الزواج المختلط في بداية تاريخ الكنيسة

 

الأب ريمون جرجس

ظهرت الجماعات المسيحية، ظهرت منذ القرون الأولى من تاريخ الكنيسة، في فلسطين وسورية وآسيا الصغرى، وبلاد ما بين النهرين ومصر، وحول المدن الرئيسية (الإسكندرية وأنطاكيا وأورشليم والقسطنطينية) والتي كانت متميّزة عن الكنيسة الرومانية وفيما بينها بسبب هويتها العرقية، الثقافية، الليتورجي والتنظيمية. من الواضح أنَّ اعلان الانجيل لم يتوقف عند حدود الإمبراطورية، لكن وصل إلى أناس وأماكن بعيدة. ازدهار واضح للمسيحية في الأراضي القائمة في شرق الإمبراطورية، خصوصاً في إيران وأرمينيا وأيضا حتى إلى الهند، حيث تطورّ نوعان من كبار التقاليد الطقسية، السريانية الشرقية والأرمنية.  ولسبب دخول عدد كبير من الأمم اليهودية والوثنينة إلى المسيحية، وما كانوا يحملونه من ثقافات وفلسفات مختلفة، ومحاولاتهم دمجها بالإيمان المسيحي، ظهرت عدة بدع وهرطقات. وكانت مهمّة الكنيسة في تلك الحقبة أن تقيّم مناهج وطرق تفكير المؤمنين الجدد، إذا كانت متطابقة مع التقليد الرسولي، أو إذا كانت على خلاف معه. وهذا التقييم كان يشمل جميع مستويات المعرفة الكريستولوجى: الإيمان والتأمل واللغة. 

 

نذكر بعض هذه الهرطقات في القرون الأولى:

 

1) الغنوسية، كلمة يونانية تعني المعرفة أو العلوم الخاصة بالأمور الروحية أو الإلهية. والغنوسية هي خليط من الأفكار الفلسفية الدينية الهلينية والثنائية الفارسية واليهودية والمسيحية ازدهرت وانتشرت في القرن الثاني. تعاليمها: المعرفة تأتي عن طريق الإلهام، وبهذه المعرفة فقط نستطيع الوصول إلى إدراك وفهم مَن نحن، وما هو مصدرنا وأصلنا وما هي الغاية التي نسعى إليها، وبهذه المعرفة نستطيع الوصول إلى الخلاص من الأشياء الحسية التي تربطنا بالمادة. وبالتالي لا يخلص الإنسان عن طريق الإيمان الذي يمنحه الله إياه في المسيح، بل عن طريق المعرفة التي تنير وترشد إلى الطريق الحقيقي فلا خلاص عن طريق الإيمان.

 

2) الابيونية: هي جماعة خرجت من كنيسة أورشليم وكانت تنادي في الكنائس المسيحية بالعودة إلى الناموس. يُرجع البعض اسمهم إلى مؤسسهم الذي يُدعى ابيون؛ ولكن الرأي الأرجح أن كلمة ابيون تعني في العبرية (فقير) وجمعها ابيونيم أي فقراء. ظهرت هذه البدعة أثناء حياة القديس يوحنا لذا نجده يكتب في رسائله ما يؤكد أن يسوع هو المسيح "من هو الكذاب إلا الذي ينكر أن يسوع هو المسيح" (1 يو 22:2). تعاليمها: رفض وجود المسيح السابق قبل التجسّد، وبناء على ذلك فهو لم يولد من الروح القدس ولا من الله، بل خُلِق كما خُلقت الملائكة ورؤساء الملائكة ولكنه أعظم منهما جميعاً في الدرجة أى أنهم يعترفون بناسوت المسيح ولكنهم ينكرون لاهوته.

 

3) البنويون (190م): هم الذين يعلّمون بأن يسوع لم يكن ابن الله بالطبيعة بل بالتبني، ومع أنهم ينادون بالميلاد العذراوي للمسيح إلا أنهم يرفضون أزليته.

 

4) الانتحالية (موداليسم) Modalisme.

 

5) البدعة السيموساطية: كان بولس السيموساطي يعلم بأن الله واحد، أي أقنوم واحد، وفي هذا الأقنوم يمكننا أن نميز بين اللوغوس والحكمة، وهما عبارة عن صفتين وليسا أقنومين. خرج لوغوس من الله أو انبثق منه منذ الأزل، وهو الذي كان يعمل في الأنبياء، وأيضاً في يسوع الذي وُلد من العذراء، أي أن يسوع إنسان مثلنا تماماً، مع أنه أعظم من موسى والأنبياء، ولكنه إنسان كامل، وقد حلّ اللوغوس في هذا الإنسان يسوع لذا لابد من التمييز بينه وبين يسوع. فاللوجوس أعظم من يسوع لأن يسوع بشري مثلنا، حل اللوجوس على يسوع وقت عماده وارتبط به برباط المحبة القوية. وبفضل رباط المحبة هذه استطاع يسوع أن ينتصر ليس فقط على الخطيئة بل أيضاً على خطيئة أجداده، لذا أصبح فادياً ومخلصاً لأنه تمّم مشيئة الله بطريقة كاملة.

 

وموقف الكنيسة الصارم من هذه البدع له أساس في الكتاب المقدّس، ولاسيما في العهد الجديد، الذي هو قاعدة وديعة الايمان والحياة لجميع المسيحيين. يقول القديس بولس في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس: "أيَّما تُفضّلون؟ أبالعصا آتي إليكم أم بالمحبة وروح الوداعة؟" (1 قور 4، 21). وحول كريتيين يقول بولس: أنّهم "كذَّابون أبداً ووحوش خبيثة وبطون كسالى"، "كتبتُ إليكم ألاّ تُخالطوا من يدعى أخاً وهو زان أو جشع أو عابد أوثان أو شتَّاملٌ أو سكير أو سرّاق. بل لا تؤاكوا مثل هذا الرجل" (1 قور 5، 11). ويوصي طيطس: "وبّخهم بشدة ليكونوا أصحاء الإيمان ولا يُعنوا بخرافات يهودية ووصايا قوم تُعرضون عن الحقّ" (طيطس 1، 13). كما واستخدم القديس بولس الرسول مصطلح Eresia، متحدثا الى اهل قورنتس وغلاطية. فيقول: "لا بد من الشقاق فيما بينكم ليظهر فيكم ذوو الفضيلة المجرّبة" (1 قور 11، 19)؛ "وأمّا أعمال الجسد فإنّها ظاهرة، وهي النزنى والدعارة والفجور….والشقاق والتَّشيُّع" (غلا 5، 20). وإن سمح بالانقسامات فهو يسميها بكلمات قويّة في خطابه إلى ميليطش: "وأنا أعلم أن سيدخل فيكم بعد رحيلي ذئاب خاطفة لا تُبقي على القطيع ويقوم من بينكم أنفسكم أناس يتكلّمون بالضلال ليحملوا التلاميذ على اتباعهم" (إعمال الرسل 20، 29-30). ويشرح بولس الرسول إلى أهل تسالونيقي سبب تجنب الشركة مع المتشككين: "إذا كان أحد لا يطيع كلامنا في هذه الرسالة فنبّهوا إليه ولا تخالطوه ليخجل، ولا تعدُّوه عدوّاً، بل انصحوه نصحَكم لأخ" (2 تسالو 3، 14). فيمكننا القول أنَّ الانشقاق في العهد الجديد يشير إلى فكرة وجود اضطراب قويّ في الوحدة، بينما الهرطقة، فهي تنطوي على فكرة الانتماء إلى عقيدة منحرفة. وكان إهتمام آباء الكنيسة، يقوم على محاربة الهراطقة والمنشقيين، وخصوصاً تعاليمهم.

 

كان القديس بولس الرسول، مقيّداً بالطاعة وبالمحافظة على تعاليم معلمه الرّب يسوع المسيح. لم تكن كلماته ابتكاراً شخصية أو نتيجة لتأملاته، لكن وديعة الإيمان التي منحها إيّاه الرّب يسوع المسيح. وهذه الوديعة تنطبق على ما جاء في لسان الرّب يسوع حول شريعة العهد القديم: "الحقّ أقول لكم: لن يزول حرفٌ أو نقطةٌ من الشريعة حتى يتمّ كلُّ شيء" (متى 5، 18). نسمع صدى لهذه الكلمات في الرسالة الثاني للقديس بطرس الرسول: " وأعلموا قبل كلّ شيء أنّه ما من نبوءة في الكتاب تقبل تفسيراً يأتي به أحدٌ من عنده، إذ لم تأت نبوءة قطُّ بإرادة بشر، ولكن الروح القدس حمل بعض الناس على أن يتكلّموا من قبل الله" (2 بطر 1، 20-21). إلى هذه الطاعة، جميع رؤساء الكنائس مدعوين إلى أن يكونوا أمناء لتعاليم الرّب يسوع المسيح بحفاظ عليها ونقلها إلى اآخرين. وهذا يتطلب، من جهة رعاياهم، المؤمنين المسيحيين، واجب إتباع رؤساءهم، من خلال قبولهم لتعاليمهم وخضوعهم لأوامرهم التي تُصدر. لذلك من الصواب كان على السلطة الكنسية أن توخي الحذر حول نقاء تعاليمها وتحمي مؤمنيها من أي خطر قد يقع على إيمان مؤمنيها؛ ولهذا السبب، تجنّبت الكنيسة، في القرون الأولى، من خلال أنظمة تشريعيّة، أي نوع من المشاركة أو التعايش مع الهراطقة أو المنشقين، ومع غير المسيحيين، سواء في المشاركة بالصلاة أم قبول الأسرار بأنواعها (سرّ المعمودية، سرّ الكهنوت، سرّ الافخارستيا). أقرَّ القانون 10 من قوانين الرسل القديسين: أنّ "كل من يصلي، ولو في منزل خاص، مع شخص مقطوع من الشركة فليقطع هو أيضاً". يسميّ القانون جميع الأشخاص الذين هم خارج الشركة مع الكنيسة "هرطوق، مقطوع أو محروم"، أي أشخاص أُستبعدوا من الكنيسة، إمَّا بشكل مؤقت أو بشكل دائم، بسبب عدم اعترافهم بالإيمان الحقيقي أو لعدم محافظتهم على النظام الكنسي ومراعاته لذلك لا يمكنهم الاشتراك في الأسرار الإلهية وصلوات المؤمنين الليتورجية.

 

أيضاً القانون 11 ينصّ: أي إكليريكي يشارك في الصلاة اكليريكياً قد اسقط كأنه لم يسقط فليسقط هو أيضاً". الإكليريكي الساقط من درجته لا يمارس على وجه الصحة والايجاز مهامه بشكل قانوني؛ لذلك لا يمكن مشاركة في الصلاة وخصوصاً في الاحتفال الليتورجي مع إكليريكي سُقط.

 

نصّ القانون 45: "أيّ أسقف أو قس أو شماس صلى مع المبتدعين فليقطع من الشركة، أما إذا سمح لهم بأن يقيموا أية خدمة في أية رتبة اكليريكية فليسقط". الصلاة مع المبتدعين يقتضي بالنسبة للإكليريكيين الإنقطاع، لكن قبول الإكليريكيين المبتدعين لإتمام وظائف الإكليريكيين أو الاشتراك في الصلوات معهم يقتضي السقوط أيضاً.

 

القانون 46: اننا نأمر بأن أي اسقف أو قس يقبل معمودية أو ذبيحة المبتدعين فليسقط، لأنه "أي ائتلاف للمسيح مع بليعال وأي حظ للمؤمن مع الكافر؟. يضم القانون جميع فئات المبتدعين ويعتبر المبتدع من أتباع الشيطان، فينبغي رفض أي اتصال وعلاقة بين اتباع المسيح واتباع اليشطان. والقانون لا يعترف بصحة معمودية وسر كهنوت المبتدعين.

 

القانون 65: "أيّ اكليريكي أو علماني يدخل إلى مجمع اليهود المبتدعين ليصلي فليسقط الأول وليقطع الآخر من الشركة".

 

إضافة إلى ذلك، كانت الكنيسة تمنع عقد الزواج مع غير المسيحيين، أو مع هؤلاء المنفصلين عن الشراكة الكنيسة. أمّا الذين كانوا يخالفون هذه الأنظمة التشريعيّة فكانوا يُستبعدون، إمَّا بشكل مؤقت أو دائم، من الكنيسة لعدم اعترافهم بالإيمان الحقيقي أو لعدم محافظتهم على النظام الكنسي ومراعاته. من هنا يتبيّن وبجلاء السبب الذي جعل الكنيسة، أمام ظهور الكثير من الشيع الهرطوقيّة في القرون الأولى خصوصاً الشيع التي كانت تجسّد وبشدّة الفساد والضلال على إيمان الآباء أو على ذرّيتهم، أن تتخذ، بخصوص الزواج المختلط، موقفاً قانونياً سلبياً بلغة شديدة اللهجة لأنها تؤمن بواجبها في المحافظة على وديعة الإيمان. لذلك، المجامع الكنسيّة في القرون الخمسة الأولى ركّزت كلّ اهتمامها على حماية إيمان الزوج وتجنب أي خطر ضلال في الإيمان. ولا بدّ من القول، أنّ مع ظهور البدع والهرطقات داخل الإيمان المسيحي نفسه، ظهرت مشكلة الزواجات المختلطة، ليس فيما يخصّ غير المعمّدين فقط، لكن أيضاً بخصوص اعضاء الكنائس أو الجماعات المسيحية غير الكاثوليكية: فتكوّن ملف جديد يتعلّق بالمسيحيين غير الكاثوليك. لكن لم يكن الزواج طرف كاثوليكي مع شخص غير عمد، أو مع معمّد غير كاثوليكي على نفسه المستوى: فاتخّذ النوع الأول صورة الزواج باختلاف الدين، والثاني  صورة الزواج المختلط، أي الاختلاف في المذهب. واعتبرت الكنيسة النوع الأول مانع مبطل، أي مانع، في حال لم يتوّقف، يبطل الزواج؛ والثاني مانع محرّم؛ يمنع الزواج، ليس تحت طائلة البطلان، كونه لم يعالج قانون معطل، لكن محرّم فقط.

 

الكتاب المقدّس

 

نجد في العهد القديم تقييمات مختلف حول الزواجات المختلطة. نتذكر هنا تنبيه موسى للشعب الآتي معه من مصر" من أن لا يتزوّجوا امرأة وثنية: "إذا أدخلك الربُّ إلهك إلى الارض التي انت داخل اليها لترثها وطرد من أمامك أمماً كثيرة ،الحثيين والجرجاشيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين سبع لأمم أكثر وأقوى منك، وأسلمهم الرّب إلهك بين يديك، وضربتهم، فحرّمهم تحريماً. لا تقطع معهم عهداً ولا ترأف بهم، ولا تُصاهرهم، ولا تُعط ابنتك لابنه، ولا تأخذ ابنته لابنك" (سفر تثنية 7، 1-4).

 

نذكر العداء الصريح في حقبة ما بعد الجلاء، للزواجات المختلطة، خصوصاً في كتاب سفر عزرا: "وبعد أن تمت هذه الأمور، أقبل الرؤساء إلي يقولون: "إن شعب إسرائيل والكهنة واللاويين لم ينفصلوا عن شعوب الأرض في شأن قبائحهم، أي عن الكنعانيين والحثيين والفرزيين واليبوسيين والعمونيين والموآبيين والمصريين والأموريين، لأنهم آتخذوا من بناتهم، لهم ولبنيهم، فاختلط النسل المقدس بشعوب البلاد، بل يد الرؤساء والعظماء كانت الأولى في هذه المخالفة. فلما سمعت هذا الكلام، مزقت ثوبي وردائي، ونتفت شعر رأسي ولحيتي، وجلست متحيرا.  فآجتمع إلي كل من آرتعد من كلام إله إسرائيل، بسبب مخالفة أهل الجلاء، وجلست متحيرا إلى تقدمة المساء. وعند تقدمة المساء، خرجت من إعيائي وجثوت على ركبتي بثوبى وردائي الممزقين، وبسطت يدي إلى الرب إلهي، وقلت: أللهم، إني لمستحي خجلا من أن أرفع إليك وجهي، يا إلهي، لأن ذنوبنا قد تكاثرت على رؤوسنا، وتفاقم إثمنا إلى السموات. من أيام آبائنا نحن في إثم عظيم إلى هذا اليوم، وبسبب ذنوبنا أسلمنا، نحن وملوكنا وكهنتنا، إلى أيدي ملوك الأرض للسيف والأسر والنهب، ولخزي الوجوه كما في هذا اليوم، والآن، فمنذ لحظة كانت لنا رأفة من لدن الرب إلهنا، ليبقي لنا ناجين ويعطينا ملجأ أمينا في مكان قدسه، فأنار إلهنا عيوننا وأعطانا قليلا من الراحة في عبوديتنا، لأننا إنما نحن عبيد، وفي عبوديتنا لم يتركنا إلهنا، بل أمال علينا رحمة ملوك فارس، ليهب لنا راحة حتى نعيد بناء بيت إلهنا ونرمم خرابه، وليعطينا سياجا في يهوذا وأورشليم.  والآن، يا إلهنا، ماذا نقول بعد هذا، فإننا قد أهملنا وصاياك التي أمرت بها على ألسنة عبيدك الأنبياء قائلا: إن الأرض التي تذهبون إليها لترثوها هي أرض رجس من رجس شعوب البلاد من قبائحها التي ملأتها بها من أقصاها إلى أقصاها بنجاستها. والآن فلا تعطوا باتكم لبنيهم ولا تأخذوا بناتهم لبنيكم، ولا تطلبوا سلمهم ولا خيرهم للأبد، لكي تتقووا وتأكلوا خيرات الأرض وتورثوا بنيكم مدى الدهر" (فصل 9).

 

يعالج هذا المقطع مسألة "الزواجات المختلطة"، أي الزواج بين اليهود وغير اليهود، وأحسّ عزرا بالألم، عندما عرف ما فعله الشعب، ولا سيّما رؤساؤه. فهو يُحذّر الشعب من الاتصال بسُكّان الأرض المحليين، فيجب أن تتميّز عن سائر الجماعات لتُحافظ على هويتها وإيمانها. وأن ينفصلوا عن الكنعانيين والحثيين لأن في ذلك خطر على إيمانه. نحن هنا على مُستوى العِرْق والإثنية، لا على المستوى الدينيّ. وهذا ما يجعل إصلاح عزرا ناقصاً، بالنسبة إلى مُجْمَل الكتاب المُقدّس، الذي يجعل الإيمان فوق كلّ اعتبار. لذلك، الزواجات المختلطة تُشكّل خطر لنقاوة الإيمان وتهديد للإيمان في إله اسرائيل الواحد. لأن الزوجات الوثنيات كانت تحمل معهن ألهتهم ويدخلونهم في أرض إسرائيل. مع ذلك، يذكّرنا العهد القديم أيضاً  بعقود زواجات مع النساء الوثنيات وأنّهم اعتنقوا الإيمان بالإله الواحد, ومن خلالهم تحققت العهود المسيحانية، نذكر على سبيل المثال كتاب راعوت الفصل 4 تناول زواج بوعز من إمرأة موآبية، ومن هذا الزواج سيولد يسّى أبي داود.

 

لم يعالج العهد الجديد مسألة الزواج المختلط بشكل مباشر. ذكر القديس بولس الرسول حالة خاصّة، وهي الزواج بين شخصين وثنيين أحدهما يرتد ويصبح مسيحي. نقرأ نصّ 2 قورنتس 7، 12-15: "وأمّا الآخرون فأقول لهم أنا لا الرّب: إذا كان لأخ امرأة غير مؤمنة ارتضت أن تساكنه، فلا يتخلّ عنها، وإذا كان لأمرأة زوج غير مؤمن ارتضى أن يساكنها، فلا تتخلّ عن زوجها، لأنَّ الزوج غير المؤمن يتقدّس بامرأته، والمرأة غير المؤمنة تتقدّس بالزوج المؤمن، وإلاّ كان أولادكم أنجاساً، مع أنّهم قديسون. وإن شاء غير المؤمن أن يفارق فليفارق، فليس الأخ أو الأخت في مثل هذه الحال بمرتبطين، لأن الله دعاكم أن تعيشوا بسلام". يَعترفُ القديس بولس الرسول بقاعدة: تُصلح بأن تكون قاعدة عامّة للمؤمنين، في البقاء في الوضع الذي فيه يتواجدون في وقتِ ارتدادهم، لكن يمنح الشريك المؤمن إمكانية الطلاق عندما يرفض الزوج الذي بقي غير مؤمن المُعَاشرة. وعلى الشريك المسيحي أَنْ لا يُطلّق عندما يسمح الزوج غير المؤمن بالمعاشرة، لأنه سيتقدّس بالاتحادِ مَعه. إذاً بالاتحاد مع الزوج المسيحي، ينضم غير المؤمن في مجال حيوي فيه قوى التقديس للوجود المسيحي فعّالة ومؤثرة.

 

وهناك من يجد في الوصية التي اعطاها القديس بولس الرسول للمرأة الأرملة بأن تتزوج "في الرّب فقط" إشارة إلى موضوع زواج "مختلط" الذي نطرح اليوم، أي وكأن بولس الرسول يقول: على المرأة التي فقدت زوجها أن تتزوّج شخص لديه نفس الإيمان  بالمسيح.

 

الزواج المختلط حسب المجامع المسكونية والمحلّي للألفية الأولى

 

الجسم القانوني لشرع الكنائس المسيحية الشرقية في القرون الأولى يمكن تلخيصه بهذا الشكل: في الشرع الكنائس المسيحية الشرقية (التي تتضمّن خمسة طقوس الاسكندرية، الانطاكية، البيزنطية، الكلدانية والارمنية، التي تشكّلت في أكبر الميتروبوليت الشرق المسيحي، الاسكندرية، الانطاكيا، القسطنطينية، البلاد ما بين النهرين، ومختلف العواصم الدينية لمملكة الارمنية).

 

نجد الشرع القديم ius vetus الذي يتضمّن قوانين المجامع المسكونية حتى القرن الثامن، وقوانين المجامع المحلّية، وعدد من الأجوبة القانونية الصادرة عن الآباء الكنيسة. وهذا الشرع القديم يخضع له المسيحيين الشرقيين الكاثوليك وغير الكاثوليك بدون تمييز. وأصبح الشرع المذكور شرعاً جديداً ius novum بالنسبة للمسيحيين الشرقيين غير الكاثوليك، عندما اغتنت بمجامع عقدت ما بعد الانفصال عن روما. والكنائس الشرقية الكاثوليكية، قبلت بالشرع القديم، كما يُسمى "بالقوانين المقدّسة"، والشرع الجديد الذي يتضمّن مجامع ما بعد القرن الثامن، وقرارات الحبر الروماني، مراسيم المجامع الرومانية، المجامع والسنودسات المحلّية المعتمدة من الكرسي الرسولي. وتصديق هذه السنودسات من قبل البابا أصبح أمراً إلزامياً منذ البابا Sisto الخامس (1585-1590).

 

تناولت جميع هذه القوانين، التي صدرت بقوّة السلطة الكنسيَّة المُختَّصة، تنظيم حياة الجماعة المسيحية بمختلف الجوانب: توضيح أفضل لقاعدة الإيمان regula fidei أو قاعدة الحقيقة regula veritatis: أي الجانب التعليمي للتقليد الوارد في الكتاب المقدس. وقوانين العادات أو الحياة الأخلاقيّة (canones morum)، وقوانين تنظيميَّة (canones disciplinares).

 

1- المجامع المسكوني في الألفية الأولى

 

بدأ عهد المجامع المسكونية مع التغيير الجذري في العلاقات بين الكنيسة والامبراطورية الذي حدث في عهد قسطنطين (313). كانت تُعقد المجامع المسكونية الأولى في الشرق بدعوة من الامبراطور لجميع الاساقفة المقيمين في الأقاليم الكنسية، لمناقشة مسائل عقائدية وتعاليم لعديد من البدع والهرطقات في تلك الحقبة، بينما المسائل التنظيمية فكانت تُبت بشكل ظرفي. نذكر على سبيل المثال: قرارات مجمع نيقية (325)، التي أدانت فكر آريوس، قبلت من الكنيسة بأسرها، وهكذا ما حدث مع المواقف العقائدية للمجامع القسطنطينية (381)، التي رفضت بشكل نهائي نظرية آريوس و"مختلف البدع الجديدة ازدهرت خلال القرن الرابع في أعقاب هذه القضية".

 

وتُعدّ المجامع المسكونية، من الناحية التاريخية، وبالنسبة للشرقيين، حقبة تشريعية مهمّة، خصوصاً أن الجزء الكبير من قوانينها، حدّدت التعابير اللاهوتي والقانوني لإيمانها.  فاصدرت عدد من القرارات أو قوانين بهذا الخصوص، على سبيل المثال، السلطة التراتبية الكنسية، ممارسة الاسرار، ارتداد الهراطقة. والقانون 2 من مجمع ترولّو ثبت قوانين هذه المجامع المسكونية.

 

المجمع المسكوني الخلقدوني 451

 

من المجامع الشرقيّة الكبرى، عُقد في خلقدونية 451م، ميتروبوليت بيتنيا، ويُعدّ من أهمّ المجامع. أصدر 27 قانوناً منظّماً للكنيسة ولسلطتها الهرمية ولتصرفات الإكليروس. عالج منها مسألة الزواج بين طرف مسيحي وطرف هرطوقي. ينصّ القانون 14: "بما أنه قد أذن في بعض الأبرشيات للقراء والمرتلين بالزواج،  فقد أقرّ المجمع المقدّس أنه لا يسوغ لأحد منهم أن يتزوّج امرأة هرطوقية. والذين  ولد لهم أولاد من مثل هذه الزواجات عليهم، إذا كانوا قد عمّدوا أولادهم عند الهراطقة، أن يقودوهم إلى شركة الكنيسة الكاثوليكيّة. وإذا لم يكن هؤلاء قد عُمّدوا فلا يستطيعون أن يجعلوهم يُعمّدون عند الهراطقة، ولا أن يزوّجوهم هرطوقيّاً أو يهوديّاً أو وثنيّاً، ما لم َيَعِد طبعا من سيتزوّج الفريق القويم الإيمان، أن يعتنق الإيمان القويم. وإذا تجاوز أحد قرار المجمع المقدّس هذا، فليُخضَع للعقوبات القانونيّة".

 

ينوّه هذا القانون إلى ثلاثة موانع: 1- مانع للقراء والمرنميين من أن يتزوجوا امرأة لا تنتمي الى الإيمان نفسه؛ 2- مانع تعميد الأولاد المولودين من الزواج بين طرف هرطوقي وطرف أرثوذكسي حسب طقس الهرطقة؛ 3- المانع المطلق، يمتد حتى أولاد القراء والمرنمين من أن يتّحدوا في زواج مع هراطقة، يهود ووثنيين، على الأقل إذا لم يرجعوا للإيمان. نلاحظ أن المجمع يمنع جميع الزواجات مع الهراطقة، مع اليهود والوثنيين اللذين لا يقررون أن يرتدوا. وينزل في الوقت نفسه عقوبة فقط للمرأة، لأنها في مثل هذه الظرف تكون معرّضة للخطر أكثر من الرجل.

 

يتبيّن من القانون أنّ همّ آباء المجمع المسكوني كان يرتكّز على البنين، فقرّروا منع عقد هذه الزواجات. لذلك كان من الواجب حلّ هذه المسألة بالإقرار أن الأولاد المولودين من هذه الزواجات عليهم قبول المعمودية في الكنيسة الكاثوليكيّة، وأن يكونوا جزءاً من الجماعة المسيحية وأن لا يُصبحوا أولاداً للهراطقة، أبناء الغلط. من الملاحظ أن القانون 14 ذو طابع جزائي، عام ومطلق، لا يميّز بين الهراطقة، يهود ووثنيين، ولا يقبل أي استثناء. من يتخلّف عن تطبيق هذا النظام، سيُخضَع للعقوبات الكنسيّة.

 

الهراطقة ليسوا من الذين يعبرون عن رأي شخصي مخالف لتعليم الكنيسة الكاثوليكيّة، لكنّه تعليم حُكم عليه صراحةً بتعليم هرطوقيّ من قبل مجمع مسكوني. قد يكون تعليمٌ ما هرطقة لكن، إذا لم يحكم عليه من السلطة العليا للكنيسة لا يمكن أن تكون موصوماً بهرطقة. المجمع القسطنطيني عام 381 في قانونه 6 بطريقة واضحة حدّد مفهوم الهرطقة: "..ونعني بالمبتدعين الذين جرى قطعهم سابقاً من الكنيسة أو الذين ابسلناهم والذين يعترفون تظاهراً بالإيمان القويم ولكنهم انفصلوا، من تلقاء أنفسهم، عن أساقفتنا القانونيين وأقاموا لأنفسهم اجتماعات دينية مضادة". استخدم المجمع تعبير "هرطقة" للإشارة إلى جميع البدع المختلفة المذكورة في القانون 1 من المجمع نفسه: البدع الخاصة بالمسيح وخصوصاً: "بدع الأفنوميين والآريوسيين أو الافدوكسيين والنصف الآريوسيين أو محاربي الروح والصابليين والمركليين والفوتينيين والابوليناريين".

 

مجمع ترولّو عام 691

 

بمبادرة من الاميراطور جوستينيانوس الثاني (685-695) وجهت الدعوة لعقد المجمع في القسطنطينية عام 691 والذي التأم في الصالة الملكية Troullos (القُبَّة في صالة الامبراطورية). لذلك أطلق عليه اسم مجمع ترولو (Penthekté)، لكونها كانت موجهة وفق رؤية جوستينيانوس الثاني لإتمام أعمال المجامع المسكونية الخامس (المجمع القسطنطينية الثاني عام553) والسادس (المجمع القسطنطينية الثالث عام 680-681). صادق المجمع على 102 قانون تنظيمي وهي تشكل تقريباً مجموعة قوانين الكنسية، لها قيمة قانونية لجميع الكنائس الشرقيّة ذات الطقس البيزنطي، وفي الشرق نظام كنسي خاص بالكنيسة اليونانية. أما الطابع المسكوني لمجمع ترولّو، فلم يُعترف به بصيغة شكلية من الكرسي الروماني. مع أنّ الكثير من قوانينه ضمّت إلى مجموعة القوانين الغربية، وقوانين أخرى لم تحظَ بالقبول من البابوات.

 

القانون 72- "لا يجوز لرجل أرثوذكسي أن يتزوج امرأة مبتدعة، ولا لامرأة أرثوذكسية أن تتزوج رجلاً مبتدعاً. فإذا اتفق حدوث شيء من هذا نطلب من المتزوجين اعتبار زيجتهم باطلة ويجب فسخها إذ لا يحسن مخالطة من لا تجوز مخالطته، أو ان يعيش الخروف مع الذئب أو ان يكون نصيب شعب المسيح مع الخطأة. و كل من خالف أوامرنا هذه فليقطع. أما إذا كان البعض ممن لم ينضموا بعد إلى المؤمنين ولم يحصلوا مع الرعية الارثوذكسية قد عقدوا زيجة شرعية واراد أحد الزوجين أن يختار الطريق القويم ويُقبل إلى نور اليقين وبقي الزوج الآخر راسفاً في قيود الضلال ويأبى أن يحدق بنظره إلى الاشعة الالهية وكانت المرأة غير المؤمنة راضية بان تساكن زوجها المؤمن أو أن الرجل غير المؤمن يرضى بأن يساكن المرأة المؤمنة فلا يفصل بينهما حسب قول الرسول بولس "لأن الرجل غير المؤمن يتقدس بالمرأة المؤمنة والمرأة غير المؤمنة تتقدس بالرجل المؤمن".

 

يتحدّث القانون بشكل صريح عن الزواج بين الارثوذكس والهراطقة. بالنسبة للمفسّر بيزنطيني Zonaras، المصطلح "أرثوذكس" يعني المؤمن المسيحي، بينما "الهرطوقي" وفقاً للمفسر البيزنطي ثيودورس بلسمون (1130/1140-1200) أن الهرطوقي هو غير مؤمن أي غير معمّد.  فالقانون تحدّث عن المانع المحرّم سواء عن "الزواج المختلط" أم "الزواج باختلاف الدين"، دون التمييز بين الهراطقة، المنشقين والوثنين. وإن كان القانون 72 لم يتناول موضوع زواج المنتمين إلى الكنيسة الأرثوذكسية مع المنشقين، والسبب قد يكون أنه في تلك الحقبة لم يكن التمييز بين الهراطقة والمنشقين واضحاً.

 

القانون 72 تناول ثلاث نقاط مهمّة: 1- المانع المطلق للاتحاد في زواج بين المسيحيين أرثوذكسيين والهراطقة، وأكثر من ذلك، هذه الزواجات تعتبر باطلة. 2- بخصوص العقوبات فهو الحرم الكبير لمن يعقد مثل هذه الزواجات. 3- لم يشرح المجمع مفهوم "هرطقة".

 

2- المجامع المحلّية

 

الزواجات بين مؤمني الكنيسة الكاثوليكية مع غير المؤمنين كاثوليك، أو مع غير المعمّدين، كانت موضع مناقشة في مجامع كنسية محلّي في القرن الرابع. ومن أقدّمها مجمع إلفيرا الذي انعقد في العقد الأول من القرن الرابع الميلادي (بين 300 و313) في مركز الأبرشية الفيرا في غرناطة، حيث اجتمع جميع الأساقفة وكهنة الكنيسة إسبانيا بهدف دراسة بعض الظروف الكنسيّة وإصدار أنظمة مشتركة. وضع هذا المجمع الكنسيّ الأسس لما سيكون مستقبل الكنيسة الإسبانية، التي كانت الجزء الغربي من الإمبراطورية الرومانية، كانت تحت سيطرة قيصر كوستانزو وكانت يتمتّع نسبيّاً بسلام ديني. عالج مجمع إلفيرا موضوع الانفصال عن الجماعات اليهودية التي كانت تعيش في شبه الجزيرة الايبيرية، فاصدر 81 قانوناً تخصّ جميع المجالات الرئيسية في الحياة الكنسيّة، والتي طالبت بتعديلات وتجديدات، تؤكّد من جهة على أهمية الأنظمة القديمة ومن جهة أخرى تصدق أنظمة جديدة ضرورية. وكما أعطى المجمع شرائع تلزم المسيحيين بأن يبتعدوا عن اماكن الوثنيين وعدم عقد زواج معهم. فقد نصّ في بعض قوانينه على التوبة صارمة للأهل، الذين يعقدون زواج بناتهم مع شخص وثني، يهودي أو هرطوقي (ق. 15-17) :

 

قانون 15: لا تُعط الفتيات المسيحيات، حتى لأسباب كثرة العدد ، في زواج مع الوثنين، بقدر الإمكان، خوفا من أن الاتحاد،  مع التقدم في العمر، يؤدي إلى زنى نفوسهم.

 

قانون 16: إذا رفض الهراطقة الدخول الكنيسة الكاثوليكية، لا تعطى فتيات مسيحيات لا سيما في الزواج، وحتى أيضاً رفض الزواج مع اليهود والهراطقة، لسبب عدم وجود شركة بين مؤمن وغير مؤمن. إذا تجاوز الوالدان هذا الأمر، يحرمون من المناولة المقدّسة لفترة خمسة سنوات.

 

القانون 17: إذا اعطى آحد بناته للكهنة وثنيين للزواج، من المستحسن حرمه من المناولة إلى الأبد.

 

نستنتج من هذه القوانين ما يلي:

 

1- وجود مانع موجّه للوالدين بعدم اعطاء بناتهم في زواج إلى وثنيين أو هراطقة أو منشقيين، خوفاً من وضع إيمان البنات في حالة خطر.

 

2- لا يتعلّق المانع بحالة زوج مسيحي يريد الزواج بفتاة غير مؤمنة أو أنها تنتمي إلى جماعة هراطقة، لأنّ هذه الحالة نادرة الحدوث، وأن خطر الإيمان هو أقلّ.

 

3- تنظر السلطة الكنيسة بإهتمام إلى زواج الفتاة مسيحية مع شخص وثني أو هرطوقي أو يهودي، أو منشق، حيث إيمانها يصبح مهدد وفي حالة خطرة، لأنّ هؤلاء الأشخاص قد يحاولون دفع الزوجة إلى الاعتقاد بأفكارهم.

 

4- عقوبة الحرم من الشركة الكنسية، تقع على الوالدين، المسؤولين الوحيدين وليس على الزوجة المسيحية.

 

5- هذه الزواجات ممنوعة، ولكونها غير جائزة، هي صحيحة حتى وإن لم تتم ببركة الكاهن الزوجية، لكن فقط حسب الصيغة المذكورة في الشرع الروماني.

 

مجمع أرلس (314)، عقده ونظّمه الامبراطور قسطنطين الأول، بحضور مفوضّ من أسقف روما.

 

Can. 11 De puellis fidelibus quae gentilibus iunguntur, placuit ut aliquanto tempore a communione separentur.

 

القانون لا يشجع على الاتحاد الزوجي بين المسيحيين والوثنيين، حيث ينزل بعقوبة الفصل عن الشركة الكنسية. وتنزل هذه العقوبة بشكل مؤقت على الزوجات المسيحيات اللواتي عقدّن زواجهم مع الوثنيين وليس على الوالدين. وهنا نجد الاختلاف ما جاء في قوانين المجمع إلفيرا.

 

مجمع اللاذقية (عام 343-381): انعقد في اللاذقية التي عقد فيها هذا المجمع هي واقعة في فريجية وهي غير اللاذقية الواقعة في سورية، وقد حضره ضم آباء من مناطق مختلفة في آسيا. تناولت قوانينه حول الأسرار موضوع الزواج المختلط بين المؤمنين المسيحيين والهراطقة. يمنع القانون 10 أولاد الكنيسة أن يتّحدوا بزواج مع الهراطقة:

 

ق. 10- يجب على أعضاء الكنيسة ألا يزوجوا أولادهم، دون تمييز، من المبتدعين.

 

ق. 31- لا يجوز عقد زيجات مع المبتدعين ولا مصاهرتهم بإعطائهم أبناءنا وبناتنا. ويجوز أن نأخذ منهم إذا وعدوا بأن يصيروا مسيحيين.

 

هذان القانونان لهما طابع العام ولا يقبل بأي استثناء. فالمانع مطلق ويخصّ جميع الهراطقة بدون تمييز. ولم يميّز بين الأوللاد الذكور أو الأنوث. والمانع يتعلّق بإعطاء أبناء وليس بالأخذ، إلاّ إذا وعدوا بأن يصيروا مسيحيين. فهذا يعني، أن المجمع يطلب بضرورة أن يكون لدى الزوجين الإيمان نفسه، وفي هذه الحالة يسمح بزواج. 4-ظهور لأول مرة حالة "شرط" لكي يسمح بعقد مثل هذه الزواجات.5-لا يتكلّم عن عقوبة.

 

المجمع العام للكنيسة الإفريقية: استمرت مسألة الزواجات المختلطة حتى القرن الخامس، القانون 21، من قوانين الآباء ال 217 المطوبين الذين اجتمعوا في قرطاجة عام 419، ينص على ما يلي: "وقد استحسن المجمع أيضًا أن ابناء الأكليريكيين لا يجوز أن يتزوجوا من أى من (الوثنيين) أو من المبتدعين".

 

آباء الكنيسة الأولى

 

بالتأكيد، كما لاحظ البعض أنَّ مرحلة تأسيس الهيكل القانوني للنظام الزواج الكنسي "تميّزت بمساهمة أباء الكنيسة الذين وضعوا الأسس الأخلاقية". وفي المرحلة الكلاسيكية من تاريخ الآباء الكنيسة، تم تحديد المعايير الأساسية لمؤسسة الزواج، التي كان لها علاقة بشكل رئيسي مع الأمانة المتبادلة، عدم إنحلال الزواج (سرّ) والبنين. مع ذلك، لم يكن الزواج قضية آباء الكنيسة في القرون الأولى، فقد اعترفوا بشكل كاف بأسرارية الاتّحاد الزوجيّ بين المسيحيين. وكان كل اهتمامهم منصّباً على قدسية الزواج، وخضوعه لسلطة الكنيسة وإحاطته بطقوس محدّدة، يتممها أسقف أو كاهن: وضع الحجاب على رأس المرأة، البركة الزواجيّة، تشابك الايدي. في الحقيقة إنَّ واجبات الزواج  الناجمة عن الإيمان لم تُفهم بنفس الطريقة من قبل المؤلفين المسيحيين في القرون الأولى، هذا يبين أن في ظروف طارئة أخرى كانت الكنيسة تجد نفسها فيها، لم تكن المداولات المجمعية ملزمة.

 

الشهادة الأولى التي تشير إلى تدخل الكنيسة في مؤسّسة الزواج، هي رسالة القديس أغناطيوس الانطاكي (107 م)، الذي أوصى المؤمنين بعدم الاحتفال بالزواج بدون إذن الأسقف: "على الرجال والنساء، الذين يتزوّجون أن يكون اتّحادهم على يد الأسقف، حتى يكون الزواج حسب الرّب لا حسب الشهوة، ليسير كلّ شيء لمجد الله". وكأنّ للأسقف مكانة الله في الجماعة المسيحية، هذا لأنَّ ما يتمّ فعله بموافقته هو "حسب الرّب". هذا الإجراء يعتبر نوعاً من اعتماد السلطة الدينية وضرورة مصادقتها للسماح بعقد الزواج، وهذا يأخذ صفة نصيحة ولا صفة الإلزام.

 

حتى القرن الثالث، لم تأخذ المشكلة القانونيّة للزواج المختلط حيّزاً في كتابات آباء الكنيسة، على الرغم من أنّهم كانوا صارمين بخصوص الزواج بين المعمّدين وغير المعمّدين، وإن لم يعلنوا عدم صحتها بشكل واضح. استخدموا نصوص العهد الجديد سبباً لذلك (1 قورنتس 7، 12-15). لم يتنولوا موضوع الزواجات المسيحيين مع "هراطقة" أو "منشقيين" بشكل مباشر، لكن الحديث عن مانع اختلاف في الدين.

 

في الكنيسة الافريقية، كان ترتليانوس (†223) يؤكّد أنّ كل زواج بين المسيحيين والوثنيين ممنوع بشكل صارم، معتبراً إيّاه إهانة لكنيسة المسيح ولدمه، وخطر على إيمان المسيحي، ويمكن مساواته بالزنى: "يُقدّم الإكليل أثناء الاعراس أيضاً. لهذا، يجب أن لا نعقد الزواج حسب عادات الوثنيين لكي لا نقع في عبادة الاوثان، لأنَّ هم أيضاً يحتفلون بالزواج بنفس الطريقة". أمّا أنت فقد استلمت الشريعة من البطاركة (سفر التكوين 24، 3؛ 28 و1) أو من الرسول، الذي اوصانا بعقد الزواج حسب تعاليم الرّب (1 قورنتس 7، 39)". لذلك دعى الأرامل اللواتي كان يرغبنَّ الزواج بأن يتبعوا تعاليم القديس بولس الرسول وأن يتزوّجن فقط رجل مسيحي. وبالمثل القديس قبريانوس (†258) أسقف قرطاجة، أكّد على منع الزواج مع الوثنيين (“matrimonium cum gentilibus non iungendum” (Ad Quirinum III, 62))، وذلك ليس من منطلق المبدأ "الزواج في الرّبّ" لكن بسبب وجود حرم في العهد القديم (سفر تكوين 24؛ استرا 10) وهو زواج من امرأة كنعانية أو غير يهودية(عندما ارسل ابراهيم عبده إلى بلاد رافدين لإيجاد زوجة لابنه اسحاق، لم يرد أن يتزوج ابنه من فتاة كنعانية (سفر تكوين 24). وقبريانوس يرى أنّ سبب ابتعاد المسيحيين في القرن الثالث عن الإيمان في المسيح هو لسهولة عقد زواجهم مع الوثنيين. لذا الضروري منع ليس فقط الزواجات الأرامل مع وثني، لكن أي زواج بين مسيحي ووثني.

 

في القرن الرابع، نجد بعض من الكتاب الغربيين كانوا أقلّ قبولاً للزواجات المختلطة. القديس أمبروجيوس (أسقف رومة 339-397) الذي يُعدّ من معلمي التعليم المسيحي حول الزواج في الغرب، ومن عُشاق البتولية؛ أكّد أنّ الزواج المسيحي يجب أن يكون مقدّساً من خلال بركة الكاهن". وأدان الزواجات المختلطة، واصفاً معتراً غير صحيحة على المستوى اللاهوتي، وتدنيس للجسد الكنيسة (cfr. Ep. 62 ad Vigilium). وبتفسيره للنصّ سفر التكوين (آية 24) تكلّم عن ضرورة سرّ المعمودية لكلا الزوجين (cfr. De Abraham I,9, n. 84)..

 

قديس اوغسطين، مع تسليط الضوء على المخاطر التي قد تنطوي عليها هذه الزواجات، يرى أنها لم تكون ممنوعة في العهد الجديد، ولا يمكن اعتبارها بأي شكل من الأشكال معيبة (cfr. De fide et operibus 21). القديس يوحنا فم الذهب في تفسيره لرسالة القديس بولس الأولى الى قورنتس، كان يتساهل في قبول الزواج  مع طرف غير كاثوليكي على أن يكون وسيلة لعودته إلى الكثلكة.

 

نتيجة

بالرجوع إلى المصادر التشريعيّة القانونية الكنسيّة القديمة والتي هي تشريعات المجامع المسكونية (الخلقدونية 451م – ترولاني 691م) والمجامع المحليّة (اللاذقية 347م – 395م، قرطاجه 419م)، يتبيّن لنا أنّ الكنيسة عانت الكثير من مشاكل الزواج المختلط في القرون الأولى سواء في الشرق أو في الغرب. ولعدة أسباب الزواج من المبتدعين يجب أن يتجنبه ابناء الكنيسة الجامعة عامة بلا استثناء، والصواب كل الصواب في منعه. وكان بإمكان المسيحي عقد زواج مع مسيحي وهرطوقي فقط على شرط أنّ يرتد إلى الإيمان الاثوذكسي. دون شك، لقد كان جلّ اهتمام هذه المجامع هو حماية إيمان الزوج الكاثوليكي وتجنيبه أيّ نوع من أخطار الضلال. ولم تقل صراحة إن الزواج مع غير المسيحيين يجب اعتباره غير صحيح. لهذا، نوّهت في نصوصها القانونية، إلى شدّة وقساوة الإجراءات حتىّ الإقرار: يجب تحاشي هذه الزواجات؛ ولكي تحمي أبنائها المؤمنين فرضت واقعة المنع.