إسبوع الآلام – هل كان آلامًا فقط؟

 

   بقلم نيران إسكندر

يبدأ إسبوع الآلام في الطقس الكنسي يوم الأحد "أحد الشعانين" لينتهي باليوم السابع "سبت النور" والذي بإنقضائه تحتفل الكنيسة بـ"القيامة – عيد الفصح".

   وإن تأملنا بالأيام الستة التي سبقت عيد الفصح في عهد الرب يسوع لوجدنا أن الإنجليين الأربعة ساهموا في معرفة ما حدث خلال هذه الأيام ولا يمكن أن نعرف ما حدث خلالها من كاتب واحد فقط، وجميع ما كُتب عبارة عن سلسلة أحداث لكلٍ منها أهمية كبيرة لا يجوز أن يُخلط فيما بينها أو أن يُعتقد أن أحد الكتبة قد أخطأ. ولعل القديسين لوقا ويوحنا الإنجيليين هما مَن أوضحا مجتمعين أن تسلسل الأحداث كانت خلال ستة أيام وإن لم يذكراها كلّها كلٍ على حدة. وعلى الرغم مِن أن القديسين متى ومرقس الإنجيليَيْن لم يذكرا بأن الفترة هي ستة أيام إلا أن سرد الأحداث المطابقة لإنجيل لوقا تؤكد ذلك.

  تبدأ مسيرة الرب يسوع إلى أورشليم منذ أن خرج مِن أريحا إلى أن وصل إلى المنحدر الشرقي من جبل الزيتون (خارج مدينة أورشليم) حيث تقع قريتي بيت عنيا1 وبيت فاجي ويفصل بينهما وبين أورشليم وادي قدرون؛ علمًا بأن بيت فاجي أقرب من بيت عنيا لأورشليم، وبيت عنيا تبعد نحو 3 كلم من أورشليم (يوحنا 11: 18). كان الرب يسوع كأي حاجٍ مِن خارج أورشليم يسكن في بيت عنيا ويذهب باكرًا إلى الهيكل بأورشليم ثم يعود مرة أخرى إليها في المساء ليتناول العشاء والمبيت هناك إلى أن تَكمل أيام التطهير والعيد (لوقا 21: 37، يوحنا 11: 55). يبدأ كل من إنجيل متى ومرقس ولوقا حين دخل الرب يسوع للمرة الأولى خلال الستة أيام هذه لأورشليم راكبًا الأتان والجحش اللذان أخذهما مِن بيت فاجي كملك كما تنبأ النبي زكريا (متى 21: 1-11، مرقس 11: 1-10، لوقا 19: 29-40، زكريا 9: 9-10)، أما القديس يوحنا الإنجيلي فبدأها مِن الليلة الأولى التي وصل فيها لبيت عنيا، قبل الفصح بستة أيام، وتعشّى هناك مع تلاميذه (يوحنا 12: 1-2) وبات فيها قبل أن ينطلق في اليوم التالي لبيت فاجي ويأخذ الأتان والجحش ليدخل بهما أورشليم (يوحنا 12: 12-15) فالهيكل ويجول طرفه في كلّ شيء فيه ثم يعود إلى بيت عنيا للمبيت لأن المساء كان قد أقبل (مرقس 11:11).         

   تبدأ أحداث الستة أيام قبل الفصح في الليلة التي دهنت بها مريم [أخت ليعازر الذي أقامه الرب يسوع من بين الأموات] رجلي الرب يسوع بطيبٍ غالي الثمن أثناء عشائه في بيت لم يذكر الإنجيل من هو صاحبه.    

   مريم تدهن رجلَيَّ يسوع!! في ذلك العهد وفي كلّ العهود ليس من الطبيعي أن تدهن إمراة رجلَيَّ رجلاً أمام أناس وفي بيت هي وأخيها وآخرون مدعوون فيه للعشاء [بل كان الرجال يفعلون ذلك لمن يزورهم إن لم يكتفوا بتقديم الماء لهم، كما كانوا أيضًا يدهنون الرأس بزيت مُعطّر (لوقا 7: 44-46)] وتمسحهما بشعرها وخاصة هي ليست زوجته أو أخته بل أمام الناس هو صديق أخاها. هي لا تعرف بأمر موته الوشيك الذي كان يعرفه الرب لذا إعتبر عملها تكفينًا له؛ أم تُرى هل إعتبرهم الرب يسوع مِن تلاميذه فأنبأهم عن موته كما أنبأ تلاميذه؟ هل كانت تعلم؟ للبعض قد يبدو الأمر بأن غسل الأرجل هو بمثابة رد الجميل الذي فعله معهم الرب يسوع حين أقام أخاها من الموت وأعاد له الحياة، أما بالنسبة لها فهي إنتهزت فرصة قدوم الله المتجسّد ["المسيح إبن الله الآتي إلى العالم" الذي عرفته وأحبته ورأته بقلبها حين أقام أخاها من الأموات (يوحنا 11: 1-45)] لقريتها مرة أخرى وأرادت أن تُريحه من تعب الطريق كما إستقبل إبراهيم الرجال الثلاثة فعرف بقلبه أنهم الرب فقدّم لهم الماء ليغسلوا أرجلهم وأجلسهم تحت الشجرة ليستريحوا ووضع أمامهم الطعام ليأكلوا (التكوين 18: 1-8). أرادت مريم أن تُريح الرب يسوع مِن عناء رحلته مِن مكان سكنه إلى أورشليم وأيضًا رحلاته المتكررة لأورشليم إلى أن يتم العيد. وبهذه الأيام علمت مريم بأن عليها أن تخدمه لأن عمّا قريب سيخدمها ويخدم العالم أجمع، وخِدمتها هذه هي لتساعده فيما بعد على تحمّل مشاق الطريق المؤدية إلى الجلجلة، خدمتها هي بمثابة خدمة سمعان القيرواني الذي حمل الصليب لفترة مؤقتة عن الرب يسوع. لم يحظى أحد بغسل أرجل الرب وهو الذي غسل أرجل التلاميذ وأرجلنا سوى أمه مريم حين كان طفلاً [أمرًا بديهيًا] والمرأة الخاطئة التي دخلت بيت سمعان الفرّيسي بمنطقة الجليل والتي ندمت على خطئها بالبكاء وأرادت التوبة فغفر لها فخلّصها إيمانها به (لوقا 7: 37-50).

   في الفترة ما بين اليوم الرابع قبل الفصح إلى اليوم الثاني قبل الفصح [أي فترة ثلاثة أيام] قضاها الرب يسوع من باكر الصباح إلى المساء في الهيكل ناقش فيها (1) عظماء الكهنة والكتبة والشيوخ [عن سلطانه]، (2) الصدوقيين [عن قيامة الأموات]، (3) الفريسيِّين والهيرودسيِّين [عن وصايا الله ووصايا الحاكم] فأفحمهم جميعًا، وأخبر تلاميذه عن رياء الكتبة والفريسيِّين وعن خراب أورشليم. إبتدأ اليوم الخامس قبل العيد بالدخول إلى أورشليم وطرد الباعة مِن الهيكل مِن غيرته على بيت أبيه "بيت صلاة"، فالرجوع إلى خارج المدينة إلى بيت عنيا (متى 21: 1-17)، ثم في اليوم الرابع قبل العيد جاء الرب يسوع إلى الهيكل وأيضًا طرد الباعة وعلّم في الهيكل، وإستمر التعليم في اليوم الثالث واليوم الثاني قبل العيد. وفي مساء اليوم الثاني قبل العيد وحين وصل جبل الزيتون قبل وصوله إلى بيت عنيا للعشاء فيها إنفرد الرب يسوع مع بطرس ويعقوب ويوحنا وإندراوس وأشرح لهم ما قاله عن خراب أورشليم وعن مجيئه الثاني ووجوب الثبات بالإيمان به. ما أشبه هذه الأيام الثلاثة بفترة الثلاث أيام التي قضاها الرب يسوع في الهيكل جالسًا بين المعلّمين يسألهم ويُحيبهم حين كان من العمر إثنتي عشرة سنة في عيد الفصح وإن كان نتيجة المناقشة حينها إعجاب المُعلمين بذكائه وأما الآن فهم توّاقون لقتله (لوقا 2: 41-50)!!

   وفي ذلك المساء [اليوم الثاني قبل العيد، لم يكن يوم الفطير الذي يُذبح فيه حمل الفصح قد جاء بعد] تعشّى الرب يسوع مع تلاميذه في بيت سمعان الأبرص ببيت عنيا وجاءت إمرأة، قد تكون سمعت بما فعلته مريم قبل أربعة أيام فأرادت أن تفعل مثلها حبًّا بيسوع، ولعلها فهمت دون الآخرين ما قاله الرب يسوع بأن ما فعلته مريم هو لأجل دفنه فأرادت أن تُطيِّب جسده كلّه مِن أعلى الرأس وليس فقط رجليه لتُكمل تطييب جسده سلفًا للدفن كما خبّر الرب يسوع لأنه يعلم ما في القلوب (مرقس 14: 1-8). وإن تمعنّا قليلاً لما حدث وبما قاله الربّ يسوع: (1) عن تطييبه للمرة الثانية وهو العالِم بأن جسده سوف يُطيّب قبل دفنه مِن قِبل نيقوديمس ويوسف الرّامي (يوحنا 19: 38-40)، و (2) عن "البشارة" التي سوف تُعلن للعالم كلّه (مرقس 14: 9)، لَعَلِمْنا بأنه أراد أن يُخبِّر كل مَن كان مِن حوله ليس فقط بأن موته وشيك بل بأن يفْتَكِروا بعد موته بكلّ كلمة قالها لهم أثناء حياته وليُدركوا بأنه ليس فقط نبي و"مسيح الله: نعمة الله" بل هو أيضًا "كلمة الله المتجسدة: الآتي بإسم الرب: الحق" وإن لم يعرفوه هكذا في حينها، وهذا ما أدركه وسجّله القديس يوحنا الإنجيلي الّذي أحبه الرب يسوع كثيرًا (يوحنا 21: 20-24؛ 1: 1-18). وهذه الكلمات لم يوجهها الرب يسوع لمن حواليه في ذلك الزمان فقط بل لكل الأشخاص وفي كلّ العصور مِن بعده ليُدركوا رسالته فمحبة الله لهم، وليُدركوا واجباتهم نحو جسدهم المُتمثّل بذاتهم فيُنقّوه ويجعلوه يعبق برائحة زكيّة أمام الله، فالمؤمن بالمسيح يُدرك بأنه عضو في جسد المسيح.

   وفي تلك الليلة، ذهب يهوذا الإسخريوطي إلى عظماء الكهنة ليتّفق معهم على تسليم يسوع إليهم (مرقس 14: 10-11، لوقا 22: 1-6).  

   وجاء أول يوم مِن الفطير وقبل الإحتفال بعيد الفصح أكل الرب يسوع الفصح مع تلاميذه في المدينة [أورشليم] مساءً وحينها رسم الرب يسوع سرّ الإفخارستيا (متى 26: 26-28، مرقس 14: 22-24، لوقا 22: 7-21)، وأثناء العشاء وقع بين التلاميذ جدال في مَن يُعد أكبرهم فشرح لهم الرب يسوع معنى الخدمة (لوقا 22: 24-25)، ولعلّه أراد أن يوضح لهم ذلك بغسل أرجل التلاميذ (يوحنا 13: 1-12) وكأنه يقول لهم ولكل من أراد أن يكون تلميذًا للرب يسوع: "لا تعطوا الماء للناس ليغسلوا أرجلهم بأنفسهم" [والماء هنا هو كلمة الله]، "بل إتعبوا أنتم مثلما تعبت أنا معكم، وإغسلوا بهذه الكلمة أرجل الآخرين".   

   لو تأملنا بأحداث هذه الأيام وما يليها من القبض على الرب يسوع ومحاكمته وصلبه، لإستطعنا أن نتخيّل مقدار التعب الجسدي والإرهاق والألم النفسي والجسدي الظاهر والمخفي الّذي أحس به الرب يسوع وقاساه من أجل خلاصنا محبةً بنا، ولعل أسوء ما قاساه هو ألم خيانة تلميذه يهوذا له.

   مريم غسلت رجلَيَّ الرب يسوع في بيت لم يُذكر إسم صاحبه ولكن ذُكِر أن "البيت عبق بالطيب" فالبيت الّذي كان يعرف الله بأجمعه وإتّكل عليه لنجاته مِن الشرّير هو بيت إسرائيل (أشعيا 49: 1-6، مزمور 71)، وبالتالي فمريم تُمثِّل بني إسرائيل "اليهود" المعروفين لدى الله بكافة الأسباط الإثني عشر فهي معروفة بالإسم، أما المرأة الأخرى التي دهنت رأس الرب يسوع بالطيب الغالي ببيت سمعان الأبرص، وبعملها هذا قالت له "أنا عروستك، أنا هي مَن وضعت إكليل العرس عليكَ وأنت هو مَن إخترتُهُ لتكون لي عريسًا"، فهي لا تُمثِّل أُناس معروفين إذ أن إسمها لم يُذكر وإنما صاحب البيت هو إنسان كان أبرص معزولاً عن أهله وعن ممارسة أي طقوس دينية وشفاه الرب يسوع وأعاد له الحياة مع الجماعة، ولذا فهي بذلك تُمثِّل العالم أجمع الذي كان مريضًا بسبب الخطيئة وشفاه الرب يسوع: "اليهود والأمم" اللذين عرفوه وآمنوا به. 

   لم يُكتب في الإنجيل بأن أحدهم أراح الرب سوى أُناس قليلون جدًا، ولا بدّ أنهم قريبون جدًا مِن قلبه، فيا ليتنا نُريح الرب وخاصةً في يوم راحته، نريحه بأن نغسل أرجل بعضنا البعض، نتعب مِن أجلهم وأجل خلاصهم: نحمل همومهم ويحملون همومنا، نساعد المحتاج/المُتعبين بكل ما أوتي لنا مِن النعم المادية والروحية والمعنوية، نُخفف مِن حِدّة التجارب، نغفر ونُحب …  

 

لنصلِّ:

   ربي وإلهي … على الصليب وقف إبنك الحبيب بين لصّين، وفي البدء كان كلاهما يُعيِّراه (متى 27: 44، مرقس 15: 32)، ولكن ومن دون أن يُذكر لماذا، ندِم أحد اللّصان ونهر اللص الآخر وآمن بأن إبنك الحبيب هو صاحب الملكوت (لوقا 23: 39)، هو أنت الإله المُتجسّد فادي إسرائيل؛ إجعلني يا رب مِمّن آمنوا فخلصوا بإسم إبنك الحبيب. آمين.

_______________________________________________________________________

1   قرية العيزرية : تقع إلى الشرق من مدينة القدس، على بعد 2كم، على الطريق الرئيسي القدس-أريحا. سميت بهذا الاسم نسبة إلى أليعازر الذي أقامه السيد المسيح من الموت. وقد ذكرها العهد الجديد بإسم (بيت عنيا)، وأصله آرامي، ويعني (بيت البؤس). وتقوم على عدة جبال وسهول ووديان، وتبلغ مساحتها حوالي 11179 دونماً.

     المصدر: http://www.alquds-online.org