عظة البطريرك الماروني بمناسبة عيد الميلاد المجيد

 

بكركي، 25 ديسمبر 2011 (ZENIT.org).

 ننشر في ما يلي عظة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي بمناسبة عيد الميلاد المجيد، خلال القداس الذي ترأسه في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي.

* * *

 المجد لله في العلى

وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر

(لو2: 14)

فخامة الرئيس،

1. يسعدني، باسم صاحب الغبطة والنيافة الكاردينال – البطريرك مار نصرالله بطرس والسادة المطارنة والآباء، أن ارحّب بكم وباللبنانية الأولى عقيلتكم، وبسيادة السفير البابوي، وفخامة الرئيس الاسبق ودولة رئيس الحكومة الاسبق، وبأصحاب المعالي الوزراء والسادة النواب وسائر معاونيكم في الحكم والإدارة، وبهذه الوجوه الكريمة من اخوة وأخوات. أرحّب بكم مهنئاً بعيد ميلاد الرب يسوع الذي، يوم ميلاده، أنشدت ليتورجيا السماء: "المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر."وهو نشيد تردّده ليتورجيا الأرض في كنائسها كافة.

مجد وسلام ورجاء. هذا هو نداء الميلاد والرسالة الموكولة إلينا.المسيح هو مجد البشرية وسلامها ورجاؤها. وبهذا هو عطيّة الله للعالم. عطيّة اصبحت عمل الإنسان وغايته.

2. مجد الله في السماء هو الإنسان الحيّ على الأرض، المخلوق على صورة الله ومثاله. يسوع ابن الله المتأنّس، هو الإنسان الكامل في إنسانيته، الذي بتأنّسه، وبموته فدىً عن البشر، وبقيامته لتبريرهم ونقلهم الى حياة جديدة، تمّم تصميم الله الخلاصي الشامل للبشرية جمعاء، وحقّق مجد الله. وأتته الشهادة من علُ، يوم معموديته في نهر الأردن على يد يوحنا، ويوم تجلّيه على جبل طابور بأبهى الوهيّته: هذا هو ابني الحبيب، الذي عنه رضيت، فله اسمعوا" (متى 3: 17).

بلغ خبر ميلاده رعاة بيت لحم الفقراء البسطاء بلسان الملاك: "أبشّركم بفرح عظيم، يكون للعالم كلّه: لقد وُلد لكم المخلّص، هو المسيح الرب" (لو2: 11). فصدّقوا وأسرعوا الى حيث وُلد، وآمنوا وأخبروا، وسجدوا وقدّموا له هداياهم. وبلغ خبره مجوس المشرق الأغنياء العلماء من خلال نجم ظهر في سماء بلاد فارس، فقرأوا فيه ميلاد ملك الأزمنة الجديدة. صدّقوا ومشوا على هدي النجم حتى بيت لحم، فرأوا وآمنوا وسجدوا وأخبروا وقدّموا له هدايا ثلاثاً نبوية: الذهبلمن هو الملك، والمرّالحنوط لمن هو الفادي، واللبان-البخور لمن هو النبي. وبهذا شكّلوا مع يوسف ومريم والطفل يسوع ليتورجيا الأرض، أي الإحتفال بعمل الله الخلاصي. ونحن هنا اليوم نواصل هذه الليتورجيا، كما سوانا في كلّ كنائس الأرض. نرجو أن يكون لقاؤنا بالمسيح، لقاء إيمان وتجدّد في الرؤية والعيش والمسلك، مثل الرعاة والمجوس. لا مجرّد ذكرى.

المسيح الإنسان هو مجد الله. كلّ إنسان حيّمدعو ليحقّق ذاته قيمة مضافة بكل أبعادها الروحية والمادية، الثقافية والاجتماعية، الاقتصادية والوطنية، فيكون مجد الله. الإنسان، كلّ إنسان، هو غاية الخلق، وبالتالي غاية الدولة ومؤسساتها. ولهذا، تفرض السلطة العامة على الذين يتولّونها مسؤولية ممارسة سلطتهم ضمن حدود القطاع الأخلاقي الذي رتّبه الله، وعلى أساس احترام الشخص البشري بحدّ ذاته وفي دعوته وحقوقه الاساسية وحرياته الطبيعية، مع حمايتها والدفاع عنها، فيتمكّن من تحقيق ذاته كقيمة مضافة لعائلته ومجتمعه ووطنه. ومن واجب الكنيسة والدولة الإهتمام بتربية طلاّبنا فيالمدرسة الخاصة والرسمية، وإعداد كل واحد منهم ليكون قيمة مضافة، كمواطن مستنير وملتزم، صاحب حسّ وطني راسخ، وذي بُعد إجتماعي منفتح، وإيمان بالله والقيم راسخ.

3. المسيح سلامنا الحقيقي، وسلام الشعوب(أف 2: 14)وأمير السلام(أش 9: 5). بميلاده وُلد السلام في العالم. فبه وبصليبه صالح الله العالم، وهدم كل الاسوار التي تفصل بين الناس(أف 14:2-18). السلام هو من مفاعيل المحبة التي "تعذر كل شيء، وتصدّق كل شيء وترجو كل شيء، وتحتمل كل شيء" (1 كور 1:13-13).

السلام عطيّة من الله نقبلها،لكنّها عملٌ نبنيه كل يوم، فنكون صانعي السلام، وفقاً لإنجيل التطويبات:" طوبى لفاعلي السلام، فإنهم أبناء الله يُدعون" (متى 9:5). نكون صانعي السلام عندما نحيي فينا الحنان والتضامن والتعاون والأخوّة؛ وعندما نوقظ ضمائرنا وسائر الضمائر على أن نكون فاعلين وسط الجماعة؛ وعندما نعمل على إنماء الإنسان والمجتمع، ونحسن توزيع الثروة الوطنية؛ وعندما نعزّز الحياة الإقتصادية والمعيشيّة، ونواجه آفة الفقر، فندعم النشاط الانتاجي الصناعي والزراعي والسياحي، ونعدّل النظام الضريبي، ونحدّ من الفساد؛ وعندما نحلّ النزاعات ونجري المصالحات. إنّنا، بحكم إيماننا المسيحي، ملتزمون بقضية السلام القائم على احترام كرامة الشخص البشري وحقوقه، وبالعمل على إزالة ما يعرِّض السلام للخطر، مثل العنف، والحرب، والإعتداء على الحياة البشرية والتعذيب والإرهاب والاعتقالات التعسّفية، والاتّهامات المُغرِضة والتخوينات والنعرات من أي نوع كانت. فمن واجب الدولة المؤتمنة وحدها على أمن المواطنين والسلام في البلاد أن تجمع السلاح وتحصره بالقوى الشرعية اللبنانية، فتكون بيروت وكل لبنان منزوعي السلاح. وعلى الدولة ان تُخضع كل المهام الدفاعية والامنية لقرار السلطة السياسية دون سواها، وتعزّز الثقة بقواها المسلّحة (شرعة العمل السياسي، ص 37/2). 

والسلام ثمرة العدالة(اشعيا 17:32). سلام الجميع يولد من العدالة لكل واحد. ما من أحد يستطيع أن يوقف العدالة، أو يعطِّلها بالوعيد والتهديد، أو يسيّسها لغايات شخصية أو فئوية، مهما كانت مسؤوليته أو سلطته أو نفوذه. فالعدالة تحدّدها هوية الكائن البشري العميقة، المخلوق على صورة الله، والذي من أجله وجد كل شيء، ولاسيما العدالة والقضاء، المحكمة والقضاة. ولذلك يجب أن تنعم السلطة القضائية بالإستقلالية التامة، وتُؤَمَّن لها الحصانة والحماية، وتُحترم أصول التقاضي الضامنة لإعطاء كل ذي حق حقه، والقادرة على وضع حدّ للظلم والإستضعاف والإجرام. إنّنا نتطلّع إلى عدالة عندنا ومحاكم يزيّنها قضاة مميَّزون بالشجاعة والنزاهة والتجرّد والكرامة.

إن مفهوم العدالة متأصل في جذور تسمو على شؤون الأرض، وتنفتح على أفق المحبة والمشاعر الإنسانية والرحمة والإنصاف. فمدينة الأرض لا تتألف فقط من علاقات حقوق وواجبات، بل وبخاصة من علاقات المجّانية والتّفهم والإستيعاب والشركة. إن كل هذه القيم، تعكس محبة الله، وتعطي دفعاً روحياً وخلاصياً للنشاط القضائي، ولكل التزام من أجل العدالة في العالم. بهذا المعنى أعطيت "الطوبى للجياع والعطاش الى العدالة، لأنهم يُشبعون"(متى 6:5). وفي الحقيقة سيُشبعون من السلام الداخلي الآتي من علاقتهم السليمة مع الله والذات، ومع الإخوة والأخوات الذين يمارسون تجاههم مثل هذه العدالة. ولأن قدرة القانون والعدالة تتأصّل في طبيعة الإنسان وفي العلاقة العميقة التي تجمع بين الناس، فإن مبدأها هو  "الإنسان أخ للإنسان". بينما منطق العنف الغرائزي يطلق مبدأ : " الإنسان ذئب للإنسان". فلا بدّ من جمع شمل اللبنانين وإصدار قانون يمنح العفو عن الذين منهم اضطرّتهم الظروف القاهرة المعروفة بنتيجة الإحتلال الإسرائيلي المشؤوم، اللجوء أو الفرار الى إسرائيل قسراً وقهراً وخوفاً.

4. المسيح رجاؤنا.هذا الرجاء وُلد في قلوب البشر يوم مولد أمير السلام الغني بالرحمة والعدل، يسوع المسيح. وبات من واجب الكنيسة والمسؤولين في المجتمع والدولة زرع الرجاء في القلوب بقول الحقيقة، وعيش المحبة، وتوطيد العدالة، وإحياء التضامن بين جميع المواطنين، والإلتزام بتطوير المجتمع إلى ما هو أفضل. صحيح القول أن المستقبل هو في أيدي الذين يزرعون الرجاء في النفوس، ولا سيما لدى شبيبتنا التي هي ثروة البلاد الكبرى، والقوة التجددية في المجتمع والكنيسة. فلا بدّ من أن نلتزم كلنا بفتح أبواب الرجاء أمام شبابنا بمستقبل أفضل وبتحولات ممكنة. عالم الشباب يقتضي منا اهتماماً خاصاً، قبولاً له وتقييماً، يمكّنهم من النظر الى المستقبل برجاء ثابت. حقّهم عليناتأمين ثقافة ملائمة ليجدوا فرص العمل في وطنهم، ويبنوا مستقبلهم، ويؤسسوا عائلة، ويلعبوا دورهم في الحياة الإجتماعية والوطنية بمسؤولية واعية وفاعلة. إن الكنيسة من جهتهاتنظر إليهم برجاء وأمل، تثق بهم، تقف إلى جانبهم، وتشجعهم على البحث عن الحق والعدل، وعلى الإلتزام بالمصالحة والسلام، وعلى تحقيق الأمور الجديدة.

   فخامة الرئيس،

5.الميلاد هو عيد العائلة الصغيرة، وعيد العائلة اللبنانية في لبنان وبلدان الإنتشار. إننا نتطلّع إليكم وإلى الحكومة والمجلس النيابي راجين إقرار الوسائل الكفيلة بجمع العائلة اللبنانية المقيمة على أرض الوطن والمنتشرة تحت كل سماء، ولا سيما قانون استعادة الجنسية اللبنانية، وتسهيل معاملات الزيجات والولادات في قيود النفوس، وإشراك المنتشرين في الإنتخابات النيابية، والإستعانة بقدراتهم وتوظيفها، وتوطيد الروابط معهم، وتثمير طاقاتهم

 في مشاريع انمائية تحدّ من نزيف الهجرة.

 هذه كلّها أمانينا في عيد الميلاد المجيد، والسنة الجديدة 2012، نودعها المسيح الرب، راجين أن نكون بدورنا مجد الله على الأرض، وصانعي سلام، وزارعي رجاء. بنعمة الثالوث الأقدس الآب والإبن والروح القدس، له المجد والتسبيح الآن وإلى الأبد، آمين.