المسيحية … لا تُدرك لغة الإنتقام

استعداداً للاحتفال بمرور عام على كارثة كنيسة سيدة النجاة

المونسنيور بيوس قاشا

كارثة كنيسة سيدة النجاة، مأساة حقيقية، قصمت ظهر وجودنا، وغيّرت بطاقة أحوالنا في هذا العراق الجريح. فقد أفزعتنا وملأت الخوفَ قلوبَنا، ونحن لا زلنا نعيش ذيولها وما تحمله من مآسي وضيقات وضياع، وحتى الساعة. ومن المؤسف أن تقع هذه الجريمة النكراء بقتل الأبرياء في بيت العبادة والصلاة،  وفي زمن نحن بحاجة الى نشر ثقافة المحبة والتسامح والتعايش والحوار وقبول الآخر مهما كان جنسه ولونه وفكره، وكذلك من المؤسف أن تأتي الكارثة ونحن لا زلنا نحتفل في العشرة الأولى من بدء الألفية الثالثة وفي القرن الحادي والعشرين حيث يشهد تقدماً في جميع المجالات الألكترونية والتقنية.

وأقولها مؤمناً بما يقول قداسة البابا بندكتس السادس عشر:"إن العالم سئم من الوعود الكاذبة والأجوبة الجزئية، فوضعوا الله جانباً بل همّشوه زوراً وبهتاناً باسم الحرية الشخصية والإستقلالية البشرية".

نعم، إن هذه الكارثة – كارثة كنيسة سيدة النجاة حيث دماء أُهرقت، وأرواح زُهقت، وفيها سقط العديد من أثر الرصاص الغادر من ذئاب بشرية مجرمة – هزّت الضمائر الحية، وأرجعتنا إلى زمن التخلف وشريعة الغاب، وجعلتنا نئنّ من ثقل الصليب الذي كُتِبَ باسمنا، فحملناه كَنِيرٍ ثقيل، ولا زلنا نتساءل: إلى أين نحن ماضون؟، وإلى أي إتجاه نحن سائرون؟، وهل ستبقى المسيحية تشهد لرسالة المسيح الخلاصية؟، وهل سيبقى إيماننا شاهداً لحقيقة المحبة التي بشّرنا بها الرب يسوع وحملناها عبر مسيرة حياتنا؟، وهل سنبقى أوفياء للنعمة التي مُنحناها من جرن العماذ؟… فنحن اليوم أصبحنا في سؤال من ذواتنا، من وجودنا، من كينونتنا، من مهمتنا، من حياتنا، ولا سؤال غير: لماذا؟، لماذا وحتى متى كل هذا؟، لماذا نحن حزانى، مضطَهدون، مهاجرون في داخل وطننا وخارجه، ولا نعلم أن نرسم مستقبلنا ومستقبل أجيالنا؟، فحتى عيوننا أصبحت عمياء لم تعد تفرّق بين الحقيقة والدجل، بين الغش والصراحة، بين المحبة والإنتقام، وأصبحنا نخاف حتى من ظلّنا ومن الذي يكلّمنا، ولم يعد باستطاعتنا بعدُ أن نقرأ علامات الأزمنة، ولا أن نحدّق مليّاً وجليّاً وبكل هدوء نحو غدٍ… وما يخيفنا عددنا الذي يتضاءل كل يوم، بل كل نهار وليل، وبدأ دورنا ينحسر في خسارة شبابنا ورجالنا وأزلامنا، ولا نفكر أن النهار قد أشرقت شمسه، وإن الليل قد بسط سواده، كون الضياع والإضطراب والقلق قد ملأت أفكارنا وعقولنا، فأضعنا مصيرنا بتيهنا عبر المحيطات، والوقوف أمام السفارات والأمم المتعبة، والأنكى من ذلك إننا بدأنا نشعر أن حتى أرضنا أصبحت لا تسع لنا ولسكنانا، ولم نعد نشعر إنها تحبنا كما أحببناها ولا زلنا نحبها، وإننا لا زلنا نسير نحو القمم الوعرة في حياة متلاطمة الأكوام والأطراف.

نعم، همومنا أمام عيوننا، وبلايانا في سجلات مسيرتنا كتبناها، وكل يوم نتساءل: ما هذا العذاب؟، بيوتنا بيعت، جيراننا رُحِّلُوا،، أولادنا قُتلوا وهم على مصطبة الصلاة يرفعون الدعاء وينشدون الرحمة من الرحمن الرحيم، فهل هناك أكثر من ذلك…!!.

ألسنا حملاناً سيقت للذبح كما حصل لمعلّمنا الصالح، ومع هذه الآلام – التي ما هي إلا نسيج الحياة الزمنية، ولغة ناس الدنيا، أمام كل هذه علامات الإستفهام والحيرة والضياع – أليس هناك من نعمة تدعونا بأنه لابد أن ننظر إلى فقير الصليب، حيث المسيح فاتحاً ذراعيه، يحضن الأخيار والأشرار، الصالحين والطالحين؟… أليس من واجب الإيمان أن نسجل أسماءنا في مدرسة تحت أقدام الصليب، فيوحنا ومريم نظرا إليه ولم يقولا أن كل شيء قد إنتهى، بل كان الأملُ هو قائدهما، وكان رجاؤهما بأن الذي رُفع على الصليب هو نفسه أقام لعازر من القبر (يو1:11)… هو نفسه شفى الأبرص (لو12:5)… هو نفسه فتح أعين العميان (لو35:18)… هو نفسه قال للمخلَّع:"إيمانك خلّصك، لك أقول قم إحمل سريرك" (متى6:9)… هو نفسه سمح وغفر خطيئة الزانية… هو نفسه أدخل اللص فردوس الأبرياء… هو نفسه غفر توبة بطرس… هو نفسه الذي قال:"ليكن لكم إيمان"، وبذلك قوّى وثبّت إيمان الرسل المتزعزع… هو نفسه سيتوّج كل هذه الآيات والعلامات بقيامته في اليوم الثالث منتصراً على الشر والحقد والبغض والكراهية، منتصراً على الذين بيدهم زمام أمور السلطة والحكم، منتصراً على الذين يجولون الهيكل ويُصدرون أوامرهم ويدنّسونه ويجعلون أنفسهم أبرياء، منتصراً على هيرودس الحاقد… وهو نفسه الذي قال:"إذهبوا إلى المسكونة كلها، واكرزوا بالبشارة للخليقة كلها"، وما البشارة إلا المحبة والغفران، فاحملوا الشفاء للمرضى وقولوا:"لقد اقترب ملكوت السماوات".

أمام هذين المشهدين: في الأول ضياع وبكاء وفقدان الرجاء، وفي الثاني يقودنا الإيمان إلى الثبات وحمل الرجاء في آنية من خزف… فمن الأول رسالتنا تدعونا أن نأخذ عبرة الصليب وقوته التي تُعبّرنا من فقدان الرجاء إلى الثبات فيه، كما تعبّرنا من ضياع الإيمان وفقدانه حيث ترتيلة كل شيء إنتهى إلى حالة الثبات بأن كل شيء يتجدد بروح المسيح حيث نكون مثله، إذ نحن له تلاميذ، وعلى التلميذ أن يكون مثل معلّمه (متى25:10)، فنحمل الرجاء والغفران، وما هذه إلا بطولة… وما أشجعها، بل وما أقدسها في ساحة المصير الأبدي. لذا علينا أن نتعلّم – ورغم ما قاسينا وسنقاسيه – إننا أعمدة صلدة في عمق الحياة من أجل مدّ جسور الغفران، وما ذلك إلا رسالة علّمنا إياها الطوباوي يوحنا بولس الثاني. ففي ذلك علينا أن نتجاوز أنانيتنا وكرهنا لغيرنا ولأعماله كوننا ندرك أن المسيح جاء ليشفي المرضى وليس الأصحاء (متى12:9). فإنْ كنا نحن أصحاء فتلك رسالة سماوية مُنحت لنا لكي نشفي المريض ونداوي البائس، فنزرع بذرة الرجاء، وما علينا إلا أن ننميها فتأتي بثمار وافرة لكي يأكلوا، ويمتلأوا من حقيقة إيمان تلاميذ المسيح، كما سنشارك في حمل أثقال بعضنا بعضاً ، وفي ذلك سندرك أن الصليب وحمله ما هو إلا رسالة والتزام، محبة وغفران، إذ لا تُكتَب الغلبة إلا للذين يضعون أمام أعينهم صورة المسيح المصلوب (غلا1:3)، كما لا تُكتَب الغلبة للقائد المعروف بل للجندي المجهول الذي أعطى ذاته حتى الموت… إنها الغلبة بالذات، حينما نغلب الحقد والكراهية بالمحبة والتسامح والغفران، فهو قال لنا:"أحبوا أعداءكم، وادعوا لمضطهديكم" (متى44:5).

نعم، دفعنا ثمناً باهظاً وربما لا زال الآتي أقسى وأعتى وأغلى، إنما الدعوة الحقيقية لا تكمن في الهروب والهجرة وبيع الممتلكات والتفتيش عن نعيم الدنيا، بل إنها تكمن في الحفاظ على عيش الإيمان وحب الأوطان، فيسوع ربنا سيكون لنا سمعان القيرواني، فهو سيحمل عنا أوجاعنا وأمراضنا وهمومنا ليقوينا ويجعلنا أن نخلص لحقيقة تربيتنا ومحبة وطننا ونيل حقوقنا، فالحقوق لا تصان في سجلات الأمم ومجالسها، ولا في بيانات الإستنكارات والتنديد والمسيرات والمظاهرات، فهذه قد ولّى زمانها ولن تعيد إلى الضحايا حياتهم ولا إلى الشهداء دماءَهم، بل إن حقوقنا قد نلناها أولاً بوعد ربنا يسوع إذ قال:"ستجلسون على كراسي أسباط إسرائيل الإثني عشر" ، ووعدنا بأن نرث المُلْك السماوي "تعالوا يا مباركي أبي، رثوا المُلْك المُعَدّ لكم منذ إنشاء العالم" (متى35:25)، ووعدنا بأنه يكون شاهداً لحقيقة الحدث دون خوف "قولوا الحق" (لو1:12)، ووعده لنا بقوله:"لا تخافوا… آمنوا بي" (مر40:4).

لا نخاف، فمهما طال ليل العذاب، ومهما ثقل الصليب، فالسيد الغائب آتٍ، ولن تنفعنا عندها القوة والمال والجاه والسلطة والدنيا، والأقوى هو مَن يحيا ليومه منتظراً سيده (متى48:24)، ليقيمه على أمواله (متى45:24)… فلنطرد الإحباط المعَشعَش في صدورنا، والهزيمة الساكنة في أفكارنا، والهروب المتربّع على أعناقنا، ولنحمل سلاّت المحبة والمسامحة والغفران تجاه أعدائنا ومَن وَسَموا جرائمهم بطابع أعمالهم المشينة، ولنحمل الرجاء… وهذه حقيقة إيمانية وليست نداءات بشرية دنيوية من أجل الإنتقام والحقد. فما حصل دعوة لنا كي نتقدم إلى العمق، فهناك صفاء الأفكار وبياض القلوب والغذاء الأمين لخلاص البشر أجمعين… علينا الركون إلى العقل والتحلّي بالإيمان والصبر، وأن نكثّف صلاتنا وننمي إيماننا حاملين راية الرجاء إزاء راية الغفران من أجل المسيح الحي.

فالمسيحية لا تدرك إطلاقاً لغة الإنتقام والموت والحقد، بل هي تَجَدُّد وانبعاث وعدم انتهاء، ولا يمكن أن يكون المسيحي تنيناً يحرق الآخر، ولا ينفث سمّه بعمق الكراهية في مسيرته إزاء الآخرين، بل نعمة يحمل آيات السلام والمحبة والغفران… لذا علينا جميعاً أن نعمل بحكمة الحيّات ووداعة الحَمام، فنظهر الظلم وذيوله، ونعلن الحق وراياته، كي لا تصبح مسيحيتنا مجرد هوية نحملها، وكي لا تكون صلواتنا طلبات لنا ولأجلنا ولأحبّتنا، بل لنشارك أعداءنا ومضطهدينا، كي لا نمجّد أنفسنا ونسبّح أعمالنا، بل الحقيقة تدعونا إلى تمجيد اسم الله وتسبيحه.

لتكن دماء الشهداء علامة خصب، لتكن علامة الزرع والثمرة والعرس والهناء… فشرقنا زاخر بدماء الشهداء… فنحن شعب شهيد ليس إلاّ… ولنُنشد ترانيم الحقيقة، حقيقة الرجاء الذي نحمله عبر إيماننا ومسيحيتنا حسب قول الطوباوي يوحنا بولس الثاني: "إن الله جعلنا على مرّ الأجيال في هذه البقعة من الشرق لنؤدي للمسيح شهادة حسنة، شهادة ليس لها بديل"… فإذا ما إنهزمنا نكون قد أهملنا دعوتنا، وانحرفنا عن رسالتنا، وزوّرنا الشهادة في الكثير من تصرفاتنا مع غيرنا لأجل مصالحنا… "فكل مَن أراد أن يحيا في المسيح حياة التقوى، أصابه الإضطهاد" (1 طيم 13:3)… و"إذا متنا معه حيينا معه" (2 طيم 12:2).

فليرحم الرب شهداءنا وضحايانا برحمته الواسعة، وليُحلّ أمنه وسلامه في قلوب المؤمنين، وليسكن السلام في زوايا وطننا الحبيب، ولينبذ البشر من عقولهم أنواع العنف والشر والحقد من أجل العيش بالسلام والأمان والمحبة… ولا أجمل!!!.

\"\"