول «الضيافة والأخوة» العربية. لذا فإن الحدود المفتوحة في السنوات الأولى للحرب، أعيد صدها وبات على أي عراقي راغب في الانتقال الى الأردن، التقدم بطلب تأشيرة، والإثبات أنه يملك حساباً مصرفياً أو كفيلاً يأخذه على عاتقه وهي شروط غير مطلوبة للجوء إلى سورية أو لبنان مثلاً. ثم في مرحلة لاحقة، وبعد استصدار أوراق الإقامة يجب الحرص على تجديدها في شكل دوري لدى المفوضية تحت طائلة دفع غرامة مالية تبلغ ديناراً ونصف للشخص عن كل يوم تأخير أي ما يعادل دولارين تقريباً وهو مبلغ باهظ إذا ما تراكم. ويساعد بعض الجهات أحياناً مثل جميعة «رسل السلام» مثلاً في تكفل بعض العائلات وتسديد غرامات عن أخرى لشرعنة إقامة اللاجئين وتحسين ظروفهم، لكنها تبقى واحدة من أبرز العقبات التي تواجه انتظامهم في دورة حياة شبه طبيعية.

وفي المقابل، نجحت حملات المطالبة والضغط المتواصلة على الحكومة الأردنية في دفعها إلى قبول التلامذة العراقيين في المدارس الحكومية وذلك منذ 2007، تطبيقاً لشرعة حقوق الطفل التي وقعتها الأردن وأول ما تفرضه ضمان الأمان وتلقي التعليم سواء كان الطفل لاجئاً أو مقيماً شرعياً أو غير شرعي. وبدأت المدارس الرسمية تستقبل التلامذة العراقيين خصوصاً في الصفوف الابتدائية، فيما الجمعيات الأهلية ومنها «رسل السلام» تؤمن صفوفاً موازية خارج الدوام الرسمي لتقوية الطلاب وتحسين أدائهم المدرسي وتقريب مستواهم من مستوى المناهج الأردنية.

ويعمد بعض المقتدرين مالياً إلى تبني أولاد فيقدمون لهم بدل التعليم في المدارس الخاصة التابعة للإرساليات، فيما يسعى الأب خليل إلى إدخال الجزء الآخر إليها عبر التكفل بأقساطهم نظراً إلى أن «نوعية التعليم فيها أفضل». وتظهر المشكلة في التعليم التكميلي والثانوي حيث يتوجه المراهقون الى سوق العمل مبكراً لتأمين مداخيل إضافية، مع ما يحمله ذلك من مخاطر الوقوع في مطب المخدرات والجنس وشبكات الدعارة المنظمة وسماسرة الهجرة الذين يستغلون حاجة اللاجئين الملحة للرحيل، خصوصاً إذا رفضتهم السفارات أو طال انتظارهم لديها فيأخذون منهم مبالغ مالية غالباً ما تكون مستدانة، ويختفون.

وما يحصل أن الرجال يخافون الخروج الى الشارع تفادياً للمضايقات الأمنية والتوقيف خصوصاً في حال تأخر الأوراق الرسمية، فيبقى مصدر الرزق معتمداً على النساء والأولاد، وهو عمل يمارسونه «تحت الطاولة» وبالسر لكون القانون يمنع اللاجئين من العمل. ويعرض هذا الواقع الأسر الوافدة إلى حالات عنف كامن وتراكم إحباطات ناتجة من الاضطرار لتغيير نمط السلوك اليومي وحتى لهجة الكلام في شكل مفاجئ بالإضافة إلى فروقات ثقافية واجتماعية بين البيئة المضيفة وبيئة اللاجئين، من إسراف هؤلاء في استخدام المياه مثلاً فيما الأردن مهدد بالجفاف، إلى ميلهم للترفيه والسهر والتنزه فيما عمان عموماً مدينة محافظة بدرجة كبيرة يصعب اختراق النسيج العائلي فيها. وما يزيد الطين بلة تحول رب الأسرة من منتج ومعيل إلى عبء وعالة على زوجته وأبنائه، واضطرار هؤلاء القبول بأي عمل مهما كانت شروطه صعبة ودخله متواضعاً. ويقول الأب خليل: «في الكثير من الأحيان صارت بيئة اللاجئين خطراً فعلياً على المجتمع المحلي في وقت يصعب علينا متابعتهم عن كثب ومراقبتهم لكونهم موزعين في المناطق».

ويروي الأب بشيء من الخجل وكثير من الأسى إن عدداً من النساء اللواتي وقعن في شرك الدعارة جئن من تلقاء أنفسهن إلى الدير يطلبن المساعدة والحماية من القوادين، فأحيلت بعضهن إلى دار رعاية وأمنت لأخريات أعمال بديلة لكن ذلك لم يمنع عودة جزء غير قليل إلى الحلقة المفرغة نفسها. وعن الأعمال البديلة يقول الأب خليل: «في الدير هنا كل من يعمل معي عراقي، وأحاول قدر استطاعتي تأمين أعمال في المنازل أو الجمعيات أو الأديرة للاجئين واللاجئات كما أحرص على تأمين المواصلات لهم. فعندما نقلهم بباصات الجمعية من منازلهم إلى أعمالهم، نضمن ألا توقفنا الشرطة وتدقق في الأوراق لأنهم يكونون على مسؤوليتنا، وهم في المقابل يكسبون رزقهم إلى أن يقضي الله أمراً».

هو رزق مغمس بالخوف والغربة وبصيص أمل بأن يرن الهاتف ذات صباح ليبشرهم بموعد الرحيل إلى بلد آخر وقارة أخرى حيث تنقلب معادلة الأكثرية والأقلية وتبدأ مرحلة جديدة من صعوبات التأقلم والتعود. حينها فقط يمكن لحلم العودة أن يصبح احتمالاً قائماً.