مساهمة المسيحيين اللبنانيين في النهضة الثقافيّة في الماضي والحاضر
ندوة في المركز الكاثوليكي للإعلام
جل الديب، الخميس 6 يناير 2011 (ZENIT.org).
عقدت ظهر الثلاثاء 28 ديسمبر 2010 ندوة صحفية في المركز الكاثوليكي للإعلام بدعوة من اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام بعنوان : " حضور المسيحيين في بلدان الشرق الأوسط: مساهمة المسيحيين اللبنانيين في النهضة الثقافيّة في الماضي والحاضر (توصية 42 من توصيات سينودس الأساقفة من أجل الشرق الأوسط)، برئاسة رئيس اللجنة، المطران بشارة الراعي، شارك فيها: الدكتورة فاديا كيوان، والدكتور طانيوس نجيم، ومدير المركز الكاثوليكي للإعلام، الخوري عبده أبو كسم، وحضرها: أمين سرّ اللجنة، الأب يوسف مونس، والمسؤول عن الفرع السمعي البصري في اللجنة، الاب سامي بو شلهوب، والأشمندريت انطوان نصر، والسيدة نعمة كيوان، وعدد كبير من المهتمين والإعلاميين، قدّم لها المحامي وليد غياض.
كلمة المحامي وليد غياض جاء فيها:
" لا يمكن للحوار الديني والثقافي بين المسيحيين والمسلمين ان يقتصر على خيار عابر لأنه في الواقع حاجة حياتية يرتبط بها مستقبلنا ارتباطاً كبيراً "، هذا الكلام من التوصية 42 من توصيات سينودس الاساقفة من اجل الشرق الاوسط، يلاقيه ما ورد في الفقرة 107 من وثيقة اداة العمل التي اعتبرت ان "ما اسهم به المسيحيون على مدى الاجيال كان عظيماً في مجالات التربية، والثقافة، والاعمال الاجتماعية. لقد قاموا بدور اساسي في حياة بلادهم، الثقافية، والاقتصادية، والسياسية. وكانوا رواد نهضة الامة العربية"
نعم، ربما نحتاج اليوم الى التذكير بدور المسيحيين في النهضة الثقافية في العالم العربي وفي لبنان. تذكير المسيحيين اولاً كي يعوا عمق جذورهم في هذه الارض المقدسة، فيتعلموا من التاريخ وينفتحوا على رسالتهم ودورهم لتأدية شهادة حقيقية في هذا الشرق الذين هم بناته، وثانياً تذكير شركائهم من المسلمين بان للمسيحيين الفضل الاكبر في نهضة هذا الشرق وهم نكهته الطيّبة ورونقه، ويشكّلون الجناح الثاني من هذا الطائر المشرقي الفسيفسائي المميّز الذي ينشر حوار الثقافات والحضارات.
ثم كانت كلمة ترحيبية للمطران بشارة الراعي فقال:
في زمن الميلاد أفضل تحية "ولد المسيح، هللويا"، والتي لها أبعاد كثيرة وتتصل بموضوع اليوم. الله صار انساناً ليعيد للإنسان نوعيته، فكل إنسان مدعو ليعيش النوعية مهما كان دينه أو عرقه لبناء مجتمعه ، ولا يكفي التقدم بالعلوم والتكنولوجيا فنحن بحاجة إلى نوعيّة أخلاقية ، اجتماعية، ثقافية وإنسانية، ليكون لنا حضارة نوعية. وتساءل اليوم ماذا يقدم المسيحيون لهذا الشرق في إطار الميلاد؟ وأضاف: "إنهم مدعوون للعب دور بناء لتتواصل ثقافتنا في هذا الشرق المعذب…
ثم كانت مداخلة للدكتور انطوان نجيم عن دور المسيحيّين في نهضة المجتمعات العربية جاء فيها"
حقّق المسيحيّون الشرقيّون، على مرّ تاريخهم، وعلى الرّغم ممّا تعرَّضوا له من مضايقات واضطهادات أحياناً، إنجازات متميّزة لاسيّما في الحقول الثقافيّة. وكان للمسيحيّين دور ناشط على عهد الأمويّين والعبّاسيّين. ولم يقتصر تعاون المسيحيّين مع الخلفاء المسلمين على العهد الأموي والعهد العبّاسي، بل تعدّاهما إلى الخلافة الفاطميّة.
وإذا استعرضنا تاريخ الموارنة على وجه التحديد، لرأينا بطاركتهم يعملون على تمتين علاقاتهم مع الكرسي الرسولي وذلك باستقبال موفدين بابويّين غالباً ما كان يكلّفهم الأحبار الرومانيّون بتفقّد أحوالهم وتنقية ما قد يكون تسرّب إلى كتبهم ومعتقداتهم من زؤان وانحرافات بفعل الإختلاط المعيشي مع المنقطعين عن الشركة الكاثوليكيّة. وكان لهذه البعثات مردود تثقيفي أكيد سرعان ما أدّى بالبطاركة إلى الطلب من الأحبار الرومانيّين إيفاد معلّمين إلى الجبل تعميماً للفائدة. وانتهى الأمر بتأسيس البابا غريغوريوس الثالث عشر المدرسة المارونية في روما سنة 1584 والتي أدّى خرّيجوها الخدمات الثقافية الجلّى للغرب والشرق معاً.
ودعيت مدرسة عين ورقا أم المدارس في الشرق لأنّها كانت مقدّمة لإنشاء العديد من المدارس من قبل الإرساليّات الأجنبية والجماعات المحلية على السواء، ما ساعد على نشر الثقافة والعلم على مستوى واسع بين الشعب، فتحقّقت الأرضية الحقيقيّة للنهضة.
وشاركت الإرساليّات الأجنبية في عملية الترقّي بإنشائها المدارس. من الجهة الكاثوليكيّة، عاد اليسوعيّون واستقرّوا في لبنان سنة 1830 وأنشأوا معهداً في غزير سنة 1843، كما أسّسوا مدارس عديدة للذكور وجمعوا على صعيد الإناث بين جمعيتيْ " المريميّات " و " بنات قلب يسوع " في جمعيّة " راهبات قلبي يسوع الأقدسين " التي عرفت ازدهاراً سريعاً. ثمّ نقلوا معهدهم العالي من غزير إلى بيروت سنة 1875، وافتتحوا نشاطهم الجامعي بكلية اللاهوت ومن ثمّ كليات الطب والحقوق والهندسة والآداب الشرقية لمنافسة النشاط البروتستاني والحدّ من فعاليته بين المسيحيّين. ولم يقتصر نشاط البعثات الكاثوليكيّة على اليسوعيّين إذ أنشأ اللعازاريون معهد عينطورا سنة 1830. وأكمل الفرنسيسكان والكبوشيّون والدومينكان والكرمليّون والمريميّون وأخوة المدارس المسيحية نشاطاتهم التعليمية في لبنان وسوريا وفلسطين ومصر وإيران والعراق وإثيوبيا وجيبوتي. وعلى صعيد الجمعيّات الرهبانية النسائية تجدر الإشارة إلى استقرار رهبانيتين فرنسيّتين للإناث، هما راهبات مار يوسف الظهور (1845) وراهبات المحبة (1847) خلال الأربعينيات في بيروت وتأسيسهما مدارس عديدة للبنات. ولا بدّ من ذكر راهبات الناصرة في هذا المجال، وراهبات العائلة المقدّسة اللاتينيّات، وراهبات الراعي الصالح وراهبات المحبة بيزنسون والدومينيكيات والفرنسيسكانيات، كلّهن قدمن خدمات ثقافية جلّى بتثقيفهنّ الإناث وإعدادهنّ لدورهنّ الرئيسي في المجتمع.
ولم يقتصر النشاط التربوي على البعثات الأجنبية فقد شاركت الطوائف المحلية بإنشاء مدارس وطنية كان لها دور أساسي في النهضة العامة. وبموازاة المدارس الأجنبية والمارونية، أنشأ المسلمون اللبنانيّون مدارس عديدة. وقد ساعد على هذه النهضة وشكّل أحد مظاهرها المميّزة انتشار المطابع. وكان للمسيحيّين دور فاعل في لبنان بخاصة.
وفي السياق عينه، يمكن إدراج الصحافة واعتبارها ركيزة من ركائز النهضة. أسهم المسيحيّون في تأسيس العديد من الصحف وتطويرها. ومنها: (النشرة التي كانت تنطق بإسم المرسلين الأميركان والبشير التي كانت لسان حال الآباء اليسوعيّين والهديّة لسان حال أرثوذكس بيروت). أمّا مواضيع الصحف وأغراضها فتنوّعت بين العلم والسياسة والأدب والتربية…
وأضاف: "في الحقيقة استطاع المسيحيّون، بانفتاحهم المبكر على الثقافة الغربية أن يستلهموها ويفتتحوا ميادين جديدة في بيئتهم ويستحقّوا لقب روّاد النهضة العربية. كانوا بحقّ دعاتها وبناتها ومن أبرز العاملين في ميادينها.
وختم بالقول: على الرّغم من الإنجازات المحقّقة، يبقى السؤال المحرج في ظلّ الأوضاع المتردّية التي تتخبّط بها البلدان العربية: أين هذه البلدان من نتائج تلك النهضة ؟ لماذا خبا وهجها ؟ بل لماذا لم تبلغ خواتمها على صعيد الإصلاحات التي دعا إليها روّادها ؟ لو طبّقت الأفكار التي نادوا بها، هل كان الواقع العربي كما هو اليوم ؟ إزاء هذه التساؤلات المحقّة، لا بدّ من الإعتراف لهؤلاء الروّاد بما حقّقوه فعلاً وإن كانت عوامل عديدة قد حالت دون بلوغ النهضة التي أسهموا فيها أهدافها النهائية. لا شكّ في أنّهم أيقظوا الوعي العربي من ثبات عميق، بل من انحطاط وتقهقر. أدخلوا إلى المجتمعات العربية المكبّلة بالتقاليد المتحجّرة، كلّ على طريقته، الشعور بإمكان التغيير والسير في ركاب الحداثة المتسارعة في البلدان المتحضّرة. دعوا إلى تحرّر الفكر والأخذ بالعلم وأساليبه الناجعة. لكنّهم، لأسباب عديدة، لم يُفلحوا في حيازة التكنولوجيا المتطوّرة وتوظيفها في مشاريع بحثيّة أو تطبيقيّة كفيلة بإقناع السياسيّين والطبقة الحاكمة بإجراء الإصلاحات المرجوّة. ولكن حبّذا لو يكون تقييم الواقع المؤلم وكلّ ما يعتريه من وهن ومعوقات، ووعي النّقص والتقصير وإدراك الحاجات الضرورية حوافز لإستعادة الثقة بالذات وتجديد الزخم والعزم على القيام بالرسالة الحضارية المميّزة التي تبرز الحضور المسيحي على حقيقته في المجتمعات العربية، كضرورة وجودية وعامل تقدّم وتحديث وتطوّر. ولعلّنا نكون، في ضوء وعي المعطيات الحالية والإمكانات المتاحة، على عتبة نهضة ثالثة نأمل في أن تصل إلى خواتمها المرجوّة !
ثم كانت مداخلة الدكتورة فاديا كيوان عن مساهمة لبنان الثقافية الخاصة في العالم العربي جاء فيها:
إن هذه الإشكالية الحساسة تتمحور حول سؤال أكثر دقة وهو هوية لبنان ومبرر وعلة وجوده ككيان وكدولة. فهناك ستة سمات خاصة بلبنان تعتبر في أساس تكوينه وفي أساس عقيدة الدولة الوطنية منذ نشأتها وهي :
1- سمة الإقرار بالتنوع في النسيج الاجتماعي اللبناني
2- سمة القبول بالاختلاف في الرأي
3- سمة الانفتاح على العالم بكامله
4- سمة تقديس الحرية
5- سمة الاستناد على القانون الوضعي
6- سمة احترام استقلالية المجتمع المدني
ففي ضوء هذه السمات وبفعلها يعتبر الأشقاء العرب أن لبنان يحمل قيمة مضافة في تعاونه معهم وهم يتطلعون إلى تعميق هذا التعاون لكن واجب الصراحة يفرض علينا الإقرار بأن النظرة إلى لبنان مزدوجة. فهي نظرة إيجابية بالنظر إلى السمات الستة والتي يعرفها سائر الأشقاء العرب وهي في نفس الوقت ممزوجة بالمخاوف خاصة لأن تجربة لبنان -على نموذجيتها- ما زالت غير مستقرة وهي تنتقل من أزمة إلى أخرى. وربما كان من المفيد الإشارة إلى أن هناك ميلا أقوى لدى الشعوب العربية للإلتفات إلى لبنان من خلال تلك النظرة الإيجابية وأن هناك ميلا أقوى لدى الأنظمة العربية للنظر بقلق إلى التجربة اللبنانية خاصة بعد الخضات المتلاحقة التي هزت أكثر من مرة وما زالت الكيان اللبناني والدولة اللبنانية على حد سواء.
وتطل الثقافة اللبنانية على العالم العربي من خلال هذه السمات النموذجية الستة التي يعيشها لبنان وقد تبلورت تدريجيا في إطار المؤسسات اللبنانية على اختلافها وعلى اختلاف النسيج الاجتماعي والطائفي والمناطقي.
بهذه الخصوصيات يطل لبنان على العالم العربي فيحمل قوة دفع خاصة تساهم في تطوير الاتجاهات نفسها في المجتمعات العربية الأخرى. وهذه السمات موجودة في كل مجتمع عربي لكنها ليست هي الأقوى بل أنها تسعى إلى التجذر وهي تتشجع بالنموذج اللبناني. لكن هذا الكلام لا يعني أن هذه الخصوصيات للثقافة اللبنانية هي دائما بخير في لبنان بل أن بعضها يتعرض لانتكاسات متتالية وهو يستوجب العناية والحماية وكذلك إن الخصوصيات المذكورة هي سلاح ذي حدين إذا جاز التعبير. فقد تتحول إلى أخطار تهدد لبنان، كيانا ودولة. فحذار من التنوع الاجتماعي الذي يولد التعددية المتطرفة التي تهدد بإلغاء الآخر. وحذار الاختلاف بالرأي إذا ما تحول إلى حجة لشل عمل المؤسسات وتغييب أو إضعاف الدولة. وحذار الانفتاح على العالم إذا ما تحول إلى تبعية للخارج وحذار الحرية إذا ما تفلتت من المسؤولية الوطنية الملازمة لها وحذار القانون إذا كان جامدا وغير مبني على حقوق الإنسان وحذار استقلالية المجتمع المدني إذا ما تحولت إلى تمرد وعصيان على الحق وعلى مصلحة لبنان العليا.
إن الثقافة اللبنانية نفسها هي في حالة صيرورة دائمة وتطور مستمر بفعل الظروف والمعطيات التي تمر على لبنان وعلى اللبنانيين وهي تصقل تدريجيا أركانها أو سماتها الستة التي ذكرنا في سياق هذا النص. لكنها تموت فيما لو لم تتفاعل مع المحيط العربي الواسع للبنان والذي يشكل الرئة التي يتنفس لبنان منها .والثقافة اللبنانية تتفاعل مع الثقافات العربية المحلية الأخرى وتتبادل معها التأثير. ونحن نأمل أن يكون لهذه السمات الستة الثبات في التجربة اللبنانية بهدف زيادة فعاليتها في التفاعل مع الثقافات العربية المحلية الأخرى وزيادة التأثير عليها فيتسع معها دور لبنان الثقافي في العالم العربي ويزيد تأثير الثقافة اللبنانية في محيطها فيقوى في لبنان كما في سائر المجتمعات العربية الأخرى، عصب البديل الراقي والمتنور وهو مشروع بناء دولة الحق، ويتألق النموذج اللبناني متحديا مقولة صراع الحضارات والثقافات والنزعات العنصرية المنتشرة في محيطه فتكون التجربة اللبنانية عصارة تلاقي الثقافات على اختلافها وخميرة لعالم يسوده الإيمان بحقوق الإنسان وبالتنوع و بالحرية كمصادر غنى للبشرية وأسسا متينة للسلام.
وأختتمت الندوة بكلمة الخوري عبده أبو كسم جاء فيها:
بعد هذا العرض الثقافي العلمي التاريخي المستتند إلى الوقائع التاريخية والمعاصرة يهمني أن أبين في كلمتي اليوم أمراً واحداً وهو أن دور المسيحيين الذي انطلق من هذا الشرق إلى كل العالم، هو دور رسالي قبل كل شيء ومن هذا المنطلق ارتكز هذا الدور على تعاليم المعلّم السيد المسيح الذي بدّل مفاهيم وتقاليد كانت سائدة، وقاد ثورةً معاكسة لواقع المجتمعات البدائية وأطلق تعليماً جديداً: "قيل لكم: "العين بالعين والسن بالسن"، أما أنا فأقول لكم: "إذا ضربك أحدٌ على خدك الأيمن، در له الأيسر".
هذه المنظلقات الإيمانية دفعت بالرسل بالسير نحو عنصرة جديدة مرتكزة على الروح المسيحيّة ليبشروا البشرى إلى كل العالم، حاملين معهم ثقافة المحبّة والسلام التي تهدف إلى نشر القيم الإنسانيّة المتلازمة مع العلوم التي من شأتها أن تكون في خدمة الإنسان وترفع من شأنه,
هذا ما دفع بالمسيحيين إلى إعطاء الثقافة شاناً هاماً في حياتهم فاسسوا الإرساليات، وأنشأوا المدارس والجامعات بغية تثقيف الإنسان ونشر العلوم في المجتمعات، دون النظر إلى اللون والجنس والعرق والدين، وهذه الرسالة التعليميّة ما زالت في صلب عمل الكنيسة ودورها الراعوي في هذا الشرق. وكلنا رجاء أنها ستستمر في أداء رسالتها بتفانٍ وإخلاص دون النظر إلى المصاعب التي تعترضها والتي تشكل حافزاً للإستمرار في أداء هذه الرسالة، المرتكزة في أساسها على صليب المسيح.
دعاؤنا اليوم في هذه الأيام الميلادية أن تبقى مؤسساتنا التربوية ناشطة في خدمة الإنسان والكنيسة.