المقابلة العامة نهار الأربعاء 27 أبريل 2011: زمن الفصح

روما، الجمعة 29 أبريل 2011 (Zenit.org)

ننشر في ما يلي التعليم الذي تلاه البابا بندكتس السادس عشر نهار الأربعاء خلال المقابلة العامة في ساحة القديس بطرس بالفاتيكان.

***

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

خلال أولى أيام زمن الفصح الممتد حتى العنصرة، ما نزال مفعمين بالحيوية والفرح الجديد اللذين بعثتهما الاحتفالات الليتورجية في قلوبنا. وبالتالي، أود اليوم أن أتأمل معكم باختصار في الفصح، جوهر السر المسيحي. في الواقع، تنطلق كل الأمور من هنا: فالمسيح القائم من بين الأموات هو أساس إيماننا. انطلاقاً من الفصح، وكما من مركز منير ومتوهج، تشع كل ليتورجيا الكنيسة مستقية منه محتواها ودلالتها. الاحتفال الليتورجي بموت المسيح وقيامته ليس مجرد تذكار لهذا الحدث، بل هو تفعيله في السر من أجل حياة كل مسيحي وكل جماعة كنسية، من أجل حياتنا. إن الإيمان بالمسيح القائم من بين الأموات يبدل الوجود فعلياً، محدثاً فينا قيامة مستمرة، كما كتب القديس بولس إلى المؤمنين الأولين: "فقد كنتم في الماضي ظلاماً، ولكنكم الآن نور في الرب. فاسلكوا سلوك أولاد النور. فإن ثمر النور يكون في كل صلاح واستقامة وحق" (أف 5: 8، 9).

ماذا نفعل إذاً لكي يصبح الفصح "حياة"؟ كيف لكل وجودنا الداخلي والخارجي أن يتخذ "شكلاً" فصحياً؟ ينبغي علينا الانطلاق من الفهم الحقيقي لقيامة يسوع: فإن حدثاً مماثلاً ليس مجرد عودة إلى الحياة السابقة كما حصل مع لعازر، مع ابنة يايرُس، أو مع الشاب في مدينة نايين، بل هو أمر جديد ومختلف بالكامل. قيامة المسيح هي الولوج إلى حياة لم تعد خاضعة لانقضاء الدهر، إلى حياة منغمسة في أزلية الله. في قيامة يسوع، يبدأ وضع جديد لوجود البشر، وضع ينير ويبدل دربنا اليومية ويفسح المجال أمام مستقبل مختلف وجديد نوعياً للبشرية جمعاء. لذلك، لا يربط القديس بولس بطريقة غير قابلة للانفصال قيامة المسيحيين بقيامة يسوع (1 كور 15: 16، 20) فحسب، بل يشير أيضاً إلى كيفية عيش السر الفصحي في حياتنا اليومية.

في الرسالة إلى أهل كولوسي، يقول: "فبما أنكم قد قمتم مع المسيح، فاسعوا إلى الأمور التي في العلى، حيث المسيح جالس عن يمين الله. احصروا اهتمامكم بالأمور التي في العلى، لا بالأمور الأرضية" (3: 1، 2). للوهلة الأولى، وخلال قراءة هذا النص، قد يبدو أن الرسول يشجع الازدراء بالوقائع الأرضية، بدعوته إلى نسيان هذا العالم المتسم بالآلام وأعمال الظلم والذنوب، للعيش قبل الأوان في فردوس سماوي. قد تكون فكرة "السماء" في هذه الحالة ضرباً من الجنون. ولكن، في سبيل فهم المعنى الفعلي لهذه الأقوال البولسية، يكفي عدم فصلها عن سياقها. الرسول يوضح جيداً ما يقصد بـ "الأمور التي في العلى" التي ينبغي على المسيحي أن يسعى إليها، و"الأمور الأرضية" التي يجب أن يتجنبها. إليكم أولاً "الأمور الأرضية" التي يجب تلافيها. يكتب القديس بولس: "فأميتوا إذاً أعضاءكم الأرضية: الزنى، النجاسة، جموح العاطفة، الشهوة الرديئة، والاشتهاء النهم الذي هو عبادة أوثان" (3: 5، 6). دعونا نُمت فينا الرغبة النهمة في الخيرات المادية، الأنانية، سبب كل خطيئة. إذاً، يدعو الرسول المسيحيين إلى التجرد بحزم عن "الأمور الأرضية"، يريد بوضوح أن يفسر ما يخص "الإنسان القديم" الذي ينبغي على المسيحي أن يتجرد منه ليلبس المسيح.

وكما ذكر بوضوح الأمور التي يجب ألا يختارها القلب، يدلنا القديس بولس بوضوح أيضاً على "الأمور التي في العلى" التي لا بد للمسيحي من السعي إليها وتجربتها. إنها تشمل ما يخص "الإنسان الجديد" الذي لبس المسيح بصورة نهائية في المعمودية، وإنما الذي يحتاج دوماً إلى التجدد "وفقاً لصورة خالقه" (كول 3، 10). يصف رسول الأمم هذه "الأمور التي في العلى" كما يلي: "فباعتباركم جماعة مختارة من الله، قديسين محبوبين، البسوا دائماً عواطف الحنان واللطف والتواضع والوداعة وطول البال، محتملين بعضكم بعضاً، ومسامحين بعضكم بعضاً […] وفوق هذا كله البسوا المحبة، فهي رابطة الكمال" (كول 3: 12، 14). إذاً، القديس بولس بعيد تمام البعد عن دعوة المسيحيين، كل واحد منا، إلى الهرب من العالم الذي وضعنا الله فيه. صحيح أننا مواطنو "مدينة" أخرى يوجد فيها وطننا الفعلي، وإنما ينبغي علينا أن نسلك يومياً على الأرض الدرب المؤدية إلى هذه الغاية. بالمشاركة ابتداء من الآن في حياة المسيح القائم من بين الأموات، ينبغي علينا أن نعيش كبشر جدد في هذا العالم، في قلب الحاضرة الأرضية.

هذه الدرب ليس معدة فقط لتبديلنا بصورة ذاتية، وإنما أيضاً لمنح الحاضرة الأرضية وجهاً جديداً يعزز تنمية الإنسان والمجتمع وفقاً لمنطق التضامن والصلاح، في احترام شديد لكرامة كل إنسان. والرسول يذكرنا بالفضائل التي يجب أن ترافق الحياة المسيحية؛ في الطليعة، هناك المحبة التي بها ترتبط كل الفضائل الأخرى كارتباطها بالمنبع والرحِم. وهي تلخص وتشمل "الأمور السماوية": المحبة التي إلى جانب الإيمان والرجاء تشكل القاعدة الذهبية في حياة المسيحي وتحدد طبيعتها.

الفصح يحمل إذاً جِدة انتقال عميق وتام من حياة خاضعة لعبودية الخطيئة إلى حياة متميزة بالحرية، ومنتعشة بالمحبة، القوة التي تهدم كل العوائق وتبني وئاماً جديداً في القلب وفي العلاقات مع الآخرين ومع الأشياء. إن اختبر كل مسيحي، وككل جماعة، رحلة القيامة هذه، فلا بد له من أن يكون خميرة جديدة في العالم، ويبذل ذاته بلا تحفظ للقضايا الأكثر إلحاحية وعدالة، كما تظهر شهادات القديسين في كل الأزمنة والأمكنة. كما أن تطلعات زماننا عديدة: نحن المسيحيون، وإذ نؤمن إيماناً راسخاً بأن قيامة المسيح جددت الإنسان دون أن تهمشه من العالم الذي يبني فيه تاريخه، ينبغي علينا أن نكون الشهود النيرين لهذه الحياة الجديدة التي أعطانا إياها الفصح. إذاً، الفصح هو هبة لا بد من قبولها دوماً بشكل أكبر في الإيمان، للعمل في كل الظروف بنعمة المسيح وفقاً لمنطق الله، منطق المحبة. ولا بد لنور قيامة المسيح من اختراق عالمنا، ومن الوصول كرسالة حقيقة وحياة إلى جميع البشر من خلال شهادتنا اليومية.

أيها الأحباء، أجل، المسيح حقاً قام! لا نستطيع أن نحتفظ لأنفسنا فقط بالحياة والفرح اللذين أعطانا إياهما في فصحه، بل ينبغي علينا أن نعطيهما للقريبين منا. هذا هو واجبنا ورسالتنا: أن نحيي في قلب القريب الرجاء حيث اليأس، والفرح حيث الكآبة، والحياة حيث الموت. إن الشهادة يومياً لفرح الرب القائم من بين الأموات تعني العيش دوماً "بشكل فصحي" ونشر الإعلان السار عن أن المسيح ليس فكرة أو ذكرى من الماضي، بل هو شخص يعيش معنا ولأجلنا وفينا، ومعه وفيه نستطيع أن نبني الأرض الجديدة (رؤ 21، 5).

***

نقلته إلى العربية غرة معيط (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لدار النشر الفاتيكانية 2011