الرسالة البطريركية في عيد القيامة المجيدة 2011

24 أبريل 2011

 

باسم الآب والابن والروح القدس، إله واحد آمين.

من الأنبا انطونيوس نجيب

بنعمة الله، بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك وكاردينال الكنيسة الجامعة ،

إلى أخوتنا المطارنة، وإلى أبنائنا القمامصة والقسوس،

والرهبان والراهبات والشمامسة ،

وإلى جميع أبناء الكنيسة القبطية الكاثوليكية على أرض الوطن وفي بلاد الانتشار..

 

القيامة انتصار الحياة والخير والحب

"فيه كانت الحياة، وحياته كانت نور الناس، والنور يشرق في الظلمة،

والظلمة لا تقوى عليه" (يوحنا 1 : 4- 5)

 

أولاً : القيامة انتصار الحياة

        نحتفل هذا المساء المبارك بعيد القيامة المجيدة : قام المسيح، حقاً قام. وتأتي هذه المناسبة السعيدة ونحن ما زلنا نعيش في أجواء وآمال وتطلعات ثورة 25 / يناير / 2011. إنها ثورةٌ مصرية أصيلة. انبثقت من قلوب شبابها، من رغبتهم العميقة للتغيير والتقدم والرقي. إنهم شباب مصر الحضارة، التي علـمت العالم الفنون والآداب، وأول من نادى بوحدانية الخالق. لا تعرف الحروب الأهلية، ولا تحب سفك الدماء، ولا تجنح إلى العنف أو القسوة أو التطرف. ونجحت هذه الثورة في إيقاظ شعب بأكمله، لتشكّل قيامة جديدة لمصر، وبداية لتاريخ جديد في طريق النور والحرية والعدالة.

في فجر أحد القيامة، ظهر الملاك للمريمات اللواتي جئن إلي قبر المسيح فوجدنه فارغا، وقال لهن : "لماذا تطلبن الحي بين الأموات. ما هو هنا، بل قام" (لوقا 24 : 5 – 6). هذا الحَدث هو ثورة حقيقية غيّرت مسيرة التاريخ. إنه الحدث الأعظم منذ خَلق الله آدم. وها هي الطبيعة تشترك فيه لتعلن انتصار الحياة علي الموت. يقول إنجيل القدّيس متي : "وفجأة وقع زلزال عظيم، حين نزل ملاك الرب من السماء، ودحرج الحجر عن باب القبر وجلس عليه. وكان منظره كالبرق، وثوبه أبيض كالثلج. فارتعب الحراس لما رأوه، وصاروا مثل الأموات. فقال الملاك للمرأتين : لا تخافا. أنا أعرف أنكما تطلبان يسوع المصلوب. ما هو هنا، لأنه قام كما قال" (28 : 2).

        قيامة المسيح ثورة حقيقية. ثورة انتصرت فيها الحياة على الموت، والروح على المادة، والخلود والأبدية علي الزوال والفناء. ثورة انتصر فيها النور على الظلام، والرجاء علي اليأس، والخير علي الشر، والحق على الباطل. في نورها أدركنا أن الألم له معني وله قيمة، فهو مرحلة عابرة في المسيرة نحو القيامة للحياة الأبدية. اختفى جبروت الموت ورعبه، وتأكدنا أن الإنسان لم يُخلق للموت بل للحياة. وتحقّق ما أعلنه المسيح: " أنا هو القيامة والحياة " (يوحنا 11 : 25 ). ومن فجر القيامة انطلق نور المسيحية، وصارت قيامة المسيح عربون قيامة الموتى جميعاً ( رومية 1 : 4 ).

 

ثانياً : القيامة انتصار النور والحق والحرية

        قام المسيح من الموت، بعد أن قدّم ذاته ذبيحة أبدية عن الإنسان ونسله، وبعد أن أكمل سر الفداء. فلا قيامة إلا بعد الجهاد والتضحية بتفانٍ وإخلاص. وهذا قانون في الكون والوجود: لا تقدّم بدون تعب، ولا رقي بدون عطاء، ولا نجاح بدون سهر. وكل الحضارات التي ظهرت إنما أتت ثماراً لجهود أبناء البشر المخلصين. والأوطان لا تُبنى إلا بالقلوب النقية والضمائر اليقظة، والمصلحين المخلصين في كل موقع ومسئولية. إن أهداف الثورة التي أطلقها الشباب في مصر، مثل كل حركة تغيير للأفضل، لا تتحقّق إلا بالعمل البنّاء الجاد، بالتضامن وروح الجماعة، بالبعد عن الفكر الضيق المتعصب والمتطرف، بالعقول المستنيرة والعزيمة الجادة، وبالوجدان المخلص للوطن.

        النور والخير والحق والحرية والحب، تلك هي ثمار قيامة المسيح، وتلك هي أيضاً سمات أي ثورة حقيقية أصيلة. هي انتصار النور الذي يزيح ظلام الخوف واليأس والقلق، وهي انتصار الحرية التي تمزّق قيود الاستعباد للأنانية والخطايا واللامبالاة، وتتحرّر من السجن داخل الشهوات العابرة واللذات الباطلة. وهي ثورة الحقيقة التي لا تعرف الكذب أو النفاق أو الغش. قيامة المسيح هي نقطة الانطلاق إلى عالم جديد، يقوم من موت الماضي حاملا طاقة التجديد والتقدم والرقي، متسلحا بفكر مستنير، وبروح الحب والعطاء.

 

 

ختاماً

        إننا اليوم، في اتحاد مع قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر، وجميع البطاركة والأساقفة والشعوب، نحتفل بعيد القيامة لأول مرة بعد الثورة المصرية النبيلة. وقد سبق أن احتفلنا في هذه الكنيسة بإقامة قداس الشكر والرحمة لأرواح شهداء الثورة، مسلمين ومسيحيين. فدماء الشهداء في كل زمان ومكان هي بذور التقدم. فالأمم لا ترتقي إلا إذا روتها دماء وتضحيات الفداء. فليتقبل الله سبحانه وتعالى أرواح شهدائنا في موكب الأبرار.

        ونرفع صلواتنا من أجل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وجميع الذين يحملون أمانة مسئولية بلدنا الحبيب، في هذه الفترة التاريخية الدقيقة والحاسمة. نتضرع إلي الرب أن ينيرهم ويساندهم ليقودوا مسيرة البناء الجديد إلي ميناء الأمن والأمان، والاستقرار والتقدّم. فيحقّقوا للأجيال الحاضرة والمستقبلة أمانيهم الغالية، بأن نرى مصرنا منارا للفكر المستنير، والعمل البنّاء، والقلب المتفتّح، والسلام النابع من العدالة والحرّية والمساواة. ولتتكلل جهود كل من يعمل من أجل بناء الوطن، في التضامن والمحبة، بالنجاح والخير ووافر البركات.  

        ونصلي أيضا من أجل كل البلاد التي تجاهد في منطقتنا العربية، وفي بلاد أفريقيا وآسيا، من أجل أن تتمتع شعوبها بحياة كريمة، قائمة علي الحرية والعدالة، والمساواة والإخاء والتضامن، ليعمّ الأمن والأمان، والسلام والحب.

المسيح قام…  حقاً قام

 

الأنبا انطونيوس نجيب

بطريرك وكاردينال الإسكندرية للأقباط الكاثوليك