محبة إبن الإنسان لله

بقلم نيران اسكندر

    حين يتساءل الإنسان عن مقدار محبة الله له، نسمع المسيحي يقول له: "أنظر إلى الصليب وأنت ترى هذه المحبة التي قال عنها الرب يسوع المسيح في إنجيل يوحنا الإصحاح الثالث آية 16: { فإن الله أحب العالم حتى أنه جاد بإبنه الوحيد لكي لا يهلك كل مَن يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية }.

     ولو عاود هذا الإنسان بسؤال المسيحي: "وماذا عن حب إبن الإنسان لله، فكيف يكون؟"، فماذا سيكون الجواب؟

     لعل أجمل موقف للدلالة على محبة إبن الإنسان المتمثِّل بيسوع الناصري لله أبيه السماوي هو عند صلاته لله جاثيًا في جبل الزيتون (لوقا 22: 39-46)، وقد تحول عرقه إلى قطرات دمٍ توثِّق العهد الذي قطعه يسوع مع الله حينذاك قائلاً له: "لا مشيئتي، بل مشيئتك" على الرغم من حزنه الشديد. هذا الحزن الذي إنتابه ليس لأنه متوجه إلى الموت فهو يعلم بذلك، إذ قد خبّر تلاميذه ثلاث مرّات بما سيحدث له  وبأنه هو المسيح المنتظر (متى 16: 21، 17: 22-23، 20: 17-19)، ولكن حزنه يأتي لأنه ضعف وضعفه هذا قد يُحزن أباه السماوي وهو الذي كان هدفه "العمل على إسعاد الله بطاعة كلمته" (مزمور 40: 8-9، لوقا 2: 41-49)، إذ بطلبه لله بأن يصرف عنه كأس الألم والموت يُسيء لإسم الله القدّوس أمام الآخرين ويُشكك بمصداقية كلامه وهو "قدوس الله مخلص إسرائيل".

     وكثيرًا ما نقعُ بمثل هذه التجربة أي المواقف التي تجعلنا نتصرّف بصورة مخالفة لِما نُبشِّر به: "المحبة"، "التضحية"، "المغفرة"، … إلخ، المواقف التي تقودنا إلى عدم فعل أو إتمام مشيئة الله، وهذا ينتج عنه فقدان لمصداقية كلمة الله أمام الآخرين خاصةً إن كنا ذوي علاقة قوية بالله، وبالتالي نحن نُسيء لله أكثر من الإساءة لأنفسنا. هذه التجارب تتطلّب منا محبة كبيرة لله وإيمانًا عميقًا ثابتًا لنقول له "ليكن كما تشاء" حين تموت في قلوبنا المحبة من كثر الإساءة، حين نُضطهد، حين نُهان، فنغفر ونسامح ونُصلّي من أجل المحبة وزيادة الإيمان، من أجل أن نكون مرآة لله المحبة ولإظهار مجده أمام الآخرين بالطاعة لكلامه والإنصياع لإرادته المُقدّسة والوثوق بها.

    في جبل الزيتون صلّى السيد يسوع المسيح راكعًا وكأنه يُسلِّم ذاته لله، ونستطيع أن نتخيّل سماع صوته قائلاً له: "لتكن مشيئتك لا مشيئتي. ها أني أجثو على ركبتيّ واضعًا يداي خلف ظهري لتُقيّدهما بمشيئتك فيسير بي ملاكك حيثما تشاء، أفعلُ هذا لأني أُحبك ومصداقية محبتك للعالم هي كل ما تبتغيه نفسي". وهكذا أيضًا نستطيع نحن أن نُظهر محبّتنا لله في جميع المواقف التي نمر بها بحياتنا [الموت، الفقر، المرض، الخلاف بين زوجين، الإضطهاد، …] ونُسلِّم بما سمح لنا في حياتنا ونعمل على طاعة كلمته بحسب مشيئته، ولنقل ”لتكن مشيئتك“ دون تذمّر، كما فعل القديس بولس الرسول (أعمال 20: 17-27).

    في العهد القديم، أحبّ المؤمنون الله وخافوا من عدم الإتحاد بالله نتيجة الخطيئة [أي العدو] فحزنوا وبللت دموعهم الفراش، فإعترفوا بخطئهم وتابوا (مزمور 6 و 31 و 32). وبعد العهد الجديد، المؤمن الحقيقي المُحب لله يحزن عند خطيئته ليس خوفًا من عدم الإتحاد بالله، فهو يعلم بأنه في قلب الله، وبأن الله قد غفر له بإبنه الحبيب إن ندم وتاب حقًا، ومتأكد من نيل الملكوت إذ له رجاءٌ بالقيامة لا يخيب، ولكن الحزن يأتي للأسباب التالية، إذ إنه كمعلمه الرب يسوع رغبته العميقة وهدفه هو "العمل على إسعاد الله":

(1) لأنه بخطيئته قد أحزن أباه السماوي وأساء لإسمه القدّوس أمام الآخرين،

(2) لأن بسبب خطيئته عانى السيد يسوع المسيح آلام الجلد (لوقا 12: 47) والصلب، و

(3) لأنه أخطأ [فالمؤمن يعتقد بأنه قوي بإيمانه ويستطيع أن يبتعد عن فعل الخطأ فيحزن لضعفه إن أخطأ].

حزِن أهل قورنتس لأن القديس بولس في رسالته الأولى لهم وبّخهم وأظهر لهم ما نوع الخطيئة التي إرتكبوها فأحسّوا بها، وهنيئًا لهم لأنهم لم يتكبّروا ويُصرّوا على أن ما يفعلوه هو ليس بخطأ. هناك من الناس الآن من لا يشعرون بخطأهم ولا يحزنوا بل يتمسّكون بما يفعلوه ويقولون بأنهم قريبين من الله ومتّحدين به (مزمور 36: 1-3)، فكيف يكون هذا؟

حين نقرأ بالإنجيل المُقدّس بأن هناك فرح سماوي حين يتوب أحد الخاطئين (لوقا 15: 7)، فهذا يدل على حدوث حزنٍ بالسماء حين حدوث الخطيئة، ومن هنا أيضًا نستطيع أن نفهم لماذا قال الآب عن يسوع المسيح "هذا هو إبني الحبيب الذي عنه رضيت" (متى 3: 17)، فهو الذي أرسله الله لنا ليُعيد الخروف الضال، وقد أتم هذا العمل محبةً بالله ومجدًا له.

 

لنُصلِّ كما علّمنا الرب يسوع:

    "أبانا الذي في السّمَوات، ليتقدّس أسمكَ! ليأتِ ملكوتك! ليكنْ ما تشاء في الأرض كما في السماء! أرزقنا اليوم خُبز يومنا؛ وأعفنا مما علينا فقد أعفينا نحن أيضًا من لنا عليه؛ ولا تتركنا نتعرّض للتجربة، بل نجّنا من الشرير لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد. آمين." (متى 6: 9-13)

    أبانا الذي في السّمَوات، بإسم إبنك الحبيب، نتوجه إليك ونرجوك بأن تملأ قلوبنا بحبٍ ثابت وتفتح أُذننا لصوتك يُنادينا، فنستطيع أن نكون كالذي كُتب عنه في طيِّ الكتاب وقال: "هاءنذا آتٍ. هواي أن أعمل بمشيئتك يا الله، شريعتك في صميم أحشائي. قد بشّرتُ بالبر في الجماعة العظيمة ولم أحبس شفتيّ يا رب وأنت العليم." (مزمور 40: 8-9)