العنصرة وضمانات الروح القدس

 

بقلم الاب الياس شخطورة الأنطوني

روما، الجمعة ٢٥ مايو ٢٠١٢ (ZENIT.org).

لقد مضى ستّون يوما على قيامة المسيح من بين الأموات وعشرة أيام على صعوده الى السماء وجلوسه عن يمين الآب. خلال هذه الفترة الفصحية العصيبة، حاول التلاميذ استيعاب وفهم حقيقة قيامة المسيح بعد أن ظهر لهم مرات عدة، ومع ذلك لم يكن سهلا عليه نزع الشك من قلوبهم وضمائرهم والتأكيد على أنه هو القائم من الموت باللحم والدم، كيما يتأهلوا لقبول قوة الآب الخفية، ألا وهي الروح القدس.

يأتي كلام المسيح الذي يلقى على مسامعنا بُعَيد سؤال فيليبس له "أرنا الآب"، فيجيبه يسوع "من رآني رأى الأب". حاجة فيليبس كانت واضحة ومُلحّة لمعرفة الآب قبل إبتعاد المسيح عن تلاميذه، فهي لا تحمل في طياتها استفسارا بقدر ما هي بحاجة الى تلمّس حضور الآب فعليا وعمليا. لم يخطأ فيليبس في طرح السوال إنما برهن عن نقص في تمييز ما نتج عن كلام وأعمال يسوع ومدى ترابطها بعمل الآب وحضوره.

في رسالته الأولى، يوضح يوحنا مدى قوة ترابط الكلمة المتجسد بالآب "ذاك الذي كان منذ البدء ذاك الذي سمعناه ذاك الذي رأيناه بعينينا ذاك الذي تأملناه ولمسته يدانا من كلمة الحياة"، فالآب إذا تجلى كاملا في شخص المسيح، وكلام المسيح هو كلام الآب وأعماله مصدرها الآب الذي يعمل فيه ومن خلاله، كما يشهد المسيح على ذاته " إن الكلام الذي أقوله لكم لا أقوله من عندي بل الآب المقيم فيَّ يعمل أعماله"، ويؤكد على ذلك بولس في رسالته الى أهل قولسّي بقوله "فقد حسن لدى الله أن يحل به الكمال كله".

ها إن المسيح يُعدّ الطريق للرسل ويهيأهم لقبول القوة الناطقة باسمه، الروح القدس، فهو سيتركهم في العالم كي يكونوا شهودا على قيامته ويحملوها للبشرية جمعاء. إن كانت أعمالهم تُجترح باسمه فستكون مقبولة ومستجابة، هو من سيعمل معهم وفيهم بواسطة الروح القدس للتَصديق على شهادتهم ولإظهار حضور الآب. من يعملُ بكلام الرب وتعليمه، يحيطه بنعمه ويعزيه بهبات الروح القدس الحال فيه، والدليل على ذلك ما وعد به المسيح تلاميذه قبل مغادرته، بضمانات عملية لحياتهم، لجهادهم ولرسالتهم في هذه الدنيا وفي الآخرة:

"لن أدعكم يتامى"،

"في بيت أبي منازل كثيرة"،

"أرجع فآخذكم إلي لتكونوا أنتم أيضا حيث أنا أكون"،

"إنكم في ذلك اليوم تعرفون أني في أبي وأنكم في وأني فيكم"،

"ولكن المؤيد، الروح القدس الذي يرسله الآب باسمي هو يعلمكم جميع الأشياء ويذكركم جميع ما قلته لكم".

هذه الهبات الإلهية أهي معطاة لكل انسان؟ في خطابه عن قيامة المسيح يقول يوحنا فم الذهب "مِن طَبْع الهبات السماوية أنها لا تُوزع بحسب شرف المقام بل بحسب عواطف القلب". فالروح القدس يستجيب صلاة ودعاء القلب المنكسر والمطواع لحب الرب ووصاياه. إن فكر العالم مأخوذ بالمادة والمقامات العالية دون إعطاء الأولوية لعمل الثالوث الاقدس، ما يناقض فكر روح الآب الذي يبحث عن مصداقية وإيمان المتواضع في عيشه لتعليمه، الذي يضمن لِذاته حياة سعادة في هذه الدنيا وفي الآخرة، فيكون من جماعة الله المُخلَّصة والمُتحلية بالرداء الروحي المُقدس، على حدِّ قول القديس بولس في رسالته الى أهل غلاطية "أنتم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح"، فيعيشون أبدا في غبطة الروح وفرح القيامة.

وَعدُ المسيح الكلامي يُترجمه عمليا الروح القدس، المعزي والحاضر دائما الى جنب من هو بحاجة الى سند وعضد، هو روح الحق الذي يحمل الى ضمائر من يقبلونه الحقيقة الإلهية، ما يؤكده يوحنا في رسالته الثانية " الحق مقيم فينا وسيكون معنا للأبد"، فيولّد في المؤمن طاعة وشوقا للحق في المسيح، وهو ما ترفضه واقعيا الذهنية العالمية والمادية، لأنها تجعل من ذاتها محورا أساسيا تبني عليه غايتها وأهدافها. يدفع الروح القدس الجماعة المؤمنة الى تبني الحقيقة والعمل فيها ودائما، دون خوف وتردد، فمن خلال قوته تعمل الجماعة جاهداً على تخطي أي حاجز يعرقل نموها الإنساني والروحي معا.

ما تحمله العنصرة من جديد هو التنوع والتجدد في أفراد الجماعة من خلال حلول الروح القدس عليهم، فهوالذي يعمل على توسيع آفاق ودروب العمل والشهادة لهم فتبقى ناره متّقدة في قلوبهم وضمائرهم وهادية لسبلهم.

يُعرّفنا الرب يسوع بكلامه اليوم على الضمانات التي يقدمها لنا روحه القدوس، في حياتنا العملية، الإنسانية والروحية، ويَكمُل دوره في إعداد الملكوت لخائفيه والعاملين بأمانة بكلام الرب والشاهدين قولا وفعلا على حضوره في حياة الإنسان والعالم.