يسوع معلّم صلواتنا

تعليم الأربعاء لقداسة البابا بندكتس السادس عشر

 

 

الفاتيكان، الاثنين 5 ديسمبر 2011 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي التعليم الذي تلاه قداسة البابا بندكتس السادس عشر في قاعة بولس السادس في الفاتيكان نهار الأربعاء 30 نوفمبر 2011.

* * *

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

في التعاليم الأخيرة تأملنا ببعض أمثلة الصلاة في العهد القديم. أود اليوم أن أبدأ النظر إلى يسوع، إلى صلاته، التي تشكل ثابتة في كل وجوده، تسير بثبات نحو هبة الذات الكاملة، بحسب مشروع حب الله الآب. يسوع هو أيضًا معلم صلواتنا، لا بل هو الركيزة الفاعلة والأخوية لكل توجه نقوم به نحو الآب. بالحقيقة، وكما يلخص عنوان من عناوين "ملخص تعليم الكنيسة الكاثوليكية"، "إن واقع الصلاة قد اعتلن وتحقق فعلاً في يسوع المسيح" (541-547). فلنوجه إليه نظرنا في التعاليم المقبلة.

إن لحظة ذات أهمية خاصة في هذه المسيرة هي الصلاة التي تلي المعمودية التي قبلها يسوع في نهر الأردن. يشير الإنجيلي لوقا إلى أن يسوع، بعد أن قَبِل المعمودية مثل كل الشعب على يد يوحنا المعمدان، دخل في حالة صلاة شخصية جدًا ومطولة: "ولما اعتمد الشعب كله واعتمد يسوع أيضا وكان يصلي، انفتحت السماء، ونزل الروح القدس عليه" (لو 3، 21 – 22). إن قيامه في الصلاة، في الحوار مع الآب، ينير ويشرح العمل الذي قام به يسوع مع كثيرين من شعبه الذين تهافتوا نحو ضفاف الأردن. فمن خلال صلاته، يهب يسوع لما فعله – للمعمودية – معنىً خاصًا وشخصي.

لقد وجه المعمدان نداءً قويًا للعيش حقًا كـ "أبناء لإبراهيم" من خلال الارتداد إلى الصلاح والقيام بأعمال تليق بهذا التغيير (راجع لو 3، 7 – 9). وقد تحرك قسم كبير من الإسرائيليين، كما يذكرنا الإنجيلي مرقس، الذي يكتب: "وكانت تخرج [إلى يوحنا] بلاد اليهودية كلها وجميع أهل أورشليم، فيعتمدون عن يده في نهر الأردن معترفين بخطاياهم" (مر 1، 5). كان المعمدان يحمل شيئًا جديدًا: كان المقصد من قبول للمعمودية أن يشكل علامة لتحول جذري ومصيري، يتمثل بترك سيرة الخطيئة وبدء حياة جديدة.

ويسوع أيضًا يقبل هذه الدعوة، ويدخل في حشد الخطأة الذين ينتظرون على ضفاف النهر. ولكن كما توارد السؤال في بال المسيحيين الأولين، كذلك يتوارد إلى ذهننا: "لماذا يقوم يسوع بهذا العمل؟ ينقل لنا الإنجيلي متّى دهشة المعمدان الذي يقول: "أنا أحتاج أن أعتمد على يدك، وأنت تأتي إليّ؟" (مت 3، 14) وجواب يسوع: " دعني الآن وما أريد، فهكذا يحسن بنا أن نتم كل بر"  (الآية 15). إن كلمة "بر" أو "عدل" في العالم الكتابي تعني قبول إرادة الله بالكامل. يبين يسوع قربه من ذلك الجزء من الشعب الذي اتبع المعمدان والذي يعترف بأنه لا يكفي أن يكون المرء ابنًا لإبراهيم، بل يتوق إلى تحقيق إرادة الله، إلى الالتزام لكيما يكون وجوده جوابًا على العهد الذي قدمه الله في إبراهيم. بنزوله في نهم الأردن دون خطيئة، يظهر يسوع تعاضده مع الذين يعترفون بخطاياهم، يختارون التوبة وتغيير الحياة؛ يفهمنا أن الاشتراك في شعب الله يعني الدخول في نظرة حياة جديدة، حياة بحسب قلب الله.

يستبق يسوع في هذه البادرة حدث الصليب، ويبدأ حياته العامة آخذًا مكان الخطأة، حاملاً على كتفه ثقل إثم البشرية بأسرها، مكملاً إرادة الآب. وإذ يستجمع نفسه مصليًا، يبين يسوع الرباط الحميم مع الآب الذي في السماوات، مختبرًا أبوته، مدركًا متطلبات حبه الجميلة، وفي حواره الحميم مع الآب يتلقى التثبيت في رسالته. في الكلمات التي تتردد في السماوات (راجع لو 3، 22) هناك إشارة مسبقة للسر الفصحي، للصليب والقيامة. الصوت الإلهي يقول في يسوع "إبني الحبيب"، مذكرًا إيانا بإسحق، ابن ابراهيم الحبيب الذي كان سيُقدّم ذبيحة، بحسب أمر الله (راجع تك 22، 1 – 14).

يسوع ليس فقط ابن داود سليل الملوكية المسيحانية، وليس فقط العبد الذي يرضى به الله، بل هو أيضًا الابن الوحيد، الحبيب، مثل إسحق، والذي يهب الآب لخلاص العالم. في اللحظة التي يعيش فيها يسوع، من خلال الصلاة، عمق بنوته وخبرة أبوة الله (راجع لو 3، 22 ب)، ينزل الروح القدس (راجع لو 3، 22 أ)، الذي يقوده في رسالته، والذي سيمنحه يسوع بعد ارتقائه على الصليب (راجع يو 1، 32 – 34؛ 7، 37 – 39)، لكيما ينير عمل الكنيسة. في الصلاة، يعيش يسوع ارتباطًا لا ينفصم بالآب محققًا بالعمق مشروع حبه لأجل البشر.

على خلفية هذه الصلاة المميزة يقوم كل وجود يسوع المعاش في عائلة مرتبطة بالعمق بتقليد شعب إسرائيل الديني. نستشفّ هذا الأمر في المراجع التي نجدها في الاناجيل: ختان يسوع (راجع لو 2، 21) وتقدمته للهيكل (راجع لو 2، 22 – 24)، كما ونرى تربيته وتنشئته في الناصرة في البيت المقدس (راجع لو 2، 39 – 40 و 2، 51 – 52). نحن بصدد "ثلاثين عامًا" تقريبًا (لو 3، 23)، وهو زمن طويل من الحياة الاعتيادية والخفية، حتى ولو تخللتها خبرات مشاركة في محطات حياة دينية جماعية، مثل الحج إلى أورشليم (راجع لو 2، 41). في سرده لخبر يسوع البالغ من العمر اثني عشر عامًا، الجالس في الهيكل مع معلمي الشريعة (راجع لو 2، 42 – 52)، يبين الإنجيلي لوقا كيف أن يسوع، الذي يصلي بعد المعمودية في الأردن، إنما يعيش عادة تمتد في الزمن من الصلاة الحميمية مع الله الآب، صلاةً تتجذر في التقاليد، في أسلوب عيشه العائلي، في خبراته المصيرية التي عاشها فيها. جواب ابن الاثني عشر حولاً لمريم ويوسف يبين تلك البنوة الإلهية، التي سيكشف عنها في ما بعد الصوتُ السماوي إثر المعمودية: "لم بحثتما عني؟ ألم تعلما أنه يجب علي أن أكون عند أبي؟" (لو 2، 49). لدى خروجه من ماء الأردن، لم يبدأ يسوع عيش الصلاة، بل تابع علاقته الدائمة الاعتيادية مع الآب؛ وهذا الاتحاد الحميمي مع الآب هو الذي يحقق العبور من الحياة الخفية في الناصرة إلى حياته وخدمته العامة.

بكل تأكيد، يأتي تعليم يسوع حول الصلاة من طريقة صلاته في العائلة، ولكن أصله العميق والجوهري هو كيانه كابن الله، أي في علاقته الفريدة مع الله الآب. يجيب ملخص تعليم الكنيسة الكاثوليكية على هذا السؤال: ممن تعلم يسوع الصلاة؟ فيقول: "إن يسوع، من ناحية قلبه البشري، قد تعلم الصلاة من أمه ومن التقليد اليهودي. إلا أن صلاته تتدفق من نبع أكثر سرية، لأنه ابن الله الأزلي الذي، في بشريته المقدسة، يوجه إلى أبيه الصلاة البنوية الكاملة" (عدد 541).

تتموضع صلاة يسوع دومًا، في السرد الإنجيلي، على تقاطع الطرق بين الانخراط في تقليد شعبه وجدة العلاقة الشخصية بالله. فـ "المكان القفر" (راجع مر 1، 35؛ لو 5، 16) الذي ينعزل فيه يسوع، "الجبل" حيث يرتقي للصلاة (راجع لو 6، 12؛ 9، 28)، "الليل" الذي يسنح له فرصة العزلة (راجع مر 1، 35؛ 6، 46 – 47؛ لو 6، 12) كلها تذكّر بمحطات في مسيرة وحي الله في العهد القديم، وتشير بالتالي إلى استمرارية مشروعه الخلاصي. ولكنها ترسم، في الوقت عينه، لحظات ذات أهمية خاصة بالنسبة ليسوع، الذي ينخرط بشكل واعٍ في هذا المشروع، أمينًا بالكامل لإرادة الآب.

يترتب علينا نحن أيضًا في صلاتنا أن نتعلم أكثر فأكثر كيفية الولوج في تاريخ الخلاص الذي يشكل يسوع قمته، وأن نجدد أمام الله قرارنا الشخصي بالانفتاح على إرادته، طالبين منه العضد لكي نطابق إرادتنا مع إرادته، فنحققها في كل حياتنا، بالطاعة لمشروع حبه بشأننا.

صلاة يسوع تلمس كل مراحل خدمته وكل أيامه. لا يردعه التعب. لا بل إن الأناجيل تبين لنا كيف أن يسوع كان يقضي في الصلاة جزءًا من الليل أيضًا. يخبرنا القديس مرقس عن إحدى هذه الليالي، التي تلي نهارًا مثقلاً بتعب تكثير الخبز فيكتب: "وأجبر تلاميذه لوقته أن يركبوا السفينة، ويتقدموه إلى الشاطئ المقابل نحو بيت صيدا، حتى يصرف الجمع. فلما صرفهم ذهب إلى الجبل ليصلي. وعند المساء، كانت السفينة في عرض البحر، وهو وحده في البر" (مر 6، 45 – 47). عندما تضحي القرارات ملحة ومعقدة، تصبح صلاة يسوع أطول وأعمق. على سبيل المثال، يشدد لوقا على قيام يسوع للصلاة طوال الليل مع اقتراب اختيار الاثني عشر: "وفي تلك الأيام ذهب إلى الجبل ليصلي، فأحيا الليل كله في الصلاة لله. ولـما طلع الصباح دعا تلاميذه، فاختار منهم اثني عشر سماهم رسلا" (لو 6، 12 – 13).

بالنظر إلى صلاة يسوع، يجب أن يتوارد إلى ذهننا السؤال: كيف أصلي أنا؟ كيف نصلي نحن؟ أي وقت أكرس للعلاقة بالله؟ هل نقوم في أيامنا هذه بتنشئة وتربية وافية على الصلاة؟ من يستطيع أن يربي على الصلاة؟

في الإرشاد الرسولي "كلمة الرب" (Verbum Domini ) تحدثت عن أهمية القراءة المصلية للكتاب المقدس. باقتطاف ما صدر عن جمعية سينودس الأساقفة، سلطت الضوء على هيكلية "القراءة الإلهية (lectio divina) المميزة. الإصغاء، التأمل، الصمت أمام الرب الذي يخاطبها، لهو فنٌ نتعلمه من خلال الممارسة المستديمة. بالطبع، الصلاة هي هبة، ولكنها هبة تتطلب منا قبولها؛ هي عمل الله، ولكنها تحتاج إلى التزام واستمرارية من قبلنا؛ الاستمراية والثبات يحتلان أهمية مرموقة. ونموذج خبرة يسوع يبين أن صلاته، التي كانت تحركها أبوة الله وشركة الروح، قد تعمقت في ممارسة مستديمة وأمينة، وصولاً إلى بستان الزيتون والصليب.

إن المسيحيين هم مدعوون اليوم لكي يكونوا شهودًا للصلاة، وذلك لأن عالمنا منغلق غالبًا على الأفق الإلهي وعلى الرجاء الذي يحمل إلى اللقاء بالله. في الصداقة العميقة مع يسوع، ومن خلال عيش العلاقة البنوية بالآب فيه ومعه، من خلال صلاتنا الأمينة والثابتة، يمكننا أن نفتح نوافذ نحو سماوات الله. لا بل إنه، من خلال السير على درب الصلاة، دون الركون للاعتبارات بشرية، يمكننا أن نساعد الآخرين على القيام بهذه المسيرة: فحتى بالنسبة للصلاة المسيحية ينطبق القول أن الدروب تنفتح من خلال المسير.

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، فلنربّ ذواتنا على علاقة عميقة بالله، على صلاة لا تكون دورية وحسب، بل مستمرة، مليئة بالثقة، قادرة على تنوير حياتنا، كما يعلمنا يسوع. ولنطلب إليه أن نستطيع أن ننقل للأشخاص الذين يعيشون بالقرب منا، إلى الأشخاص الذين نلتقي بهم في دروبنا، فرح اللقاء بالرب، نور وجودنا. شكرًا.

* * *

نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2011.