من أجل وثيقة إيمانية لمصرنا

(1) 

بقلم الأب رفيق جريدة مدير المكتب الصحفي للكنيسة الكاثوليكية بمصر

القاهرة، الخميس 15 سبتمبر 2011 (ZENIT.org).

ونحن على مشارف إعلان مواد أو مبادئ دستورية توافق عليها الأغلبية وتكون ملزمة للجميع ،  أدعو لاستكمال هذه المبادئ بإعلان آخر مكمل ولا يقل أهمية عن الأول وهو "إعلان مبادئ روحية" للدولة المصرية. فالمصري منذ الزمن السحيق هو إنسان مؤمن والدين يلعب دورًا محوريًا في حياته ،  كما أن الله عز وجل حاضر وموجود دائمًا للكل ،  للمسيحي كما للمسلم. فعلينا أن نعترف بأن أية محاولة لفصل الدين عن الإنسان المصري هو ضرب من الخيال ومستحيل. ولكن علينا أيضًا أن نعترف بأن البعض من هنا أو من هناك يتعصب لدينه لدرجة المغالاة وإقصاء الآخر. وهذه الأفكار لها أسبابها التاريخية والسياسية والدينية أيضًا ،  ولكنها غريبة عن المعدن الأصيل للشعب المصري. فتحت جلد كل مسلم هناك دم مسيحي وتحت جلد كل مسيحي هناك دم مسلم ،  وذلك بفعل التاريخ الطويل (1500 سنة تقريبًا) والعيش المشترك والأرض الواحدة والنيل الذي يروي الجميع. فكثير من القيم الروحية هي قيم مشتركة ولا يستطيع أن يختلف عليها اثنان ،  وهذا ما علينا أن ننظر إليه وننميه. فالمصري لن يقبل بدولة خاوية من الله على نمط بعض الدول الأوروبية ،  وفي نفس الوقت ،  لن يقبل أغلب المصريين بدولة دينية على النمط الإيراني أو السعودي. فمصر لها خصوصية خاصة ،  والمصري له طابعه الخاص الذي لن يستطيع أحد أن يلبسه ثوبًا غير ثوبه ولا إيمانًا غير إيمانه ولا قيمًا غير قيمه ولا سلوكًا غير سلوكه. فوطن مثل مصر الذي هو مهد الحضارة بل كل الحضارات ،  كان دائمًا الجسر الذي يوحد الجميع ،   الشمال بالجنوب والشرق بالغرب. وبفعل تاريخه ،  قدر له أن تكون له الريادة في المنطقة.  ولعل أكبر دليل على ذلك في تاريخنا الحديث جدًا هو ثورة 25 يناير 2011 التي يقف العالم إلى اليوم مبهورًا بها رغم كل الشوائب المتعلقة بها. فوطن يمثل هذا المخزون الحضاري والتنوع الثقافي وأيضًا هذا العدد من السكان (85 مليون نسمة و12% من السكان مسيحيون) ،  لن يعيش إلا في سلام اجتماعي وانسجام بين جميع مواطنيه.

تزدحم الساحة المصرية بتعبيرات ومصطلحات سياسية لا أعتقد أنها تعبر تمامًا عن المعنى المتداول في المجتمع المصري. على سبيل المثال تعبير "الليبرالية" ،  فهناك من يذهب بفهم هذه الكلمة على أنها الحرية المطلقة لدرجة الإباحية ،  وهذا قطعًا فهم غير صحيح. أما مصطلح "الاشتراكية" ،  فهناك من يفهم هذه الكلمة على أنها تأميم المؤسسات وسيطرة الدولة على مقدرات الأمور وأنها تعريف مستتر للشيوعية ،  وهذا أيضًا فهم غير صحيح. ثم تأتي كلمة "العلمانية" ،  فهناك من يفهمها على أنها تأميم إيمان الناس وتفريغ المجتمع من العقائد. وهناك تعبير آخر نستخدمه كثيراً في أيامنا هذه ، ألا وهو "مدنية الدولة". فهناك من يفهم هذا التعبير على أنه فصل الدين عن الدولة وألا يكون للدين أية مكانة. وتنسحب على ذلك تعبيرات أخرى مثل الرأسمالية والإسلاميين والأقباط والمحافظين الجدد وإلى آخره من التعبيرات والمصطلحات التي لا تعرف بدقة وتسبب كثيرًا من اللبس ،  وذلك للأسباب الآتية:

1.      خبرات سيئة سابقة مثل الشيوعية في الاتحاد السوفييتي القديم الذي تحول من حكم الطبقة العاملة إلى دولة قمعية يحكمها الأمن وطبقة ديكتاتورية حاكمة.

2.      التجربة الناصرية التي أممت كثيرًا من المؤسسات الرأسمالية الوطنية ،  وما نتج عن ذلك من تفكك أسر وهروب رأس المال وهجرة العقول المصرية ،  فأصبح الناس يكرهون كلمة "اشتراكية".

3.      بالنظر إلى بعض الدول التي أفرغت مجتمعها من الله ،  فأصبحت الحرية الشخصية أهم من مبادئ المجتمع وأصوله ،  فكره الكثيرون كلمتي "الليبرالية" و"العلمانية" وتعبير "مدنية الدولة".

4.      وعندما كره الناس الرأسمالية وتوحشها واستغلالها للعمال وتقديم الفتات لهم ،  مع غياب العدالة الاجتماعية لصالح رجال الأعمال والمؤسسات الكبرى التي تزداد غنى على حساب الطبقتين العاملة والمتوسطة.

5.      كذلك وجود تنوع من التعريفات داخل كل تعبير سياسي مثل "الليبرالية المحافظة" أو "العلمانية المؤمنة" (القريب من التعريف الكاثوليكي وهو أن العلماني هو الذي ليس كهنوتيًّا) ،  هذا التنوع أدى إلى لغط في المفاهيم خاصة عند الناس غير المطلعين على السياسة بالمفهوم الأكاديمي للكلمة. وإلى هنا أنا أزعم أن هذه التعبيرات قد فقدت معناها ،  وللمصري بنوع خاص لم تعد تعني له شيئًا خاصة مع ظهور تعبيرات خاصة بالمجتمع المصري بنوع خاص  و العربي بنوع عام مثل:

•       الإسلاميون: ومرة أخرى ندخل في لغط أو بلبلة. من هم الإسلاميون؟ هل هو كل مسلم من المسلمين؟ هل هم الإخوان المسلمون الذين يعبرون عن الإسلام السياسي؟ أم هم الصوفيون عدوهم اللدود؟ أم الجماعات الجهادية الإسلامية التي ترى تغيير "المنكر" بيدها فولدت الإرهاب؟ أم هم السلفيون الذين ظهروا بعد الثورة ولا أعلم أين كانوا ،  مع العلم أن كل مسلم يعتبر نفسه سلفيًّا؟ أم أن الإسلاميين هم الذين يعبرون عن الإسلام الوسطي الذي يمثله الأزهر الشريف؟ ومرة أخرى ،  ما تعريف كلمة "وسطي"؟ وما هي نقطة الوسط التي يقف عندها؟ وهل هي في التفسير أم في التطبيق أم في استنباط أحكام تنفع هذا العصر؟

•       الأقباط: من هم الأقباط؟ هل هم المصريون كلهم مسيحيين ومسلمين؟ هل الأقباط هم المسيحيون فقط؟ هل هي جماعة اثنية أم صاحبة بعض المطالب التي لم يستجب لها؟ وماذا عن الميول السياسية للأقباط؟ فمنهم من هو وفدي ومنهم من هو اشتراكي ومنهم من هو علماني وغيرها من التعريفات. وماذا عن المسيحيين الذين ليسوا أقباطا؟

(يتبع)

(2)

 مرة أخرى ،  أزعم أن هذه التعبيرات متشعبة وغير دقيقة وتسبب لغطًا كبيرًا. وأنا هنا لست في مجال بحث عن تعريفات سياسية جديدة ، حاشى ، ولكني أنطلق من مبدإٍ كلنا كمصريين نعرفه وهو أن المصري بطبيعته إنسان مؤمن وأن الدين يلعب ،  كما لعب في الماضي السحيق إلى يومنا هذا ،  دورًا مهمًا في حياة المصري. فالدين بالنسبة للمصري ليس فقط الإيمان ،  بل يشمل السلوك اليومي والعادات والتقاليد الاجتماعية. فمن الصعب فصل الدين عن الإنسان المصري ،  كما هو صعب فصل الدين عن الدولة بمعناه الفرنسي. ولكن هذا ليس معناه أني أدعو لدولة دينية ،  ولكني أدعو "لدولة مؤمنة" أي:

1.      لا تفريغ للمجتمع من "الله" الذي يعبده الجميع مسلمين ومسيحيين ويهودًا.

2.      بل ترسيخ المبادئ الروحية المشتركة في جميع الأديان ،  والتي يؤمن بها الجميع ،  حتى ننمو بمجتمعنا نموًّا صحيحًا بعيدًا عن الانغلاق والتعصب وإقصاء الآخر.

وفي الوثيقة "الإيمانية" المشتركة التي أدعو إليها ،  علينا أن نؤكد فيها على عدة مبادئ يتوافق الجميع عليها:

1.      إن صاحب السلطة في مجتمعنا المصري هو الشعب وليس الحكام من ناحية أو رجال الدين بتفاسيرهم المختلفة من ناحية أخرى. فعلينا أن نحقق هذه السيادة بل نربي المجتمع على ذلك.

2.      إن دور الدين هو لتقوية وقيادة ضمير الإنسان مع إعمال العقل وليس الاكتفاء بالنقل أو تبجيل ……….. أو التقليد ،   وبالتالي تترسخ في المجتمع القيم الأخلاقية العليا ويعمل الشعب بذاته على تحقيقها واحترامها.

3.      إعلاء قيمة الحرية والإيمان بها والوعي بدورها في تحقيق تقدم الإنسان والمجتمع المصري. والحرية الحقيقية هي في احترام حرية الآخر.

4.      إعلاء سيادة القانون ، فيكون فوق الجميع ،  والتخلص نهائيًّا من المحسوبية والأساليب العرفية (في أحداث فتنة طائفية) فالجميع أمام القانون سواسية.

5.      العمل سريعًا على توعية مجتمعنا المصري بعدم التمييز بين مواطنيه بسبب الدين أو اللون أو الجنس أو العرق أو أي تمييز آخر ،  فالجميع مواطنون مصريون متساوون أمام القانون ولهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات.

6.      على الخطاب الديني أن يكون خطابًا واعيًا يعمل على احترام عقل المتلقي وواقعه ويواكب المتغيرات الحديثة دون المساس بالعقائد الدينية.

7.      ألا تستغل منابر المساجد أو الكنائس أو المنابر الفضائية في إحداث فتنة طائفية أو في هجوم خطباء الدين على دين الآخر ،  بل العمل على ترسيخ الوحدة الوطنية بمعناها الحقيقي إذ أن الدين لله والوطن للجميع.

8.      العمل على ترسيخ القيم المشتركة والموجودة في جوهر كل دين مثل الحرية الإنسانية – حب الوطن – العدالة الاجتماعية – الضمير المهني – الالتزام الشخصي – وما إلى ذلك من المبادئ الروحية التي يحتاجها مجتمعنا.

9.      توجيه الزكاة أو العشور لأعمال خيرية وتنموية مشتركة تخدم الفقراء والفئات المهمشة والمحرومة والعمل على الارتقاء بهم .

إن هذه المبادئ قد يضاف إليها مبادئ أخرى ،  ولكن المهم أن الجميع يتوافق عليها. فاذا كانت المبادئ الدستورية هامة وعلى المجتمع أن يتوافق عليها ،  أرى أيضًا أن المبادئ الروحية والإيمانية لا تقل أهمية عن المبادئ الدستورية خاصة في هذه المرحلة المفصلية في تاريخ مصر ،  فقد نحتاج أن يتوافق عليها ممثلو الأديان والجماعات الدينية المختلفة الموجودة على أرض مصر لتكون ميثاق شرف إيماني (إذا جاز القول) لا يحيد عنه أحد حتى نستطيع أن نصل بمجتمعنا إلى بر الأمان.