عظة البابا خلال الاحتفال بسر الافخارستيا في كاتدرائية القديسة مريم ملكة ألمودينا

 

مدريد، السبت 20 أغسطس 2011 (Zenit.org)

ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها الأب الأقدس صباح اليوم بعد إعلان الإنجيل المقدس خلال القداس الإلهي الذي احتفل به في كاتدرائية القديسة مريم ملكة ألمودينا بمدريد بحضور الإكليريكيين القادمين من شتى أصقاع الأرض للمشاركة في يوم الشبيبة العالمي.

***

نيافة الكاردينال رئيس أساقفة مدريد،

الإخوة الأجلاء في الأسقفية،

الكهنة والرهبان الأعزاء،

العمداء والمعدّون الأعزاء،

الإكليريكيون الأعزاء،

أيها الأحباء،

بفرح عميق أحتفل بالقداس الإلهي بحضوركم أنتم الذين تطمحون إلى أن تكونوا كهنة المسيح لخدمة الكنيسة والبشر، وأشكركم على الكلمات الطيبة التي استقبلتموني بها. اليوم، هذه الكاتدرائية المقدسة للقديسة مريم ملكة ألمودينا تشبه علية كبيرة حيث يحتفل الرب بفصحه برغبة شديدة، برفقة الذين يريدون أن يترأسوا يوماً ما أسرار الخلاص باسمه. بالنظر إليكم، ألاحظ مجدداً أن المسيح يدعو إليه تلاميذاً يافعين ليكونوا رسله، متابعين بالتالي رسالة الكنيسة وهبة الإنجيل في العالم. كإكليريكيين، تسيرون نحو هدف مقدس: استكمال الرسالة التي نالها المسيح من الآب. فبعد أن دعيتم من قبله، تبعتم صوته، وبانجذابكم بفعل نظرته المحبة، تتقدمون نحو الخدمة المقدسة. ارفعوا أنظاركم إليه: فهو بتجسده يقدم تجلي الله المطلق للعالم، وبقيامته يتمم وعده بأمانة. ارفعوا الشكر على علامة الاصطفاء هذه التي تميز كل واحد منكم.

القراءة الأولى التي سمعناها تظهر لنا المسيح كالكاهن الجديد والنهائي الذي جعل حياته ذبيحة تامة. ويمكن للازمة المزمور أن تنطبق عليه بشكل ملائم لأنه بدخوله إلى العالم يخاطب أباه قائلاً له: "هاءنذا آت […] لأعمل بمشيئتك" (مز 39: 8، 9). كان يسعى إلى إرضائه في كل الأمور، في كلماته وأعماله، عندما كان يسير على الدروب ويرحب بالخطأة. كانت حياته خدمة وموته شفاعة حاسمة، ووضع نفسه باسم الجميع أمام الآب كالمولود الأول بين عدد كبير من الإخوة. ويقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين أنه بتوكله على الله، جعلنا كاملين إلى الأبد، نحن الذين دعينا إلى المشاركة في بنوّته (عب 10، 14).

سر الافخارستيا الذي يروى لنا تأسيسه في الإنجيل الذي أعلن للتو (لو 22: 14، 20) هو التعبير الفعلي عن هبة يسوع غير المشروطة لنا جميعاً، وحتى للذين كانوا يمقتونه؛ هبة جسده ودمه لحياة البشر ومغفرة خطاياهم. الدم، علامة الحياة، أعطي لنا من قبل الله كعهد، لكي نتمكن من نقل قوة حياته حيثما يسود الموت بسبب خطيئتنا، وبالتالي لكي ندمره. جسد المسيح الممزق ودمه المسفوك، أي حريته المقدمة، تحولا بالرموز الافخارستية إلى المصدر الجديد لحرية البشر المستعادة. في المسيح، يكمن الوعد بفداء حاسم والرجاء الثابت بالخيرات الآتية. بالمسيح، نعلم أننا لا نسير نحو الهلاك، نحو صمت العدم أو الموت، بل أننا نذهب إلى أرض موعود بها، نحو من هو غايتنا ومبدأنا في آن معاً.

أيها الأحباء، أنتم تتحضرون لتكونوا رسلاً مع المسيح ومثل المسيح، لتكونوا رفقاء درب البشر وخدامهم. كيف تعاش سنوات التحضير هذه؟ بداية، يجب أن تكون سنوات صمت داخلي، وصلاة دائمة، ودراسة مستمرة، واندماج تدريجي في الأعمال والبنى الرعوية للكنيسة. الكنيسة التي هي جماعة ومؤسسة، عائلة ورسالة، إبداع المسيح بروحه القدس، وفي الوقت عينه نتاج عملنا نحن الذين نكوّنها بقداستنا وذنوبنا. هذا ما أحبه الله، هو الذي لم يتردد في جعل الفقراء والخطأة أصدقاءه وأدواته لفداء الجنس البشري. قداسة الكنيسة هي أولاً القداسة الموضوعية لشخص المسيح ذاته، لإنجيله وأسراره، قداسة القوة العلوية التي تحييها وتنعشها. يجب أن نكون قديسين لتلافي التناقض بين العلامة التي نحن عليها والواقع الذي نريد أن نعنيه.

تأملوا جيداً في سر الكنيسة هذا، بعيش سنوات تنشئتكم بفرح عميق، وبإظهار الطاعة ونفاذ البصيرة والأمانة جذرياً للإنجيل، مع بناء علاقة من المحبة مع الزمن والناس الذين تعيشون وسطهم. لا أحد يختار السياق أو الناس الذين أُرسل إليهم. لكل حقبة مشاكلها، لكن الله يعطي في كل زمن النعمة الملائمة لمواجهتها وتخطيها بمحبة وواقعية. لذلك، أياً كانت ظروف الكاهن، ومهما كانت صعوبتها، ينبغي عليه أن يعطي ثماراً بكافة أشكال الأعمال الحسنة، مع الحفاظ في قلبه على حيوية كلمات يوم سيامته التي من خلالها تم حثه على صوغ حياته بالاقتداء بسر صليب الرب.

إن الاقتداء بالمسيح، أيها الإكليريكيون الأعزاء، يعني التشبه أكثر بمن جعل نفسه لأجلنا خادماً، كاهناً وذبيحة. الاقتداء به هو في الواقع رسالة الكاهن طيلة حياته. نحن نعلم مسبقاً أنها صعبة علينا وأننا لن نتوصل أبداً إلى إنجازها بالكامل، لكننا كما يقول القديس بولس نسعى إلى الهدف الذي نرجو بلوغه (في 3: 12، 14).

لكن المسيح، الكاهن الأعظم، هو أيضاً الراعي الصالح الذي يسهر على خرافه حتى بذل حياته من أجلها (يو 10، 11). للاقتداء بالرب في هذه المسألة أيضاً، يجب أن يصبح قلبكم ناضجاً في الإكليريكية، وأن تكونوا بالكامل منفتحين على المعلم. هذا الانفتاح الذي يشكل هبة من الروح القدس يلهم قرار عيش التبتل لصالح ملكوت السماوات، التجرد عن خيرات الأرض، زهد العيش، والطاعة الصادقة من دون رياء.

اسألوه إذاً أن يمنحكم نعمة الاقتداء به في محبته للجميع، دون نبذ المهمشين والخطأة، بحيث يهتدون بمساعدتكم ويعودون إلى الطريق القويمة. اسألوه أن يعلمكم القرب من المرضى والفقراء، ببساطة وسخاء. واجهوا هذا التحدي من دون جزع أو ازدراء، بل كشكل رائع من أشكال عيش الحياة البشرية في المجانية والخدمة، كشهود الله الذي تأنس، ورسل الكرامة السامية للإنسان، وبالتالي المدافعين المطلقين عنها. بالاستناد إلى محبته، لا تخافوا من بيئة تدعي استبعاد الله، وتشكل فيها السلطة والثروة والملذات المعايير الأساسية التي تتحكم بالوجود. من الممكن أن يزدرى بكم، كما يحدث عادة مع الذين يسعون إلى أهداف أسمى أو يفضحون الأوثان التي يخر كثيرون أمامها حالياً. عندئذ، ستتجلى حياة متجذرة بعمق في المسيح كجِدة، وستجذب بقوة الذين يبحثون فعلاً عن الله، الحق والعدالة.

بإرشاد معدّيكم، افتحوا قلوبكم لنور الرب لتروا إن كانت هذه الدرب التي تتطلب الشجاعة والأصالة هي دربكم، ولا تتقدموا نحو الكهنوت إلا إذا كنتم مقتنعين بأن الله يدعوكم لتكونوا خدامه، وعازمين تماماً على ممارسة هذه الخدمة في الطاعة لأحكام الكنيسة.

بهذه الثقة، تعلموا منه هو الذي يصف نفسه بالوديع والمتواضع القلب، بالتخلي لذلك عن كل رغبة بشرية، بحيث لا تسعون إلى مصلحتكم الخاصة بل تنمون إخوتكم بأسلوب عيشكم، كما فعل شفيع الاكليرس الأبرشي الإسبانية، القديس يوحنا الأفيلي. بالتأثر بمثاله، انظروا بخاصة إلى مريم العذراء، والدة الكهنة. فهي ستصوغ قلوبكم وفقاً لمثال المسيح، ابنه الإلهي، وستعلمكم دوماً تثمين الخيرات التي نالها على الجلجلة من أجل خلاص العالم. آمين.

***

ترجمة وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2011