الدستور وعودة الوعي

للأب متى المسكين

غيبة الوعي العام وخاصة عند الفئات المسحوقة، لن يُعيدها ويرفع من قَدْرها إلاَّ الدستور حينما يعيه الشعب ويتدارسه، فيعرف أين هو وما له وما عليه، لأن الإغفال المتعمّد وغير المتعمّد لهذه الفئات أصبح سمة العصر، ويستحيل أن نوقِظ ضمير المتولِّين على هذه الفئات بالنداءات والاستعطافات. فالأمر تجاوز الحدود المعقولة، ولن ينجح حتى القانون، مهما كان القانون، ليعيد هذه العقول إلى اتزانها أو حتى يوقظها إلى ما تطلبه العدالة الاجتماعية والسياسية.

فالدستور هو عقل الأُمَّة الذي يستطيع أن يلمَّ أطرافها ويضبطها ويرشدها إلى حقِّها وما ينبغي أن تُطالِب به، ويغنيها عن الشطط في التعبير عن الظلم الواقع عليها أو اختيار طريق يجرفها بعيداً عن مسار الطاعة للدولة.

والآن، فالنقلة الكبرى التي انتقلت بها الحكومة في مشاريعها المفتوحة إلى مالا نهاية، الواقع أنها تجرّ الشعب وراءها وهو ليس على وعي بما يُعمل من أجله. فالشعب يكاد يكون غافلاً عن القيمة التي أُضيفت إليه وما عُمِلَ من أجله، لأنه لم يشترك فيه ولم يُدرِك قيمته وقيمة المدفوع فيه. الشعب يلزم ولا بد أن يلتحم في هذه النهضة الكبرى ليُغذيها بدفقات من روحه ليتفانى في الأداء وجنْي النتائج.

كما أن الحكومة الساهرة على الإصلاح ليتها تتلاحم مع الفئات الأخرى التي لم يكن لها نصيب في هذه النهضة الكبرى، وهي فئات معروفة لدى الجميع وأولهم الأقباط الذين فاتهم قطار العمل والخدمة والمشاركة في مسار الأمة مرة واحدة وبلا إبداءٍ للأسباب. كما تخطَّاهم التعديل والإصلاح، ولم يوضع قانون واحد ينظِّم لهم التعيينات والقبول والسفر في البعثات، فتُرِكَت لهوى المسئولين عن ذلك، فكان الإجحاف وكان الأنين. وإلى متى؟ فتراكمات الثورة والاشتراكية انصبَّت على رؤوس الأقباط وليس مَنْ يُدرِك ضراوة ما حدث.

فبعد أن كان للأقباط وجودٌ حي فعَّال مع زعماء البلاد، وشراكة واضحة أمينة في مسيرة البلاد، والتحام بديع في تسيير الحكومات وأعمال البرلمانات، ووجودٌ حيٌّ فعَّال في جميع مصالح الحكومة بلا استثناء؛ هذا كله أُوقِف وقفة مريبة في قيام الثورة. والآن، وقد انتهت الثورة، فمَنْ يعطي جواباً عن هذا الغياب المتعمّد الصارخ للعنصر القبطي بوجه خصوصي في جميع نشاطات الحكومة ومصالحها عموماً. الأمر جد خطير، ولا بد من جواب!

أمَّا أن يوضع اسم قبطي هنا أو هناك، فهذا لا يمثِّل الوجود القبطي. فالوجود القبطي يُقاس بمقدار اشتراكه في قوة دفع الحكومة في كافة مجالاتها وحَمْل مسئولية ذلك كأمانة، عندما نؤدِّيها نشعر فقط بوجودنا وكياننا، كما كنَّا وكما كانت البلاد.

نحن نطلب الدستور لكي يقرِّر حقَّنا هذا، إن كنَّا حقًّا كما يقول كبراء الحكومة ورجال الدين: نسيجٌ واحدٌ يُكوِّن قماشة الأمة التي يدَّثر بها؛ أو كما يقولون الآن: “لهم ما لنا، وعليهم ما علينا”. هذه مقولة دستورية ينبغي أن تُسجَّل حتى حينما نُطالِب بها لا نكون من الباغين.

فإن كان حقًّا ما يقوله الجميع وبلا استثناء أننا نكوِّن مع المسلمين نسيج الأمة، فهذا شيء يُفتخر به؛ ولكن مَنْ يضمن هذا القول ليرتفع إلى مستوى العمل، ويثبِّته لنا على مدى الأجيال؟ فنحن هنا لا نُطالِب إلاَّ بتسجيل المقولة عملياً.

وإن كان حقًّا ما يُقال إن: “لهم ما لنا، وعليهم ما علينا”، فلا نُطالِب بأكثر من أن تصبح هذه المقولة عملاً يسري في التعيينات والترقيات والبعثات. ولكن لسنا من البجاحة أن نُطالِب بـ “النسبة” فنحن إخوة؛ ولا نُطالِب إلاَّ بـ “التناسب”، أي أن يكون لنا وجود، مجرد وجود، وجود صحيح نفتخر به أمام الشامتين والمدَّعين.

نقول هذا لأن الكيل قد فاض. وهكذا نُطالِب بالدستور لكي يُطالِب الدستور بحقِّنا ونظل نحن صامتين. لأنه إن ثبت هذا في الدستور ضمنَّا حقّنا ووجودنا إزاء الذين لا يُراعون الله ولا الحق ولا الوطن ولا الأُخُوَّة. لأنه حينئذ سيقوم مع الدستور محكمة دستورية تُطالِب بتنفيذ بنوده وتنفيذ الحق الذي فيه، فلا يَعُدْ بعد شكوى لشاكٍ ولا حقٌّ مغتصب. وأقصى ما نتمنَّاه أن يسجِّل الدستور ما هو جاري على كل الألسن أننا نسيج واحد بمعنى التزامل والشركة في العمل من أجل خير البلاد. والمقولة الأخيرة: “أن لهم ما لنا، وعليهم ما علينا”، وهي السواسية في القوانين وما يتفرَّع منها، ولو أننا نستكثر هذه المقولة، فنحن نرفض قيام السواسية بمعناها المتقن الدقيق، وكل ما نصبو إليه هو أن لا تضيع حقوقنا المعيشية أو التعليمية وما يتفرَّع منها من تعيينات في الجامعة وإرسال البعثات، في الوقت الذي تجوز فيه البلاد تحوُّلات كبرى، فأصبحت الضرورة تُحتِّم ذلك الآن أكثر من أي وقت مضى.

قصة في المضمون:

2- أعرف شاباً مسيحياً ذكياً مقتدراً كان متقدِّماً في كليته وتقدم للدكتوراه، فما كان من الممتحنين إلاَّ أن واجهوه بالحقيقة المُرَّة التي تتنافى مع العلم؛ إذ خيَّروه: “إذا كنتَ تُغيِّر … نُعطيها لك”، والمعنى معروف!!! وأنا الآن أطرح هذه الحادثة أمام الضمير الوطني، فهل يمكن للعلم أن يحتمل هذا الوضع؟ وأيْمُ الحق، هذا تم بالحرف الواحد. هكذا وُضِعَ العلم والنجاح والتعيين إزاء تغيير الدين، هل يمكن؟ هل يرضاه القائمون على شئون الجامعة وشئون السياسة في هذا البلد. من أجل هذا نستصرخ أن نُسجِّل حقوقنا وما لنا وما علينا في الدستور وترعاه محكمة دستورية يمكن اللجوء إليها لإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه.

2- كان لي جدٌّ – رحمه الله – له ثلاثة أولاد. فلما جاء الذين يُطبِّقون نظام الانخراط لخدمة الجيش، وكان وقتها يُعفي الابن البكر لكي يُساعد أباه في أمور الفلاحة والحياة، فأخذوا الثلاثة أولاد أمام عينيه بالقوة. فلما ضاق به الأمر أتى بتصرُّفٍ ذكي: إذ اشترى لنفسه الكفن الذي يُلفُّ فيه الميِّت، وقام قاصداً الباشا الكبير في مصر – محمد علي باشا – وظلَّ على بابه عدة أيام إلى أن تحنَّنوا عليه وأدخلوه. فلما دخل والكفن على كتفه، كان سؤال الباشا له: ما هذا الذي تحمله على كتفك؟ فانطلق يشرح للباشا أنه الكفن؛ حتى إذا رأى الباشا أنه لا يقول الحق، وبالتالي أَمَرَ بموته، لا يُكلِّف الدولة ثمن كفنه. فسأله الباشا: وما سؤالك؟ فأخذ يشرح له حقيقة الأمر وكيف أخذوا أولاده الثلاثة لخدمة الجيش وتركوه وحده، وأن القانون يستثني ابنه البكر، ولكنهم لم يأخذوا لا بالقانون ولا بالرحمة والإشفاق بحاله. فأمر الباشا بإعادة ابنه البكر إليه وبكسوة له امتداحاً لشجاعته.

 

اقترحها للنشر الأب إسطفانوس دانيال جرجس

خادم مذبح الله بالقطنة والأغانة – طما

stfanos2@yahoo.com