تأمل من وحي لاهوت القديس غريغوريوس النيصصي
بقلم روبير شعيب
الفاتيكان، الثلاثاء 3 أبريل 2012 (ZENIT.org).
لم يتخل المسيحيون عن التوحيد اليهودي، بل اكتشفوا الغنى الكامن في هذا التوحيد. فالله واحد ولكنه ليس متوحدًا ومستوحشًا، هذا ما أشار إليه الأب واعظ الدار الرسولية في العظة الرابعة للصوم التي تلاها نهار الجمعة 30 مارس 2012 في كابيل "أم الفادي" في الفاتيكان.
موضوع الإيمان وفعل الإيمان
هذا وقد افتتح الأب الكبوشي، رانييرو كانتالامسا، عظته بالحديث عن التمييز الذي أقامه القديس أغسطينوس بين الوقائع التي نؤمن بها (fides quae) وفعل الإيمان بحد ذاته (fides qua). فالأولى تشير إلى الإيمان الموضوعي، أما الثانية فتشير إلى فعل الإيمان الفردية. وقد كان هذا التمييز وراء نوع من انقسام بين التوجهات اللاهوتية، فهناك من ركز على فعل الإيمان كفعل يتوجه نحو "أحد ما" وبالتالي كـ "إيمان بـ"، وقسم آخر يتوجه نحو أمر ما، وبالتالي كـ "إيمان بأن".
سجل تاريخ اللاهوت هذه المفارقة فظهرت على سبيل المثال في اختلاف لاهوت القديس توما الأكويني عن لاهوت القديس بونافنتورا، أو في اختلاف لاهوت مارتن لوثر عن لاهوت المجمع التريدنتيني، أو في اختلاف فكر إيمانويل كانط عن تفكير شلايرماخر.
يسعى اللاهوت الكاثوليكي المعاصر إلى تخطي هذه الازدواجية وإلى إيجاد نوع من التوازن والاعتدال بين هذين البعدين من فعل الإيمان الواحد. فقد تم تخطي المرحلة التي، لأسباب جدلية، تم ربط فعل الإيمان بالبعد الموضوعي. يظهر فعل الإيمان اليوم، بحسب تعريف قاموس لاهوتي هام كـ "اكتشاف للـ ’أنت‘ الإلهي".
لقد تم تخطي "اللاهوت الدفاعي" الذي يسعى إلى البرهان عن شيء ما، وتم إفساح المجال للاهوت "التربية على الخبرة الروحية" الذي يهدف إلى التنشئة على الخبرة المسيحية". وعليه بدل الركون إلى قوة الحجج المنطقية الخارجة عن الشخص، يتم التركيز على البعد الشخصي الذي يتوق إلى إيقاظ البعد الداخلي، من خلال محاكاة "القلب المضطرب" في كل إنسان على صورة الله ومثاله.
لقد كان القديس غريغوريوس النيصصي، شقيق القديس باسيليوس، معلمًا في الاختبار الروحي لله، فهو مؤسس اللاهوت الصوفي الأكبر. لقد كانت المشاكل والتحديات التي واجهها الآباء مختلفة عن مشاكلنا: فبدل مسألة وجود الله ، كان التحدي الذي اضطروا إلى مواجهته هو مسألة وحدانية الله؛ ولم يكن عليهم أن يواجهوا مشكلة الإلحاد المعاصرة، بل مشكلة تعدد الآلهة في العالم الوثني القديم. إلا أن جهودهم ما زالت آنية بالنسبة لنا. كان المسيحيون، مثلاً، يقولون قبلاً في قانون الإيمان: "أؤمن بالله"، ولكن للتشديد على التوحيد المسيحي، أضاف آباء الكنيسة صفة توضيحية لن تغيب بعد القرن الرابع من اعتراف الإيمان وهي: "أؤمن بإله واحد".
في شأن الوحدة في الجوهر الإلهي، هناك اختلاف بسيط بين اللاتين واليونان. فالأولون يعتبرون الوحدة كواقع سابق للأقانيم. يشددون، بكلمات أخرى، على وحدانية الله قبل الحديث عن الأقانيم. أما اليونان فيعتبرون الطبيعة انطلاقًا من الأقانيم. وحدانية الله بالنسبة لليونان هي متشربة بالبعد الشخصاني (الأقنومي).
فعل الإيمان، بالنسبة لليونان يبدأ بهذا الإعتراف الذي لا فصل فيه: "أؤمن بإله واحد آب". بالنسبة لغريغوريوس النيصصي، وحدانية الثالوث الأقدس تنبع من أن الابن هو متحد بشكل كامل جوهريًا بالآب، وكذلك الروح القدس في الابن.
لم يتخل المسيحيون عن التوحيد اليهودي، بل اكتشفوا الغنى الكامن في هذا التوحيد. فالله واحد ولكنه ليس متوحدًا ومستوحشًا.
السبيل الصوفي إلى الله
ما يميز لاهوت القديس غريغوريوس هو أنه عرف كيف أن السبيل إلى معرفة الله يمر من خلال "اللامعرفة". كانت فرصة التفكير لغريغوريوس عندما واجه الهرطوقي أونوميوس الذي كان يعتبر أننا نستطيع أن نعرف الله بالقدر عينه الذي يستطيع الله أن يعرف نفسه.
أم القديس الكابادوكي، فقد كان مدافعًا عن تسامي الله وعن تجاوزه لقدرتنا على فهمه. يقدم في هذا الصدد قراءة صوفية لخبرة موسى لله في الغمامة. "يظهر الله لموسى في المقام الأول في النور، وبعد ذلك يخاطبه من الغمامة، وفي الختام، عندما يضحي موسى كاملاً يتأمل الله في الظلمة. العبور من الظلمة إلى النور هو مسيرة الانتقال من الأفكار المغلوطة عن الله؛ فهم الوقائع الخفية، الذي يقود النفس من المرئي إلى اللامرئي، هو مثل غمامة تُظلم كل ما هو ملموس وتعوّد النفس على تأمل ما هو خفي؛ وأخيرًا، النفس التي سارت في هذه الدرب نحو الوقائع الإلهية، تترك ما هو مخلوق، لتلج في مقدس المعرفة الإلهية، محاطةً بالظلمة الإلهية".
معرفة الله الحقة تتم من خلال معرفة أنه غير مرئي، لأن ذلك الذي تبحث النفس عنه يفوق كل معرفة. معرفة الله تتم من خلال "شعور حضور". شعور لا يمر من خلال حواس الجسد، بل من خلال القلب الباطني. هذا الشعور ليس تجاوزًا للإيمان بل هو تحقيق أكمل له.
هذه الأمور التي أشرنا إليها باقتضاب قد أسهمت في اعتبار النيصصي مؤسس اللاهوت الصوفي.