بغداد – أبونا
تحت حراسة أمنية مشددة، أحيا المسيحيون في العراق، ومعهم مسيحيو الشرق، الذكرى السنوية الأولى لمجزرة الهجوم على كنيسة سيدة النجاة للسريان الكاثوليك، بقداس إلهي تأبيني تمازجت فيها دموع الحزن والألم بزغاريد الفرح والتصفيق.
وكانت كنيسة سيدة النجاة التي تقع في منطقة الكرادة وسط العاصمة بغداد، قد تعرضت لاقتحام من قبل مسلحين، في الحادي والثلاثين من تشرين الأول 2010 الماضي، احتجزوا خلالها عشرات الرهائن من المصلين الذين كانوا يقيمون قداس الأحد، وأسفر الاعتداء عن مقتل وإصابة ما لا يقل عن 125 شخصاً، وقد تبنى الهجوم جماعة "دولة العراق الإسلامية" التابعة لتنظيم القاعدة، مطالبة بالإفراج عن سجناء من التنظيم في العراق ومصر.
وترأس البطريرك مار أغناطيوس يوسف الثالث يونان، بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، القداس الإلهي، بمشاركة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة. فيما حضر القداس كل من الكاردينال عمانوئيل دلي الثالث، بطريرك بابل للكلدان، والبطريرك مار دنخا الرابع، بطريرك كنيسة المشرق الأشورية في العالم، والمونسنيور جورجيو لينغوا، سفير الكرسي الرسولي لدى العراق، والمطران افرام يوسف عبا، رئيس أساقفة بغداد للسريان الكاثوليك، والمطران جان بنيامين سليمان، رئيس الاساقفة اللاتين في بغداد، وعدد من الأساقفة والكهنة، من مختلف الكنائس العراقية، وشخصيات حكومية، ورجال دين من الطائفتين السنية والشيعية، إضافة إلى الراهبات وحشد من المسيحيين والمسلمين.
وتعد زيارة البطريرك الراعي، الذي وصل إلى بغداد ظهيرة يوم الاثنين، هي الأولى من نوعها لبطريرك ماروني إلى بلاد الرافدين.
هذا وبدأ القداس الإلهي بموكب يحمل صورة الكاهنين الشهيدين ثائر سعد الله ووسيم صبيح، اللذان قتلا في الكنيسة، تبعه البطاركة والأساقفة والكهنة. فيما استقبل الحضور الموكب بالتصفيق والزغاريد.
هذا وبدت آثار حادثة سيدة النجاة واضحة على جدران الكنيسة وأبوابها ونوافذها، بالرغم من مرور عام على الهجوم، بانتظار تحقيق قرارات الحكومة العراقية، بإعادة تعمير الكنيسة، على أرض الواقع.
عن موقع ابونا
وتحت عنوان "دماء الشهداء بذار للحياة"، كانت كلمة افتتاح وترحيب من راعي ابرشية بغداد للسريان الكاثوليك المطران افرام يوسف عبا، أشار فيها الى "ان استهداف المسيحيين في العراق كارثة خطيرة تصب في خانة الخطط الجهنمية وتعد تحديا سافرا لوحدة العراق وطعنا في نسيجه الاجتماعي والديني بكل مكوناته الاساسية"، مطالبا الحكومة "بالتصدي لمشروع تهجير المسيحيين من العراق".
بعد الانجيل، ألقى البطريرك يونان كلمة شكر فيها للبطريرك الراعي زيارته التاريخية، واعتبر "أن كنيسة سيدة النجاة هي الشاهد على إيمان أبنائها الصامد المتجذر في العراق، من أجل المحبة والسلام والعدالة، كأساس لا غنى عنه للمواطنة الصحيحة بين جميع مكونات الشعب المتطلع الى مستقبل مشرق".
وأضاف: "إذا كان سر الاستشهاد كامنا في بطولة من نذكرهم اليوم، ففعل الغفران من الجرحى وذوي الشهداء والشهيدات ومنا جميعا، لا بد أن يتألق في سماء أرضنا الجريحة والمبتلاة بالحقد والعنف، عنوانا لإيماننا بالذي سامح صالبيه وقام ممجدا يبشر بالسلام الحقيقي".
الراعي: وفي ختام القداس ألقى الراعي كلمة تحت عنوان "حبة الحنطة ان وقعت في الارض وماتت، اتت بثمر كثير". ومما جاء فيها: "بلغت محبة الله ذروتها عندما مات يسوع المسيح – كلمة الله- فداء عن كل إنسان في التاريخ، مقدما ذاته ذبيحة من أجلنا. وبقيامته منتصرا على الخطيئة والموت، أجرى المصالحة الكاملة بين الله والبشر وولدت البشرية الجديدة المتمثلة بالكنيسة جسد المسيح السري، وشبه هذا السر العظيم بحبة الحنطة". ومن الذين نهجوا بامتياز نهج حبة الحنطة هم شهداؤنا الاحباء السبعة والاربعون، وعلى رأسهم كاهنان، الابوان ثائر ووسيم، وقد انتقلت في ذاك اليوم منذ سنة ذبيحة يسوع من المذبح الى أجسادهم، فكانوا ذبيحة فدا عن العراق الحبيب وعن كل خطيئة وشر، ذبيحة تكفير وتشفع من أجل السلام في العراق، والعدالة والمحبة والاستقرار، وأحسنتم إذ رفعتم على ابواب الكنيسة وفي امكنة عديدة الشعار "دماء الشهداء بذار للحياة".
بتأثر كبير وبروح الشركة والمحبة، أتينا من لبنان مع صاحب الغبطة وأصحاب السيادة والوفد المرافق، باسم مجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك في لبنان ومجلس بطاركة الشرق الكاثوليك وباسم الكنيسة في لبنان لنشارك الكنيسة في العراق في هذه الذبيحة المقدسة، ونحمل رجاء كبيرا ينبعث من سر ذبيحة يسوع وموته وقيامته، أتينا لا لنؤاسي فقط بل لنجدد الرجاء، بل اقول للتطويب، جئنا لنقول بايماننا المسيحي، طوباهم شهداؤكم، وطوباكم ايها الشهداء الاحياء لان فيكم وفيهم تحققت كلمة الرب يسوع، انهم حبة الحنطة ليحيا شعب العراق الجديد حياة جديدة، مع كل الشهداء الابرار والضحايا البريئة، هذه الدماء الزكية تستصرخ ضمائرنا جميعا وضمائر المسؤولين في العراق وخارجه من أجل السلام والاستقرار والوحدة والمصالحة للانطلاق من جديد في حياة جديدة".
أضاف: "في عنصرة سينودس الشرق الاوسط، تأملنا في معنى حضورنا كمسيحيين في بلداننا في الشرق الاوسط، أن نكون مثل حبة الحنطة، ان نعطي ونبذل ونتفانى في سبيل أوطاننا ومجتمعاتنا. ووجودنا هو وجود محبة وسلام ومصالحة وعدالة واخوة وقبول للآخر المختلف، لنعيش جمال المسيحية والكنيسة. العراق يتمخض ويتألم، وشعبه يبحث عن السلام والطمأنينة، واذا بهؤلاء الشهداء يسقطون في ختام السينودس. وإذ كنت اقدم التعزية لاخي صاحب الغبطة البطريرك يونان، قلت له: طوبى لكنيستك، هنيئا لها لانها تقدم للسماء عن العراق وعن كل الشرق الاوسط اجمل ما عندها، شهداء كهنة ومؤمنين من كل الاعمار، فالرب يريد من خلال ذلك ان ينعم على العراق وعلى كنيستكم خيرا كبيرا سنعرفه وسنشهده في المستقبل… هذا ايماننا، وهو ليس بكلمات، انه كلمة تجسدت وافتدتنا على الصليب وقامت من الموت منتصرة على الخطيئة والشر، كلمة فاعلة في التاريخ".
وقال: "هذه هي الشركة والمحبة، نحملها من الكنيسة في لبنان، لنقول لكم: نحن معكم متضامنون، نحن معكم وبكم مترابطون، هذه الرسالة ايضا حملني إياها فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان الذي قبل وصولنا الى مطار بيروت اتصل هاتفيا ليقول لي: أنت ذاهب مع صاحب الغبطة ووفد لبناني الى العراق، أرجو أن تعتبروا أننا معكم نصلي، من لبنان وقولوا لشعب العراق الحبيب ان لبنان الذي اختبر الموت والقيامة هو معكم، متضامن معكم في كل شيء، وانتم تعرفون يا اهلنا الاحباء ان بين العراق ولبنان روابط محبة كبيرة، روابط اجتماعية وروحية، هذه لن تنفصم، وان شهداءنا الذين نحيي تذكارهم اليوم قد طبعوا وختموا هذه الصداقة وهذا الترابط. نحن واذ نصلي، نذكر معنا ايضا كل بلداننا في الشرق الاوسط، ومعظمها يعيش آلاما نرجو ان تكون آلام مخاض وان تكون مثل حبة حنطة تموت من أجل حياة جديدة. أجل وانطلاقا من العراق حيث انطلق كل تاريخ الخلاص من ابراهيم، ومن هذا الشرق الذي انبثقت منه الديانات والذي فيه ابن الله الكلمة اخذ جسدا وبذل جسده ودماءه فداء عن البشر وانطلقت القيامة الجديدة، آن لهذا الشرق ان يكون شرقا اي شمسا ساطعة، آن لهذا الشرق ألا يكون ارض دمار وحرب ارض حديد ونار بل ارض محبة وسلامة واخاء وطمئنينة وحضارة للشعوب. هي مسؤوليتنا ايها الاحباء. فحرام ان يكون شهداؤنا، كل الشهداء، قد بذلوا دماءهم من اجل لا شيء. بل نحن نؤمن ان دماءهم ستكون حقا بذارا لحياة جديدة. بهذه الثقة، واليد باليد والقلب مع القلب نواصل خدمتنا ورسالتنا كلنا في هذا الشرق، بكل بلداننا وطوائفنا ومذاهبنا، نحن مواطنون بنينا معا اوطاننا وتفانينا في سبيلها الى ما بلغت اليه من تقدم وترقي، كلنا مترابطون بمصير واحد ورسالة واحدة وحضور واحد. العالم بحاجة الينا العالم الذي يعيش صراع حضارات وديانات، نحن مسؤولون ان نؤدي للعالم رسالة ان الثقافات والاديان على تنوعها لا تتصارع بل تعيش وتبني فسيفساء جميلة. هذه رسالتنا نجددها اليوم، نحن نريد ان نحول كل الدموع الحزينة الى دموع فرح ورجاء ونحن نعرف ان الانسان يبكي في حالتين، عند الحزن وعند الفرح. بكيتم ما فيه الكفاية دموع حزن يا أهل الشهداء الاحباء، ويا ايها الشهداء الاحياء ويا شعب العراق الحبيب، أما الآن وفي ضوء كلمة الانجيل، وما كتبتم هنا وهنالك، حولوا هذه الدموع الى دموع فرح وقيامة".
وتابع: "أيها الرب يسوع، أنت الذي مشيت أمامنا نهج حبة الحنطة، فكنت أنت حبة الحنطة، إذ بفيض من حب الله للبشر قدمت ذاتك ذبيحة فداء وتكفير عن خطيئة كل إنسان يولد لامرأة في العالم، وبقيامتك أعطيت الحياة الجديدة للبشر، نشكرك ربي، على كل الذين يعيشون نهج حبة الحنطة، في العائلة، في المجتمع، في الكنيسة وفي الدولة، من اجل خير الاخوة. نسألك ربي ان تخرجنا من هذا اللقاء وتملأ قلوبنا رجاء عظيما وتجدد فينا العزم ان يكون كل واحد منا حيث هو، ونحن كجماعة، حبة حنطة اذا وقعت في الارض وتفانت، أعطت ثمرا كثيرا".
وفي خطوة مؤثرة، قام راعي أبرشية بغداد في نهاية الاحتفال بتقديم ملف دعوى تطويب الكاهنين الشهيدين ثائر ووسيم الى البطريرك يونان، تمهيدا لرفعه الى المراجع الكنسية المختصة.