كلمة البابا في أمسية الصلاة مع الشباب في معرض فرايبورغ الدولي

 

لا يهمّ المسيح المرّات التي تسقطون فيها، بل المرّات التي تعاودون فيها القيام من سقطاتكم

فرايبورغ، الاثنين 26 سبتمبر 2011 (ZENIT.org).

ننشرُ فيما يلي حديث البابا بندكتس السادس عشر الذي ألقاه هذا السبت في أمسية الصلاة مع الشباب في الساحة الخارجية لمعرض فرايبورغ الدولي.

* * *

أيّها الأصدقاء الشباب،

فكّرتُ بفرحٍ طيلة النهار بهذه الأمسية التي سأتمكّنُ فيها أن أكون معكم وأتّحد بكم في الصلاة. ربما كان بعضكم حاضرًا في اليوم العالمي للشبيبة، حيث اختبرنا جوًا خاصًّا من الهدوء والشركة العميقة والفرح الداخلي الذي يسمُ كلّ أمسية صلاة. أتمنى أن نتمكّن نحنُ أيضًا عيشَ هذه الخبرة في هذه اللحظات. فليلمسنا الرب ويجعلنا شهودًا فرحين يصلّون سويةً ويكونون ضمانًا لبعضهم البعض ليس في هذا المساء فحسب، بل خلال حياتنا كلّها.

في جميع الكنائس، وفي الكاتدرائيات والأديرة وحيثما يجتمع المؤمنون للاحتفال بالسهرة الفصحية، الأكثر قدسية من بين جميع الليالي، تُفتتح السهرة بإشعال الشمعة الفصحية التي تشعّ بنورها على جميع الحاضرين. لهيبٌ صغير يشعّ في كثيرين نورًا وينيرُ بيت الله أيضًا. في هذه الرتبة الليتورجية المدهشة، والتي قمنا بمثلها في أمسية الصلاة هذه، ينكشفُ لنا من خلال علاماتٍ أبلغُ من الكلمات، سرَّ إيماننا المسيحي. يسوع الذي يقولُ عن نفسه: "أنا نور العالم" (يوحنّا 8، 12) يجعلُ حياتنا تتألق ليتحقق ما سمعناه للتوّ في الإنجيل: "أنتم نور العالم" (متّى 5، 14). لا تحملُ جهودكم البشرية أو التطور التقني في عصرنا النورَ إلى العالم، بل علينا دومًا أن نتعلّم بأنّ عملنا من أجل عالمٍ أفضل وأكثر عدالة لابدّ وأن يلاقي بعض المحدوديات. فمعاناة الأبرياء وفي النهاية موت كلّ إنسان يخلقان ظلامًا لا يمكنُ اختراقه، ولكن يمكنُ اضاءته للحظة بخبراتٍ جديدة مثل البرق في الليل. وفي النهاية، يبقى هناك ظلامٌ مؤلم.

يمكن للظلام أن يحيط بكم، ومع ذلك نرى نورًا، لهيبًا صغيرًا أقوى من ظلامٍ قد يبدو جزئيًا قويًا أيضًا ويصعبُ التغلّب عليه. إذ يشعّ المسيحُ القائم من بين الموتى في هذا العالم، وهذا ما يفعله بصورةٍ أوضح عندما تبدو الاحكامُ الإنسانية قاتمةً وخالية من الرجاء. لقد انتصر الحيّ على الموت، ويخترقُ الإيمانُ به مثل نور صغير كلّ ما هو ظلام ومُهدِد. من يؤمنُ بيسوع لن يرى طبعًا الشمسَ في الحياة دومًا، بل سيجدُ في طريقه آلامًا وصعوبات، ولكن هناك دومًا نورٌ واضح يرشده إلى طريقٍ تقوده إلى ملء الحياة (راجع يوحنّا 10، 10). يمكنُ لأعين مَن يؤمنُ بالمسيح أن ترى النور حتّى في أحلك الليالي وأن ترى نهارًا جديدًا.

لا يبقى النورُ وحيدًا، فكلّ من حواليه يشعلون نورًا وبأشعتها تُرسم الملامح التي بإمكانها أن توجّهنا. فنحنُ لا نعيش وحيدين في العالم، بل نحتاجُ في قضايا الحياة المهمّة إلى الآخرين. ولذلك لسنا وحيدين في الإيمان، بل نحن حلقة في سلسلة المؤمنين الكبيرة. لا يصلُ أحدٌ إلى الإيمان إن لم يسنده إيمانُ الآخرين، ومن جهةٍ أخرى فأنا أساهمُ بإيماني في تثبيت الآخرين في إيمانهم، ونساعدُ بعضنا البعض لنكون نماذج أحدنا للآخر ونتقاسم مع الآخرين ما هو لنا، أفكارنا وأفعالنا ومحبتنا، ونساعدُ في إرشاد بعضنا البعض وتشخيص موقعنا في المجتمع.

أيّها الأصدقاء الأعزّاء، "أنا نور العالم – أنتم نور العالم"، يقولُ الربّ. إنّه سرٌ عظيم يقوله يسوع عن نفسه وذات الشيء عن كلّ واحد منّا، أي أن "نكون نورًا". إذا آمنا بابن الله الذي شفى المرضى وأقام الموتى، لا بل قام هو ذاته من القبر ويعيشُ حقًا، سنفهم عندها بأنّه النور ومصدر كل نور في هذا العالم. أمّا نحنُ فنختبر دومًا من جديد الفشل في جهودنا والخطا الشخصي على الرغم من النوايا الصالحة. على ما يبدو أنّ العالم الذي نعيشُ فيه وعلى الرغم من التطور التقني، لا يصبحُ في نهاية الأمر جيدًا. فلا تزال هناك الحروب والارهاب والجوع والأمراض والفقر المدقع والظلم دون رحمة. وحتّى أولئك المعتبرين في التأريخ "حاملين للنور" دون أن يكونون مستنيرين بالمسيح، النور الحقيقي الوحيد، لم يخلقوا حقًا فردوسًا أرضيًا بل دكتاتوريات وأنظمة توتالرية خنقت حتّى أصغرَ شرارةٍ للإنسانية.

عند هذه النقطة لا يجب علينا أن نتجاهل وجود الشرّ، فنحنُ نراه في أنحاءٍ عديدة من هذا العالم، وفي حياتنا ذاتها. نعم، يوجدُ في قلوبنا ذاتها الميلُ إلى الشرّ والأنانية والحسد والعداوة. ومع قليلٍ من ضبط الذات فهو إلى حدٍ ما قابل للسيطرة. ولكنه يصبحُ أكثر صعوبة مع صيغ الشرّ المخفي التي تحيطُ بنا مثل ضبابٍ شديد، وهي الكسل والابطاء في الرغبة في عمل الخير. وبصورةٍ متكررة في التأريخ، نبّه أناسٌ واعون إلى حقيقة أنّ الأضرار التي تلحقُ بالكنيسة لا تأتي من قبل معارضيها بل من المسيحيين الفاترين. كيف يمكن للمسيح إذًا القول بأنّ المسيحيين – وبهذا القول يشيرُ أيضًا إلى المسيحيين الضعفاء والفاترين غالبًا – هم نورُ العالم؟ ربما سنفهم لو صرخ: توبوا ! كونوا نورًا للعالم ! غيّروا حياتكم واجعلوها واضحة ومشعّة ! أليس علينا أن نتعجب من الربّ وهو يوجّه لنا نداءً، لا بل يقولُ إننا نور العالم ومنيرين ونشعّ في الظلمة؟

أيّها الأصدقاء الأعزاء، لا يتردد الرسول بولس في العديد من رسائله أن يدعوا معاصريه وأعضاء الجماعة المحلية "قديسين". وهنا يصبحُ واضحًا أنّ كلّ معمّد – قبل أن يستطيع القيام بأعمالٍ صالحة أو شخصية – مقدّسٌ من الله. ففي المعمودية يوقدُ الربّ، كما نقول، نورًا في حياتنا يسمّيه التعليمُ المسيحي النعمة المقدِّسة. ومن يحفظ هذا النورُ مضيئًا ويعيشُ في النعمة، فهو قدّيسٌ في الواقع.

أيّها الأصدقاء الأعزّاء، كانت صورة القديسين عرضة عدّة مرات لرسومٍ كاريكاتورية ولتقديمها بطريقةٍ مشوّهة. وكأنّه عندما يصبحُ المرء قدّيسًا فهذا يعني أن يكون بعيدًا عن الواقع وساذجًا وغير سعيد. وليس من النادر التفكيرُ بأنّ القدّيس هو مجرّد ذاك الذي يقومُ بأعمالٍ زهدية وأخلاقية على أعلى المستويات فيمكنُ بالتالي إكرامه، ولكن لا يمكنُ أبدًا التشبّه به في الحياة الخاصّة. كم هو خاطئ ومثبط للهمم هذا الرأي ! لا يوجدُ أيّ قدّيس، ما عدا العذراء مريم، لم يعرف الخطيئة ولم يقع أبدًا. أيّها الأصدقاء الأعزّاء، لا يهتمُّ المسيحُ بالمرّات التي تترنحون وتسقطون فيها في حياتكم، بل بالمرّات التي تقومون فيها من سقطاتكم، وهو لا يطلبُ منكم أمورًا خارقة بل يريدُ أن يشعّ نوره فيكم. لا يدعوكم لأنّكم صالحون وكاملون، بل لأنّه هو صالح ويريدُ أن يجعلكم أصدقاءه. نعم، أنتم نور العالم لأنّ يسوع هو نوركم. أنتم مسيحيون – ليس لأنكم تقومون بأمورٍ خاصّة أو خارقة – بل لأنّ المسيح هو حياتكم. كونوا قدّيسين لأنّ نعمته تعملُ فيكم.

أيّها الأصدقاء الأعزّاء، في هذا المساء الذي نجتمعُ فيه للصلاة حول الربّ الواحد، فلنفكر في كلمة المسيح التي بحسبها لا يمكنُ لمدينةٍ مبنية على الجبل أن تبقى مخفية. فهذا الجمعُ يشعّ بكلّ معنى الكلمة – في ضوء عددٍ لا يُحصى من اللهب، وفي إشعاع العديد من الشباب المؤمنين بالمسيح. يمكنُ للشمعة أن تعطي نورًا فقط عندما يأكلها اللهب، بينما تبقى عديمة الفائدة إذا كان شمعها لا يغذّي النار. لذلك، اسمحوا للمسيح بأن يوقدَ فيكم نار محبته، وإن كان هذا يعني أحيانًا قبول التضحية والتخلي. لا تخافوا من فقدان شيء أو البقاء بأيدٍ فارغة في نهاية المطاف. كونوا شجعان في توظيف مواهبكم في خدمة ملكوت الله لتهبوا أنفسكم – مثل شمع الشمعة – كي ينير الله بواسطتكم الظلامَ. تجرّأوا في أن تكونوا قديسين يشعّ في أعينهم وقلوبهم حبّ المسيح فيحملون بذلك النور للعالم. أنا على ثقة بأنّكم مع العديد من الشباب هنا في ألمانيا، ستكونون مشاعل رجاء لا تبقى مخفية. "أنتم نور العالم"، والله مستقبلكم. آمين

ترجمة وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2011