عام على سينودس الكنيسة في الشرق

 

بقلم الأب رفعـت بدر

الأردن، الاثنين 17 أكتوبر 2011 (ZENIT.org).

 في العاشر من أكتوبر 2011 أطفأ سينودس الكنيسة في الشرق الأوسط شمعته الأولى. و احتفل المسيحيون بعيد ميلاده الميمون، بالتزامن طبعا مع أضواء ليلية "فاخرة" في شوارع "القاهرة" ذهب ضحيّتها أكثر من 24 شهيدا جديدا من مسيحيي الشرق. و من تلك الأخبار " القاهرة" و بعيدا عن روح الخطابات الرنّانة، نتوقف و نراجع و نفكر سويا فيما حققه السينودس، و فيما تم من متابعة لتوصياته و لمقترحاته و فيما أجهض أو وجد صعوبة في التطبيق. 

    بلا شك، أن تحقيق مقترحات السينودس لا يعتمد فقط على مسيحيي الشرق المقيمين منهم في الشرق أو المغتربين، فالأمور تفاعلات و علاقات متبادلة ما بين المسيحيين أنفسهم من جهة، و ما بين المسيحيين و إخوتهم المسلمين- و اليهود- من جهة أخرى. لذلك لا نستطيع القول في حالة فشل التطبيق و تعثّر خلق "ربيع مسيحي مشرقي جديد" أنّ المسيحيين مقصّرون أو أنّ التقصير هو من جانب المسيحيين فقط. 

    نحتفل إذا بالعيد الأول للسينودس ، واضعين بعض نقاط على بعض حروف: 

    أولا : بلا شك، كانت فترة انعقاد السينودس ( من 10-24/10/2010) فترة نادرة بل فريدة في تاريخ المسيحية الشرقية. وقد لا يكتب لنا، نحن جيل اليوم، أن نعيش لحظة مماثلة. و العاطفة التي علينا القيام بها اليوم، هي عاطفة الشكر لله و لكلّ القائمين على السينودس: في مراحل التحضير و الإعداد و مراحل الانعقاد و مرحلة المتابعة.  

    ثانيا: ينتظر العالم بلهفة الوثيقة البابوية الخاصة. و هي الإرشاد الرسولي الذي يخطه قداسة البابا بعد انعقاد السينودس، و سيحمل كما تم الاقتراح عنوان: " الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط: شركة و شهادة" ، و لكن علينا أن نعرف منذ الآن أنّ الوثيقة لن تكون  عصا موسى العجائبية و لن تغيّر لوحدها شيئا. الأمور كما قلنا مجموعة تفاعلات و لا تعتمد على مخطوطات، مهما بلغت هذه من الأهمية و نالت من الإعجاب والتقدير. و إننا و فيما نحتفل بالسنة الأولى على السينودس، ننتظر مع إخوتنا في إفريقيا الإرشاد الرسولي الخاص بإفريقيا الذي سيوقعه قداسة البابا في جمهوريّة بنين الشهر المقبل.

    من جديد، هل سيكون لهذه الوثيقة "الإفريقية" مفعول السحر فتخلق عالما جديدا في القارة السوداء التي تنظر إليها الكنيسة بإعجاب بدعواتها الكهنوتية والرهبانية من جهة، وبحسرة من جهة أخرى، نظرا للقضايا البيئية و المصائب الطبيعية و البشرية التي تتعرّض لها. و من أهم تلك القضايا أنّ مجموعات كبيرة من السكان ما زالت تفتقر إلى الأمور الأساسية في الحياة كالخبز و الماء. فماذا سيكون تأثير الوثيقة البابوية الإفريقية على هؤلاء السكان؟ وهل ستزاح المشاكل البيئية والاجتماعية من هذه القارّة، بمجرّد صدور الإرشاد الرسولي ؟  

    كلا، الإرشادات الرسولية ليست سحرا ننتظر منه حلولا لمعضلات قائمة منذ مئات السنوات، لكن جلّ مطلبنا يكمن في إمكانية تحريك المياه، و في توجيه الأنظار في العالم على واقع المسيحيين في البلدان الشرق أوسطية … أو الإفريقية. 

    ثالثا: كيف تتعامل كنائس الشرق مع فترة ما بعد السينودس؟

    من جديد، لم تكن الأمور بيد المسيحيين. لقد خرجوا متفائلين ، و سلطت أجهزة الإعلام الأضواء على ما قاله المشاركون ( آباء السينودس) في مداخلاتهم وبيانهم الختامي وكذلك في المؤتمر الصحفي الختامي الذي ركزوا على دعوة السينودس "لإسرائيل" أن تتعقل، و صرّحوا بأنّهم لا يؤمنون بمقولة " أرض الميعاد ". ليس المجال هنا للتوقف عند التفاصيل. لكن سرعان ما فهم المسيحيون أنّ إسرائيل ليست سبب مشاكلهم الوحيد.

    فالتفاؤل بعد السينودس، قد وجهت له ضربة موجعة في الأسبوع التالي لاختتام السينودس، و تحديدا في قداس الأحد في كنيسة "سيّدة النجاة" في بغداد. و صار مسيحيو الشرق بين نار التفاؤل لخلق أجواء جديدة عقب السينودس (الأحد 24102010)، و نار الوحشية و الإرهاب التي تمارَس ضدّهم (الأحد 31102010) و تدفعهم إلى الهجرة عن أوطانهم – الهجرة التي سلط السينودس الضوء عليها و على أسبابها- لكنه بالطبع لم يستطِع -و لن يستطيع- أن يوقف نيرانها.

    لذلك، لا نقول بأنّ المسيحيين مسئولون عن التقاعس الذي حصل ما بعد السينودس. فقد كان لبعض مؤسساتهم وأفرادهم دور في تفعيل مقرّرات أو مقترحات السينودس. كما كان للإرهاب كلمته . و الإرهاب هنا كما تتكشف الأمور سواء في العراق أو في مصر، ليس طاهرا أو عفيفا، بمعنى انه لم يكن خاليا من أصابع السلطات الحاكمة في توجيهه أو إعطاء الأوامر له، و هذا ما زاد الأمور تعقيدا. فبعد ثورة الربيع المصري – مثلا – كان المرء يظن بأنّ المسيحيين يواجهون الإرهاب مع سلطاتهم الحاكمة، فإذا بهم يكتشفون أنّ كنيسة في الاسكندرية قد تفجّرت بعلم (لكي لا نقول بإيعاز) من النظام المخلوع، فكانوا في مواجهة السلطات و الإرهاب معا. ولم تتحسّن الأمور بعد " ثورة الربيع" فإذا به ، وبالتزامن مع الذكرى الأولى للسينودس ، ليس ربيعا وإنّما خريف وشتاء قارص، والدليل على ذلك ما حدث في ساحة ماسبيرو. 

    رابعا: سلام على السينودس و على مسيحيي الشرق إذا ؟ كلا! فقد جاءت الثورات العربية المتلاحقة، لتضع الحكام و الشعوب العربية أمام واقع جديد. و هو واقع المطالبات المشروعة للشعوب العربية بمزيد من الكرامة ( لكي لا نقول ديمقراطية و حقوق إنسان و مشاركة سياسية). و من نتائج مفاعيل هذه الثورات بإعادة التفكير و توجيه الأنظار نحو مسيحيي الشرق في التغيرات المجتمعيّة الجديدة التي تعصف في البلدان العربية و لم تتوقف إلى اليوم.

    و هنا تبرز حاجات جديدة، فبُعيد السينودس كان الحديث حول " دور المسيحيين في مجتمعاتهم " و اليوم بتنا نتحدّث عن دورهم في مجتمعاتهم "الجديدة". وهنا نميّز بين أمرين : 

    الأوّل : ما موقف المسيحيين أنفسهم بقياداتهم الدينية و بجماعاتهم المؤمنة ممّا يحصل من تغيّرات جذرية في أنظمة الحكم ( و لا نحكم هنا على هذه الأنظمة بكونها دكتاتورية أو فاسدة ) فلا نزال في طور الانتظار لأنظمة جديدة سوف تأتي و لا نعرف إن كانت اقل أو أكثر فسادا من الأنظمة المنهارة تباعا.

    لقد وضعت الثورات العربية القيادات الدينية المشرقية في مآزق حقيقية. و صارت الخطابات و البيانات باهتة. و تفتقر إلى الروح النبويّة القادرة على قول كلمة الحق ، وعلى الرجاء بالمستقبل. و هنا استعين مقالا نشرة الصديق الأب جورج مسوح في صحفية النهار اللبنانية، بعنوان : "من ينطق باسم الكنيسة"؟ ، قال فيه: "الأنبياء هم وحدهم الذين ينطقون باسم "الكنيسة"، لأنّهم يذكّرون الغافلين بمشيئة ربّها لا بمشيئتهم. أمّا سوى الأنبياء فينطق بعضهم عن الهوى والمصالح والزبائنيّة، ولكنّ بعضهم الآخر ينطق عن الخوف من الوقوع في براثن الحركات الدينيّة المتطرّفة، وعن الخشية من مصير قاتم ينتظرهم".

    فمن ناحية لا تريد القيادات الدينية أن تتهوّر و تتسرّع بإبداء امتعاضها أو معارضتها لأنظمة الحكم الحالية. خوفا من انتقام و بطش هذه الأجهزة التي لا تفتقر لأدوات القمع و كمّ الأفواه. ومن ناحية أخرى لا تريد قيادات الشرق الدينية( المسيحية) أن توسّع الهوّة – القائمة أصلا – بينها و بين شعوبها التي لا تقف مكتوفة الأيدي بل تشارك في صنع الواقع الجديد.

    والأمر الثاني ، لقد أفرزت الثورات العربية توجيه أنظار عالميا جديدا نحو مسيحيي الشرق. و صارت بعض الدول الغربية (مثل فرنسا) ترسل وفودها و رجال صحافتها للوقوف على دور المسيحيين و مستقبلهم في خضم التغيّرات السريعة التي تحصل في الشرق. لكنّ الأمور ليست واضحة، و المخاوف في ازدياد، ومسيحيّي الشرق لا يعيشون بطمأنينة وعافية . وهذا ما عبّر عنه البطريرك الماروني الجديد، و ما خلق، لا أقول توترا داخل المجتمع العربي، بل اقله تحريكا للتفكير و التكهن بمستقبل مسيحيي المنطقة في ظل أنظمة الحكم الجديدة. و هنا استعين بالأب خليل اليسوعي الذي قال في مقابلة له مع وكالة أسيا نيوز: "إنّ مسيحيي الشرق باتوا يفضلون العيش (أو البقاء) في ظل أنظمة حكم دكتاتورية قائمة، على الانتقال في وقائع حكم جديدة غير واضحة المعالم".

    كان بودّي التفاؤل أكثر في ضوء السنة الأولى على السينودس، و إزاء ما يسمّى بالربيع العربي، لكني أخط هذا الكلام صباح العاشر من أكتوبر، فيما تكتظ الصحف المحلية و العالمية بأخبار مأساوية عن أقباط مصر. مصر التي حلمت بأيام سعد و هناء بعد انهيار نظام الحكم، لكن الوقائع إلى الآن لا تبشر خيرا لا على المجتمع المصري كله و لا على مسيحيي مصر تحديدا. فالأمور ما زالت غامضة، لذلك فان أي حديث عن مستقبل مسيحيي الشرق في ظل الثورات العائمة، هو مجرّد أفكار و نظريات، وقد يحدث بين ليلة و ضحاها ما ينسفها و ما يضاعف المخاوف في قلوب مسيحيي الشرق.  

    خامسا: عودة إلى السينودس. و إضافة إلى بعض المبادرات الجيّدة ( غير الكافية طبعا) لما بعد السينودس فلم يستطع مسيحيو الشرق أن يوصلوا الرسالة إلى مجتمعاتهم: لا إلى المسيحيين من الكنائس الشقيقة و لا إلى أخوتهم في المواطنة المسلمين أو اليهود. ( وهل استطاعوا إيصال الرسالة إلى كنائسهم أصلاً ؟ هذا أيضا تساؤل مشروع بعد عام).

    المهم : هل من بقايا آمال ما زلنا نبنيها على السينودس؟

    لا للتشاؤم المطلق طبعا. فالرسالة الختامية في السينودس إلى شعب الله تعترف بالتقصير من " الآباء " تجاه " الأبناء" لكنّها تختتم بالرجاء ، الرجاء ثم الرجاء.

    بالأمس 9/10/2011 احتفلت الكنيسة بعيد إبراهيم خليل الله و أب المؤمنين، و هو الذي سار بالرجاء ضدّ الرجاء… و هو الذي يبقى القدوة و المثل لأبنائه، مسيحيين كانوا أم غيرهم… وكلهم مسئولون عن خلق أجواء أمل و أمان في القلوب أوّلا و في المجتمعات و بين شعوب المنطقة ثانيا. 

كل عام و انتم بخير،

* مدير موقع أبونا