استعداداً لعيد الميلاد

 

الدكتور الأنبا يوحنا قلته

23/12/2011

 
 
1 –    تتدرج فكرة خلق المرأة ودورها ورسالتها في حياة البشر ، مع تدرج فكرة قداسة الله ، والخلاص الآتي كما أشرنا في المقالين السابقين ، بمعنى أن الوحي الإلهي في سطوره يقدم المرأة منذ اللحظة الأولى ، شريكة لآدم ، من لحمه ودمه كما عبر آدم في سفر التكوين ، مساوية له في الكرامة وإن تميزت بأنوثتها ودورها الذي لا غنى عنه لاستمرار النسل وتواصل الحياة ، صورة خلق حواء من أروع ما يمكن أن تجود به عبقرية المؤلف الأول للكتاب وهو الله القدوس ، ومن أبرع ما كتب عن المرأة في أدب البشر وقصص غرامهم وارتباطهم بها ، فالخلق يتم وآدم نائم ، أو "نعسان" إشارة إلى أنها خطة كاملة من الله لخلق حواء ، لم يكن لآدم حتى مجرد الاستشارة في ذلك  أنها "إبداع إلهي" مائة بالمئة ، وهنا يتضح سر العظمة الإلهية التي شاءت أن تأتي حواء بتخطيط وتنفيذ إلهي ، فليس للرجل فضل في وجود المرأة ، لقد كان نائماً لا يدري ما يصنع به الخالق ، أما استخراجها من جنب آدم ، فهذه لمسة إلهية تفوق إدراك العقل البشري ، أخذت منه ، تركت فراغاً في جسده لن يستوي على المستوى الطبيعي والغريزة إلا بها ومعها من دونها يظل الرجل ناقصاً "في جسده" مما يفسر من جهة عنف الغريزة الجنسية ، وإلحاح الشهوة ، وإندفاع الرجل للبحث عن ضلعه المفقود ، كما يشرح هذه الشراهة الجنسية التي قد يبتلى بها فيفقد توازنه ويصاب على مر التاريخ "بالتخمة الجنسية" بل وبالسعار الجنسي فيتسرب شر الرق والاستعباد وامتلاك السراري (جمع سرية أي التي تسري –بشد الراء) عن الرجل فيحولها إلى جارية ، أو رقماً من الأرقام ، فيسقط من عالم الإنسان إلى عالم الحيوان ويظل دوماً في ظمأ إلى المزيد (من يشرب من هذا الماء يعطش إلى الأبد) "إنجيل السامرية" ومن جهة أخرى يفسر هذا الإبداع الإلهي في خلق المرأة والرجل نعسان ، ثم يستيقظ ليجد "امرأة واحدة" بجواره فيصرخ من الانبهار هذا بعض مني ، هنا السر المقدس الذي أشار إليه المسيح ، وأكده "في البدء خلقهما رجلاً وامرأة" ومن هنا تبدو روعة المسيحية ومثاليتها في الحفاظ على ما دعاه بولس الرسول "السر الأعظم" سر الزيجة ، بين رجل واحد ، وامرأة واحدة ، هذا السر سيظل تاجاً على رأس "التعاليم المسيحية" برغم الحرب الضروس التي تشنها الشهوة ، والتمرد المدمر الذي تعلنه المذاهب ، لتحارب جوهرة من جواهر الإيمان وهي وحدانية سر الزواج ، أنه ليس شرعاً إنسانياً ، أو تنظيماً اجتماعياً بل هو نقطة انطلاق القيم الأخلاقية كافة ، لا شك في ذلك فالمسيحية لا تنافق الجسد ، ولا تضعف أمام عنفوان الرغبة ولا تكون في خدمة الغرائز ، وإنما تروضها ، وتهذبها ، وتعود بها إلى الأصل الإلهي ، وفكرة تأسيس الأسرة البشرية كما أراد لها خالقها ، والعالم في تطوره ، وتقدمه العلمي ، واتساع رقعة الثقافات والحضارات لم يجد بديلاً أصدق وأنبل وأشرف من الزواج المسيحي ، برغم كل ما يحيط به من صعاب وتذمر ، فالخالق القدوس في إبداعه "الأسرة البشرية" على أساس رجل وامرأة مدى الحياة ، كان يدرك وهو العليم الحكيم كم ستقاصي الإنسانية من عنفوان هذه الشهوة .
* * * * *
2 –    وفي خطين متوازيين كخطي قضيب القطار ، تمضي مسيرة المرأة في الكتاب المقدس لتثبيت وتأكيد الفكر الإلهي هناك نساء ضل بهن الطريق ، أصبهن الضعف والفساد مثل زوجة فوطيفار التي طاردت يوسف الصديق ، وهناك نساء أرغمهن الرجال على بيع أنفسهن نظير المنصب أو المال (زوجة اوريا الحثي وداود النبي) وزوجات سليمان ، خط واضح نقرأه في الكتاب المقدس عن هذا النوع من النساء والحكمة وراء ذلك تقول إن البعد عن وصايا الله هو دمار للإنسانية ، ودمار خاص للمرأة وللأسرة وللمجتمع .
الخط الثاني هو خط القديسات العظيمات اللواتي يفوح عطر عفتهن في أنحاء الكتاب المقدس، فبرغم الضعف البشري ، وغرق الإنسانية كافة في أتون الشهوة إلا أن القداسة لم تفقد ، وبهاء العفة متوهج بلا أدنى شك ، أوجز ذلك في قصة زكريا وأليصابات ، نموذجاً رائعاً للمرأة في العهد القديم ، وفاء حتى آخر العمر ، حنان غامر يملأ البيت بديلاً عن حنان الأولاد والبنات ، طاعة لوصايا الله حتى شهد الوحي بقوله "كانا بارين أمام الله والناس حافظين لوصاياه" تأمل قليلاً هذه الآية ، وقل معي ، برغم شراسة الشهوة ، تنبض القداسة في العهد القديم ، وبرغم قباحة سير الكثيرين ، احتفظ كثيرون أيضاً بالأمانة لوصايا الله .
* * * * *
3 –    أصل إلى نهاية المقال مضطراً ، تأمل الفتاة وأسمها مريم لم تتجاوز السادسة عشر لم يخطر ببالها إلا سؤال واحد في جراءة ، وحشمة ، وحياء ، وشجاعة ، وصفاء ضمير ، تسأل الملاك الذي بشرها : لست أعرف رجلاً ، كيف يكون لي ذلك ؟؟ هنا يصاب العقل بما يشبه الدوار ، أمام أمانة الفتاة ، إصرارها على عفتها ، تمسكها بالعهد الإلهي وبالقيم ، خوفها على نقائها ..
        انتهت بمريم العذراء مأساة "المرأة" في تاريخ البشرية ، سقطت كل الدعاوي ضدها ، التي تدعي أنها سبب السقوط من الجنة وأنها لعبة الشيطان ، وأنها كلها عورة ، وأنها في خدمة الرجل ، وكأنه مخلوق ضعيف ، وأنها ليست إلا رغبة جسدية ذلك كله مسحته مريم العذراء بقبولها تجسد الكلمة فالقدوس سيحل في كيانها ، يأخذ جسده ودمه من جسدها ودمها ، يرث طبيعته البشرية من طبيعتها ، كما يذكر بعض المؤرخين ، وجهه كان أقرب شبهاً إلى وجه أمه أعطته ملامحها ، وجمالها البسيط الهادئ ، فكان الحق كل الحق في عقيدة الكنيسة أنها المرأة التي حبل بها كباقي النساء من رجل وامرأة لكنها حفظت بنعمة خاصة ، من دنس خطيئة آدم ، لتكون المهد النقي للكلمة المتجسد ، أم النور التي لم يقرب منها ظلام ، تابوت العهد الجديد الذي حفظ فيه "كلمة الله" الشفيعة القوية .
انتهت قصة المرأة في العهد القديم …
وبدأت قصة مريم في العهد الجديد
مع الفارق أن قصة مريم هي قصتها مع أبنها ، عظمتها من أبنها ، شفاعتها مصدرها أبنها نحبها من أجل من أعطته لنا ليلة الميلاد ، ولذلك رسنها الفن القبطي دوماً مع أبنها …
ليلة الميلاد … أعظم ليلة في تاريخ الخلق
مع أعظم امرأة في مسيرة البشر
د. الأنبا يوحنا قلته