كلمة الله … عنوان كهنوتنا

كلمة الله … عنوان كهنوتنا

 

بقلم المونسنيور بيوس قاشا

        وجّه آباء سينودس الشرق الأوسط في نهاية اجتماعاتهم (10-24 تشرين الأول "أكتوبر" 2010) نداءً إلى المؤمنين، وتوصيات للثبات في الإيمان، المبني على كلمة الله ، وإلى الشركة في شهادة المحبة في مجالات الحياة بمفرداتها… وإذ نحن ننتظر صياغة "الإرشاد الرسولي" الذي سيصدر لاحقاً، والذي يُعتبر وثيقة رسمية تتضمن النتائج التي آلت إليها الدراسات السينودسية والمداولات والتوصيات… وسيكون هذا الإرشاد الرسولي- بعد أن يوقعه قداسة البابا بندكتس السادس عشر – وديعة إيمانية تُسلَّم إلى كنائس الشرق الأوسط لتفعيلها وعيشها وشرحها لمؤمني كنائسهم، ويكون بذلك ربيعاً إيمانياً ورسالة رعوية واجتماعية ورجائية… وإذ أطرق باب توصيتين مهمتين وردتا ضمن توصيات السينودس، وهي تخصّنا نحن رجال المذبح وحاملي كلمة الخلاص عبر الكتاب المقدس، وعلينا أن نعمل بكل ما وُهب لنا من النِعَم كي لا يبقى السينودس كلمات قيّمة وشعارات براقة دون أن تُقيّم أنفسَنا وتُجمّل مسيرة كهنوتنا، خوفاً من أن تكون حبراً على ورق.

        فالخوف في بلادنا الشرقية من أنفسنا كوننا نُسكت، بل غالباً ما نُطفئ أو نخمد النار الإيمانية المتأججة بحماس وبسرعة غريبة وعجيبة، ونعود إلى بدء مسارنا كما عهدناه دون تحديث أو تجديد أو تغيير، كما هو حال كثير من المؤتمرات والرسائل الهامة التي تظهر في مناسبات مختلفة، وكأننا حينما نكتب نكون قد حصدنا الغاية المرجوّة، ثم ننعس وننام، ويأتي العريس ليسألنا عن حالنا، فنكون في حيرة من أمرنا، إذ نكون قد عشنا وهماً كبيراً بل حتى أوهمنا أنفسنا، ونكتشف أننا بعيدين بالحقيقة عن الكلمة وقراءتها وعيشها.

        ففي التوصية رقم (2) جاء ما نصّه:"يشجّع آباء السينودس على المثابرة اليومية على قراءة كلمة الله والتأمل فيها… كما يشجعون أيضاً الأبرشيات على تنظيم دورات بيبلية لشرح كلمة الله والتأمل فيها".

        أما في التوصية رقم (3):"إن آباء السينودس يوصون بالعمل على وضع الكتاب المقدس بعهديه في قلب حياتنا المسيحية، وذلك من خلال التشجيع على إعلانه وقراءته والتأمل فيه وتفسيره بالإرتكاز على المسيح… كما يقترحون أن يصار على إعلان سنة بيبلية يُعَدّ لها إعداداً وافياً ومن ثم يُكرَّس أسبوع سنوي للكتاب المقدس".

        من هاتين الوصيتين نفهم جيداً أن مسيحيتنا تدعونا ورسالتنا الإيمانية تؤكد كي نمتلئ من المسيح، ونكون معه ولأجله، وأن نتأمل في دور كلمة الله في حياتنا ورسالتنا الكهنوتية، وخاصة نحن الذين حملنا عهد الوكالة الكهنوتية، ولهذا العهد يجب أن نكون أوفياء، فلا يمكن أن نحيا دعوتنا ونحن بعيدين كل البعد عن كلمة الله لتتفاعل معنا وفينا كي نوصلها إلى مؤمنينا وشعبنا نزيهة من كل عيب لنحياها ونكبر في قامتها.

        ففي خطاب البابا الإفتتاحي لسينودس الأساقفة (10/10/2010)، وفي طرح الخطوط العريضة كما هو الحال في التوصيات وخطاب البابا الختامي (24/10/2010)، فقداسته يلخّص لنا كلمة الله في كل ذلك كونها مركز حياتنا الكهنوتية، وبأن كلمة الله في الكتاب المقدس ما هي إلا المصدر الأكيد والمرجع الحقيقي لاكتشاف معنى الحضور المسيحي، ومعنى الشهادة والشركة، ومعنى حضورنا في رسالتنا الكهنوتية، إذ يقول:

        إن كلمة الله تجعلنا أن نثبت في أرضنا، وتُظهر لنا هويتنا الصادقة وأرضنا المقدسة التي تنادينا أن لا نغادرها مهما حمى الوطيس (ت 2)، كون أن كلمة الله كانت بداية للمخطط الخلاصي، وانطلقت من أور بين النهرين، فكانت الدعوة الأولى لإبراهيم… وسارت المسيرة الإلهية حتى تجسد كلمة الله في شرقنا العزيز، فكان يسوع المسيح لنا محبةً وفداءً وخلاصاً، ثم كانت الكنيسة التي حملت الرسالة بقوة الروح القدس لتواصل استمرارية عمل الخلاص.

        ففي أرضنا المشرقية التي أصبحت أرض الآباء والهيكل والأنبياء، تفهمنا الكلمة إننا خُلقنا هنا لنكون رسلاً لها، فنكتشف إرادة الله في قراءتنا لكلمة الحياة، ونفهم أن وجودنا ما هو إلا لكي نُثبت هويتَنا على أرضنا، لأننا بالمسيح أصبحنا رسالة محبة لكل إنسان، ومشروع شامل للخلاص… لذا ينبغي علينا حقاً أن نكون أهل الكتاب لإيصال رسالة الإنجيل وثقافته (ت 2).

        واليوم، قضية وجودنا وربط حضورنا بكلمة الله لهو من أكثر ألأمور خطورة وإزعاجاً وإلحاحاً وألماً، لأننا إذا لا ندرك ونؤمن بصحة الوحي وبكلمة الله، نكون بذلك قد تجاهلنا حقيقة الكتاب وتعليمه الأساسي لفهم معناه فهماً صحيحاً (خ 7)، وهذا أمر خطير. لذلك علينا أن ندرك جيداً أن المعنى الصحيح للكتاب المقدس لا يمكن أن يكون إلا عبر تفسير المسيح في الكريستولوجيا والتقليد، كون المسيح هو المفتاح الرئيس للكتاب المقدس والمفسر وموضوع التفسير. "وبدأ من موسى وجميع الأنبياء يفسر لهما جميع الكتب وما يختص به" (لوقا 27:24)… من هنا تقع على المؤمنين أن يعيشوا كلمة الحياة على ضياء الوحي وتعليم الكنيسة، وعلى رجال المذبح أن يتشبّعوا من روح الكلمة، إذ عليهم تقع مسؤولية تفسير الكتاب المقدس بالعودة والإرتكاز على المسيح الذي هو الرب… فهذه المسؤولية حمّلها إيانا آباء السينودس، أن يعمل الكهنة جاهدين في وضع الكتاب المقدس بعهديه في قلب الحياة المسيحية، وهذا ما يتطلب إستمرارية الكلمة في الحياة عبر التنشئة المستمرة دون توقف (ت 30).

        وفي هذا المضمار يعمل الكهنة على إفهام المؤمنين أن الكتاب المقدس ما هو إلا كتاب الجماعة المسيحية، وإن التقليد المتناقَل إلينا يدعونا إلى الاحتفال بكلمة الله مثل الجماعة المسيحية الأولى (ت 3)، والعمل على تجنب تفسيرات دخيلة تشوّه معنى وجود الكلمة، وكل ذلك عبر الاحتفال بالأسرار والممارسات الإيمانية (ت 30)… كما إن من واجب الكهنة الأول أن يقوم على إعلان كلمة الله، فهم يملكون موهبة خاصة لتفسير الكتاب المقدس عندما يعمدون إلى نقله، ليس وفق آرائهم الشخصية ، كما هو الحال في جمعيات عديدة ، بل وفق كلمة الله، مطبّقين حقيقة الإنجيل الأزلية في ظروف حياتهم الواقعية (ح ك خ، 4).

     ماذا تعني كلمة الله في رسالتنا الكهنوتية:

        إن كلمة الله هي أساس دعوتنا، وروح الخدمة واقع كهنوتنا، والكلمة في الكتاب رسالة إلينا من أجل اختياراتنا الحياتية في المسيرة الزمنية، كونها تساعد في مواجهة التحديات في الأوضاع الصعبة، الأمر الذي يستوجب علينا نحن الكهنة أن نعيد اكتشاف كلمة الله في الكتب المقدسة، وهي تفسر ما يدور حولنا لتقدم لنا نوراً ورجاءً ومستقبلاً من أجل حريتنا، كما تنير لنا الخيارات الحياتية، وهذا لا يتأتى إلا عبر قراءة الكتاب المقدس التأملية فردياً أو جماعياً، أو داخل أسرة أو مجموعة، مما يحدو بكل كاهن أن يشجع نفسه أولاً ثم يشجع كل أسرة من مؤمنيه أن تمتلك الكتاب المقدس، ويثابر معهم في قراءة يومية لنصوصه. كما أن يعمل الكاهن ويشجع على الإشتراك في دورات بيبلية خاصة في شرح الكتاب المقدس، والتأمل والتعمق في روحانية، وما يحمله من رسالة إلينا. وعليه أن يجعل نفسه متعطشاً _ كما المؤمنين _ إلى كلمة الله كي لا يحاولوا ري ظمأهم من معين آخر (ت 2)، كما يعمل في رعيته على إنشاء مراكز للتعليم المسيحي لتنشئة البالغين على الإيمان الحي.

        إن كلمة الله تدعو إلى الشركة بين رجالات الكنيسة، وهي توحّد الأساقفة والكهنة والمؤمنين. وإذا ما رافقت الصلاة كلمة الله يكون الإصغاء هو الشركة الأكيدة بين أبناء الكنيسة الواحدة والكنائس المختلفة، وتعمل على حمل رسالة الإنجيل ومتطلباته (خ 40) في الإبتعاد عن الأنانيات الأرضية والتخلي عنها، بل العكس على العمل للتحرر من هذه الأشواك التي تخنق كلمة الله (متى 7:13)، والسير بما يريد السينودس في إيجاد العلاقة الوثيقة بين شركة الجماعة وكلمة الله، كون الكنيسة لا تتغذى إلا بخبز الحياة على مائدة الله، كلمة الله وجسد المسيح… ولقاءنا مع كلمة الله في المسيح يسوع الحاضر في الكتاب المقدس وفي الافخارستيا، يُشركنا بجسده السري… فذلك ما هو إلا اشتراك جماعي وعمل فردي في آنٍ واحد.

        كما إن كلمة الله تدعو إلى الشهادة… قال الرب يسوع في وصيته:"اذهبوا في العالم كله، وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين" (مرقس 15:16)… هذه الوصية دعوة إلى أن يكون كل مؤمن مسيحياً شجاعاً، يحمل إعلان الإنجيل كأمانة حياتية دون خجل أو خوف. فالرب مع المؤمن، ويقويه ليعلن البشارة (2تيم 17:4)… كلنا نحمل سمة البشارة، وكلنا جُعلنا رسلاً لإنجيل المحبة والخلاص والمصالحة والسلام، وهذا يدعونا إلى أن نعي جيداً مفهوم البشارة والتبشير الجديد في الإنجيل… وهذا أيضاً ما دعا إليه آباء السينودس في العمل على الدخول في آفاق البشارة الجديدة… كما يدعونا جميعاً أن نهيئ أنفسنا _ نحن الكهنة أولاً ثم المؤمنين _ والعمل على توبة عميقة من أجل تجديد الحياة والأمانة على ضوء كلمة الله، وهذا يتطلب منا أن نجد وسائل أمينة وتقنيات حديثة لنصبح شهوداً في هذا العالم عبر تنشئة اجتماعية وعلمية، وعبر وسائل الإتصال… ولكي نكون شهوداً حقيقيين وقديسين، لا نملك غير المسيح والكلمة، علينا أن نجعل إيماننا يدفعنا إلى عمل يفوق قدراتنا المحدودة معوّلاً على هبوب الروح القدس كي لا نُفشل مشروع الله الكبير ألا وهو الفداء الأكيد الذي يشعرنا بالقيم الإنجيلية تعمل فينا حتى لو كان ما حوالينا مخيفاً.

        من هذا كله أفهم وأقول لإخوتي خَدَمَة المذبح ورفاق الإيمان: إن الكتاب المقدس، تلك الكلمة المكتوبة، ترشدنا إلى خدمة محبة الله، وتضيء لنا الطريق التي ينبغي أن نسلك فيها كونها جوهر رسالتنا الكنسية وقلب رسالتنا الخلاصية. لهذا عمل آباء السينودس على إبراز أهمية دور الكتاب المقدس، داعياً الآباء الكهنة إلى إعلانه وتفسيره، كما دعاهم أيضاً ومع المؤمنين أن يعيشوا تعاليمه ويطبقوها في حياتهم اليومية. فتجسد كلمة الآب في مشرقنا ما يعني إلا أن تاريخ محبة الله للإنسان أضحى رسالة محبة لكل إنسان. لذا يجب أن تكون لنا وتبقى لنا مصدر إلهام لشركتنا ووفائنا ورسالتنا وشهادتنا، وفي ذلك نتحول إلى أناجيل حية، بل كل واحد منا إنجيل حي، تكون كالخميرة في البيئة التي نحيا فيها، وتكون كمنبع روحي يقودنا إلى أن نفهم واجبنا ألأول ألا وهو إعلان الكلمة. فنحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى أن تكون كلمة الله أساسية في إيماننا ومسيرة تربيتنا وعنوان كهنوتنا في كنائسنا كما في بيوتنا وأماكن تعليمنا، وكفانا نهتم بالأرضيات والثرثرات هنا وهناك لا فائدة منها إلا تشويه صورة كلمة الله التي في داخلنا، ومن ثم تشويه الآخر، مدّعين أنفسنا أننا بكلامنا نربح أرضنا، ولكن الحقيقة تكمن في كلمة يسوع لمرتا:"مرتا، مرتا، الحاجة إلى أمر واحد ". ( لو 42:10).."، هذا ما يجب أن نجسده إخوتي بناءً على توصيات آبائنا الأجلاء في السينودس الشرق أوسطي… فأن نحيا الكلمة يعني أن ننسى ذواتنا وننظر إلى مستقبل الله.فالحقيقة يجب الأقرار بها أننا أبتعدنا نحن رجال المذبح كثيراً عن قراءة كلمة الله وعيشها بل أهملناها بمحض إرادتنا مدعين أنَّ لا مجال لنا لانشغالاتنا بأمور الدنيا .. ولكن اليس ذلك من مصائب الزمن. نعم، مسنقبل الله عبر وجودنا ومسيرتنا ووفائنا لكهنوتنا وأمانتنا لخدمتنا المذبحية، ولنترك جانباً دردشات الزمن وخزعبلات العولمة، وننشّط فينا روح الخدمة الرعوية، وبذلك ننشّط حياة الكنيسة وأهمية الكتاب المقدس في هاتين المسيرتين.

        واسمحوا لي أن اقولها خاتماً: نحن بحاجة إلى كلمة الله لتملك في حياتنا، كي تقوم حياتنا بدورها على تغيير مافي أنفسنا ثمّ مجتمعنا، وتكون القيامة فينا قبل أن نرى القبر الفارغ ، ولا نفتخر بما نملك بل بما نحيا عبر الايمان بكلمة الله ، ولا ندعي أننا اولادا لإبراهيم…إذا لانسمع ونفهم ونحيا كلمة الله إنها يسوع المسيح .